الرواية تتقدم على الشعر

الأحد 2020/11/01
لوحة: سمان خوام

أن تحوز الأميركية لويز غلوك جائزة نوبل فهذا لا يعني أنها الأفضل، فكم من شاعر وشاعرة قبلها نالوا هذا الشرف دون استحقاق (جوزيف برودسكي، فيسلافا شمبورسكا، فضلا عن مؤلف الأغاني بوب ديلان على سبيل الذّكر لا الحصر). وأن تسند لجنة نوبل جائزتها إلى شاعر أو شاعرة فلا يعني أنها تكرّس طغيان جنس على آخر، وأنّها سوف تعدّل خيارات الكتّاب كي يقلعوا عمّا بين أيديهم ويهبّوا إلى الشعر، فهي عادة ما تتوّج مغمورين وكأنها تستخف بإجماع العالم على كتّاب وشعراء حقيقيين، بل إن بعض أعضائها صرّحوا علانية أن اللجنة تتجنب الأسماء المتوقَّعة، ذات الشهرة الواسعة. أي أن لها اعتبارات بعيدة عن الأدب في أغلب الأوقات، وبالتالي لا يمكن أن تكون مقياسا لحكمنا على الشعر ومدى حضوره مستقبلا.

إن ملاحظة جابر عصفور تنطبق أكثر ما تنطبق على الساحة العربية، التي تشهد إقبالا منقطع النظير على الأدب الروائي، أما في الغرب فالرواية لا تزال في المقام الأول منذ ظهورها، وهي التي ترصد لها الجوائز أكثر من سواها. ورغم ما يندّ بين الحين والآخر من أصوات تتنبأ بنهايتها، فهي لا تني تتكاثر في شتى أصقاع المعمورة، في أشكال مستحدثة أحيانا كالواقعية التخييلية والرواية السيرذاتية ورواية الخيال العلمي بوجهيها الاستباقي والديستوبي. والقول بموتها لا يعدو أن يكون سوى استعادة لما واجهته من نقد راديكالي عند ظهور الرواية الجديدة في فرنسا، حين أعلن دعاتها عن موت الرواية وموت المؤلف معا. ثم اختفى تيار الرواية الجديدة باختفاء رموزها ولم تمت الرواية، بل نهضت من رماد تلك الحقبة لتعانق العالم برؤية جديدة.

الشيء نفسه حدث في الولايات المتحدة في المرحلة ذاتها، عندما ظهر إنتاج روائي يخالف الذائقة السائدة، اعتمد ما أسماه النقاد “ميتاخيالي”، أي تشويش الحدود بين التخييل والسيرة الذاتية. وكان في جملته أدبا استفاد من تيار الرواية الجديدة في فرنسا، من حيث تمرّدها على الرواية الكلاسيكية واقتراحها رؤية مغايرة. ورغم ظهور أسماء أمثال جاك كيرواك ووليم بوروز وجون بارث، فإن عناوين بعض الصفحات الثقافية كانت لا تنفك تنعى موت الرواية الوشيك. وقد رأى المؤرخون في ذلك تعبيرًا عن نوستالجيا نقاد تعلقوا بتقاليد أدبية معينة مثّلها جيل العمالقة، ورفضًا لتصور جديد للأدب الروائي ومِراسه.

لقد وصل الشعر إلى مأزق حقيقي، رغم تزايد الشعراء، لأن ما يكتب اليوم في عمومه تغلب عليه النمطية ورغبة إحداث الدهشة على منوال النكت التي تراوغ انتظار المستمع، وشيوع قصيدة النثر بشكل أطمع كثيرا من ضعاف الموهبة، وخلق فوضى عارمة يتجاور فيها الجيّد والرديء، خاصة بعد ظهور المواقع الاجتماعية، إضافة إلى انسياق شعراء كثر في تيار جرف كل راغب في الظهور، بعد أن اجتاح الساحة العربية في الأعوام الأخيرة هوس الرواية، كمطية لإثبات الذات وتحقيق مكانة لم يبلغها بكتابة الشعر. وأضحت كتابة الرواية مطمح الجميع، لاسيما في هذه المرحلة التي تقلص فيه عدد قرّاء الشعر في العالم، نتيجة عوامل كثيرة أهمّها طغيان الأدب السرديّ دون شكّ، ومنافسة المحامل الإلكترونية أيضا.

لا نشكّ أن ثمة اليوم حاجة ملحّة إلى الحس والمعنى، وإذا كانت الرواية قادرة على تصوير العالم وتحليل عناصره، فإن الشعر أقدر على التقاط الجمال فيه. فالشعر باق ما بقي الإنسان، وكذا الرواية، ولكن لا نعتقد أنه سيزيح الأدب السردي من موقعه، لأن مدمني الحكي وسماعه يفوق شُداة الشعر وهواته.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.