الرواية المستبعدة

الاثنين 2019/04/01
لوحة: محمد ظاظا

منذ بدايات القرن العشرين، وبالتحديد في فاتحة القرن 1900 تماما، نشأت سلسلة روايات تحت عنوان “الروايات العالمية”، وكانت هذه السلسلة تنشر روايات “معربة” وليست “مترجمة”، أي أن الروايات المعرّبة من الممكن أن يتم التعديل فيها بشكل واسع، وكانت هذه الروايات المعرّبة مجالا واسعا لكي يشارك ناقلها في التأليف مع المؤلف الأجنبي الأصلي، وأشاع البعض آنذاك أن ناقل الرواية العربي كان من الممكن أن يغيّر كافة الملامح التي تحملها الرواية، حتى يعطيها نكهة عربية، ومن ثم نشأ مؤلف عربي في الظل، وكانت معظم هذه الروايات روايات بوليسية.

ومن المدهش أن الذي بدأ هذه الطريقة كان الشاعر خليل مطران، فله رواية معرّبة “مجهولة وفي حوزتي” نشرها عام 1894 عندما كان يعمل محررا في جريدة الأهرام، عندما كانت في الإسكندرية، وكانت الرواية لا تحمل اسم مؤلف، وكان عنوانها “الانتقام”، وهى رواية تدور في أجواء بوليسية بامتياز، وقدّم مطران الرواية ببضعة أبيات شعرية موزونة ومقفاة، وبالتأكيد هذه الأبيات كانت من تأليفه، وليست معرّبة أو مترجمة، ومسألة تجهيل المؤلف الأصلي كانت عادة منتشرة لأكثر من ثلاثة أو أربعة عقود، ويقيني أن هذه الروايات “البوليسية” لم يكن لها أصل أجنبي، ولكنها بالتأكيد متأثرة بالروايات الأجنبية البوليسية، وكان هناك ثمة حرج يحيط بالمؤلفين المصريين، فيحاولون وصف أو وصم ما يكتبونه بالمعرّب أو المترجم.

ومذكرات الكاتب المثير والمدهش حافظ نجيب، والتي كتبها قبل رحيله مباشرة عام 1946، أفادنا من خلالها كثيرًا عندما قال كلامًا كثيرًا حول هذه الطريقة، وقال بأن معظم الروايات البوليسية التي كان ينشرها كانت من تأليفه، وهى روايات ممتازة، وبعضها كانت تحمل أسماء مؤلفين، وهناك ثمة حكاية أخرى يحكيها محمد دكروب فى كتابه “وجوه لا تغيب” عن صديقه الكاتب والمترجم محمد عيتاني فحواها أن دارا للنشر كلّفته بأن يترجم عشر قصص هندية بوليسية، واشترطت أن تصل عدد صفحات الكتاب إلى 100 صفحة، وبالفعل وجد ما يترجمه، ولكنّه وجد تسع قصص فقط، ولم يستطع أن يكمل المائة صفحة، وعندما سأل محمد دكروب أن يساعده في العثور على قصة لم يستطع، وفى الصباح أبلغ عيتاني صديقه بأنه استطاع أن يتغلّب على هذه المشكلة، وراح ليؤلّف قصّة بوليسية، ووضع فيها سرقات وحبك قصة بوليسية وزعم بأنها مترجمة، وتم قبول القصص ونشرها، وضمّنها القصة المؤلفة، وأعتقد أن المؤلفين العرب استطاعوا أن يدمجوا التأليف بالترجمة بدرجات قصوى.

وعندما نعود لحافظ نجيب سنجد بأنه نشر كتبا مؤلفة وبوليسية، وزعم أنها مترجمة عن الفرنسية مرة، وعن الإنكليزية مرة أخرى، ولأن السلطات المتعاقبة في عقود العشرينات والثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين كانت تطارده دوما، فكان يكتب على هذه الإصدارات اسم زوجته “وسيلة محمد”، ولم تكن معظم هذه المترجمات/المؤلفات روايات بوليسية أو غير بوليسية، ولكن كانت هناك بعض الكتب في الفلسفة والتاريخ.

وكان انتشار الروايات البوليسية مجهولة المؤلف الأصلي الأجنبي ظاهرة سائدة في الحياة الثقافية، وكانت تجد رواجًا كبيرًا في التوزيع والمتابعة حتى لو كانت الصحافة تتجاهل الإخبار النقدي عنها، ولكن كانت هناك مجلة تصدر منذ عشرينات القرن الماضي اسمها “الروايات المصوّرة” كانت تنشر روايات بوليسية مسلسلة، وكانت توزع أعدادًا مهولة، ولم تكن هناك علاقة بين جمهور هذه المطبوعات والثقافة الرصينة التي تصدر عن كتّاب كبار مثل العقاد وطه حسين ومحمد حسين هيكل وغيرهم، ومن هنا ما زالت الرواية البوليسية مستهجنة ومستبعدة رغم أن كثيرا من الكتّاب الروائيين المصريين نشأت ثقافاتهم على ما كانت تصدره دار الجيب من روايات عن طرزان وروكامبول وأرسين لوبين.

وللأسف هناك ظاهرة استهجان الروايات البوليسية أو استبعادها، في الوقت الذي تجد هذه الروايات سوقا رائجة بامتياز، وليس سرّا أن كتّابا من جيل التسعينات في القرن الماضي، وهم بالتحديد مصطفى ذكري ومنتصر القفاش ومي التلمساني ونورا أمين، وكانوا يشكلوا جماعة نوعية بين أبناء جيلهم، قرروا أن يكتبوا روايات بوليسية، وبالفعل كتبوا هذا النوع لبعض الوقت، خاصة مصطفى ذكري، ولكن مشروعهم انكسر على صخرة الاستهجان القوية لأن معظم النقاد ينظرون إلى هذا النوع من الروايات على أنه أدب خفيف أو تافه، مهما زعموا غير ذلك، ولم نعثر على دراسات جادة من نقاد لهم وزن فكرى تهتم بهذا المجال، ولكنني أعتقد أن المستقبل سيحمل رياحا إبداعية لهذا النوع من الروايات ستجبر النقاد والباحثين على متابعته والاهتمام به.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.