الرواية شعر مكتوب بالنّثر
أحدثَ، الرّوائي التشيلي روبيرتو بولانيّو (1953 – 2003) قطيعة نهائيّة مع أدب الواقعيّة السِّحرية، فالمنفى الذي اختاره لنفسه منذ مغادرته التشيلي رفقة أفراد عائلته عقب انقلاب الجنرال بينوشيه على حكومة سالفادور أليندي الديمقراطيّة سنة 1973، بعد أن تعرض للمضايقات ثم السجن، شكل بالنسبة إليه دافعًا لاختيار المنفى، والانفتاح على الأدب العالميّ، واستجلاء التجارب الأدبيّة الإنسانيّة التي مهدت الطريق لجيل روائيّ جديد، فاتخذَ لنفسه خيار السّير على درب التجريب دون مُحاكاة “الواقعيّة السِّحرية” ومُمَاثَلتها، حين أوجد، رفقة روائييّن آخرين تيارًا أدبيًا سُمى بتِّيّار “الواقعيّة التَّحتيّة” (أو ما دون الواقعيّة، وقد امتدت إلى غاية سنة 1977)، دعَا أنصاره إلى جعل الشِّعر يهتم بالهوامش والعوالم السُفليّة، وحيوات أولئك الذين لا يُبالي بهم أحد، والتخلي عن كل شيء في الحياة من أجل الأدب. ثم تحوّل إلى ما يسمى بـ”الواقعيّة العميقة” (حين نشر روايته الشهيرة “رجال التحرّي المتوحِّشون”) التي تعدُّ بدورها قطيعة إبداعيّة أخرى مع أدب “الواقعيّة السِّحرية”.
ليس من الغريب أنّ بولانيّو، الابن الزمنيّ لنهاية “البوم الأدبيّ” وبداية المرحلة التّالية لها، كان تروتسكيًا أراد المشاركة في بناء موطنه الأصليّ بعدما فاز سالفادور أليندي بالانتخابات الديمقراطيّة، وأنّه بقي اشتراكيًا حتى وفاته. ليس من الغريب أيضًا أن يكون أبناء جيله، الّذين أسّس بعضهم حركة “الواقعيّة التحتيّة”، ملتزمين سياسيًا. لكن من الأهميّة بمكان إدراك الفرق بين التزام جيل “البوم” السياسيّ، والتزام الجيل اللاحق – جيل بولانيّو – السياسيّ، ففي حين عاصر أدباء جيل “البوم” بدايات المشاريع الثّورية، وكلّهم أمل في حلول مستقبل مشرق، عاصرَ جيل بولانيّو في سنوات مراهقته الكوارث التي حلّت بهذه المشاريع الثّورية في ما بعد. فالحزب الثوري المؤسساتي تسبب بمذبحة طُلاب “تلالتيلولكو” في مدينة مكسيكو عام 1968، وغرقت التِّيّارات اليساريّة المختلفة في صراعات دموية حصدت أرواح الكثيرين، من بينهم الشاعر السلفادوريّ روكيه دالتون الذي كان صديقاً لبولانيّو، والذي قتله، أثناء نومه، أحد أعضاء جيش الثورة الشعبيّ الذي كان ينتمي إليه. مع ذلك، حافظ أبناء جيل بولانيّو على إيمانهم بجدوى العمل السياسيّ، وانتمت أغلبيتهم الساحقة إلى هذا التِّيّار اليساريّ أو ذاك (1). في 1967، وقف بولانيّو بشعره الأشعث على طريقة “الهيبيّ” الأميركييّن، يُلقي “مانيفستو” حركة “ما دون الواقعيّة”، يحث فيه الشعراء على التخلّي عن كل شيء لأجل الأدب. وقال إنّ الشاعر الحقيقيّ يتوجب عليه أن يترك المقهى، وأن ينضم إلى “الصيادين، ورعاة البقر المنطوين (…) وزبائن البقالات المبصوق عليهم… وأولئك الذين لا ينتبه إليهم أحد، والآخرين الذين لا يحبهم أحد”. وقد التزمت هذه الحركة الأدبيّة – كما فعلت السورياليّة في بداياتها – برفض فصل العمل الفنيّ عن الفعل الثوريّ (2).
تألّفت هذه الحركة الأدبيّة من مجموعة من الصعاليك والمتسولين والشحاذين وأصحاب الطموح الأدبيّ، الّذين انشغلوا بكتابة أدب مغاير تمامًا للأدب المعاصر وقتذاك، قالبًا ومضمونًا. وكانوا يذهبون إلى الجلسات الشعرية ليقاطعوا الشعراء من أعدائهم بقراءة قصائدهم هم بصوتٍ عال. ويقال إن أحدهم رمى كأس نبيذ في وجه أوكتافيو باث ذات مرة. وإن كان لأعدائهم من الشّعراء والأدباء شيء مشترك، فقد كان مساندتهم لحكومة الحزب الثوري المؤسساتي، التي يُقال إنها كانت تُكافئ مسانديها من الأدباء والمفكرين بالصيت والمال. ولم يغيّر بولانيّو من مواقفه هذه يومًا بل ادّعى أكثر من مرة أن حركة الواقعية السحرية “عفنة”، وأن إيزابيل أليندي “ليست كاتبة وإنما آلة كاتبة”، وأن باولو كويلو “كساحرٍ مشعوذ في المسلسلات الرخيصة”. وقالت مترجمته ناتاشا ويمر عنه “لقد كان رفض امتهان الشعر بالنسبة إلى بولانيّو ورفاقه أسلوبهم في أخذ الشّعر على محمل الجد – والعكس بالعكس – وكان بولانيّو يحب أن يقول إنّ: المؤلف لو عاش ما يكتبه روحًا لشعر قارئه بضرورة عيشه أيضًا” (3).
وبخصوص التّقليد والتّجديد، يقول بولانيّو في حوار مع الشاعرة المكسيكيّة كارمن بولوسا ما يلي “الأدب الأميركيّ اللاّتيني في القرن العشرين اتبع بواعث المُحاكاة والتمرد، وقد يستمر في فعل ذلك لبعض الوقت في القرن الحادي والعشرين. وكقاعدة عامة، فإنّ البشر إما يقلدون أو يرفضون الآثار الكبرى، ولا يلتفتون للكنوز الصغيرة، يكادون لا يرونها. لدينا عدد قليل جدًا، يكاد يكون منعدمًا، من الكتاب الذين أجادوا صنعة الفانتازيا بمعناها الدقيق، لأن التخلف الاقتصادي – إلى جانب أسباب أخرى – لا يسمح بازدهار الاتجاهات الفنية والأدبيّة الفرعيّة. التخلف لا يحتمل غير الأعمال الأدبيّة العظيمة، الأعمال الأقل، في هذا المشهد الكارثيّ الرتيب، هي رفاهية بعيدة المنال”.
لهذا يُعدّ بولانيّو حاليًا أحد أكثر المؤلفين اهتمامًا ودراسةً في الأدب اللاّتينو – أميركيّ المُعاصر. بحيث تشهد أعماله على ممارسة الكتابة الأدبيّة للتعبير عن القلق والشعور الدائم باللاّطمأنينة وهو يرافقه أين ما حلّ في ترحاله، كما تعتبر رديفا إبداعيًا لمقاربة قضايا الإنسان المعاصر بعيدا عن الانغلاق في المحليّة.
تتميز جميع أعماله بحضور شخصيّات، من الفنّانين أو الشعراء الّذين يكتشفون عوالم الكتابة، ويتحاورون مع أفكار الكُتاب والرِّوائييّن عبر العصور، فيستحضرون نظريات النّقد الأدبيّ ويناقشونها (رواية 2666)، ويتوغلون في تاريخ أوروبا المُخيف، ويستحضرون جرائم النّازية (رواية “الرايخ الثالث”)، وغيرها (4).
كتابة بولانيّو الأدبيّة، تعني أيضا فعل تعقُب واستجلاء أمكنة الشّر الّذي ميّز القرن العشرين برمته، وسكن الإنسان الحديث الذي اخترع أيديولوجيّات الإبادة والقتل والتصفيّة من أوشفيتز إلى الغولاغ. هذا الاستجلاء يتضمن النصوص الرّوائية التي يخصّصها للدِّكتاتوريّة في بلده، وبالأخص رواية “ليل التشيلي” التي قالت عنها النّاقدة سوزان سونتاج بأنّها رواية “كُتبت لتحتل مكانة عالميّة في الأدب الإنسانيّ”. كما يتضمن رواية “رجال التحرّي المتَوحِّشون” (الّتي وصفها النقاد بأنها “صفعة تاريخيّة هائلة لحجلة كورتاثار”)، والّتي خصّصها لدولة المكسيك المُعاصرة التي قضى فيها جزءا كبيرا من شبابه قبل أن يغادرها نحو إسبانيا. لتقع أعماله لاحقًا في قلب تاريخ أوروبا المعاصر، كما هو الحال في روايته “الرايخ الثالث”.
منذ ولوجه فضاء الآداب الإسبانيّة في عام 1996، شاعرًا، ثم قاصًا، كتبَ بولانيّو تسع روايات. أثار انتباه النُقاد عالميًا، ليس فقط من خلال جودة أعماله الرّوائيّة وقيمتها الفنّية، بل حتى بفضل نزعته الفكرية التي تَعبُر رواياته. لكن بشكل خاص من خلال الجرأة والحرية التعبيريّة التي يكتب بها. فمنذ روايته الأولى سنة 1984 “دروب الفيلة”(La senda de los elefantes)، أوجد لنفسه مكانة مميزة في الفضاء الرّوائي اللاّتينو – أميركيّ، باعتباره سَاردًا بارعًا، وسيِّدًا يعرف كيف يمسك بزمام نصه، بفضل قُدرته على تقديم سرد يسير جنبًا لجنب مع المعرفة والتّاريخ. فقدم أدبًا يسحر بقدر ما يُزعج. فكان نصه، الرافض للامتثال، سَاخرا ومُرعبا في الوقت ذاته.
نحن بعيدون في روايات بولانيّو التي يُقدمها وفق طريقة “الكتابة الأدبيّة البوليسيّة”، عن تلك المُمارسات الكتابيّة الراسخة ذات التّقاليد الكلاسيكيّة لنوع أدب التحرّي البوليسيّ. فالتّحقيقات الموجودة في رواياته لا تفضي إلى أيّ نتائج. وينتقل هذا الإخفاق في التحرّي من رواية إلى أخرى. وفي بعض الأحيان، تظهر الشخصيّات وتختفي وتعاود الظهور مجددا وتتنكر باعتماد هُويّات مُزيفة. مع ذلك، فإنّ الألغاز تبقى قائمة، بل تصبح أكثر كثافة كلما تقدمت الرّواية (5).
يرى آنس الحورني عن عالم روبرتو بولانيو الأدبي و”رجال التحرّي المتوحشون” (مجلة “حبر” الإلكترونية.. أبريل 2017.) أنّ شخصيتي أرتورو بيلانو (وهذا اسم روبيرتو بولانيو المُستعار) وعوليس ليما (اسم ماريو سانتياغو في أعمال بولانيّو) اللتَين تظهران في روايتي “رجال التحرّي المتوحِّشون”، و”تعويذة”، بالإضافة إلى العديد من القصائد والقصص القصيرة والرِّوايات الأخرى. أو خذوا شخصية أوكسيليو لاكوتور، التي تظهر لوقتٍ قصير في رواية “رجال التحرّي المتوحشون”، لتعاود الظهور في رواية “تعويذة”، المُخصصة بالكامل لها، أو شخصيتا “روزا أمالفيتانو” و”أوسكار أمالفيتانو” اللتان تظهران في رواية ” 2666″، ثم تعاودان الظهور في “مآسي الشرطي الحقيقي” (2011)، أو شخصية راميريث هوفمان اليمينية المتطرفة، وموضوعَ باب “راميريث هوفمان سيء السمعة” في موسوعة الأدب النازيّ في الأميركيتين الخيالية، والتي تعاود الظهور كشخصية رئيسية وباسم ألبرتو لويث – تاغل في “نجمة بعيدة”. ويضيف الحوراني “القائمة تطول، وعالم بولانيّو معقد ومليء بالشخصيات المتشابكة والمتبادلة، الأمرُ الذي يجعل قراءة مجموع أعماله كمشروع أدبيّ موحّد خيارًا صائبًا وضروريًا. وليس من الغريب أن أكثر هذه الشخصيات مستوحى من حياة بولانيو نفسه”.
هناك من النّقاد من يقارن بين كتابات بولانيّو ونصوص خورخي لويس بورخيس أو خوليو كورتاثار، أو القاص الأميركيّ إدغار آلان بو، وهي كتابة إما تغري القارئ، وتجذبه إليها، أو تملأه بالارتباك، وتجعله يشعر بما يشبه النفور منها، بسبب رفض الرَّاوي، وبشكل مُتعمد إعطاء تفسير لما يحدث من حوله. هذه المهمة متروكة للقارئ. وهذا جزء من تقاليد أدبيّة عريقة انتشرت في الرّواية اللاّتينو – أميركيّة منذ خوان كارلوس أونتي، وإلى غاية في أعمال روائييّ “البوم” الأدبيّ.
يتساءل قارئ أعمال بولانيّو ما إذا كان ما يقرأه مرتبطا فعلا برواية بوليسيّة أو برواية غامضة، أو أنّها أيّ شيء آخر مختلف تمامًا. إنّ الغموض الذي يكتنف رواياته، والذي يقترب كثيرا من غُموض الكاتب الأميركيّ إدغار آلان بو (بالأخص في روايته “دروب الفيلة”)، هو الَّذي يُسبب كل هذا الشك. أكثر من ذلك، فالمؤلف نفسه يستمتع بالحديث عنها، ويذهب إلى حد التنبؤ بما سوف يقوله النّقاد بشأنها، مثلما نجد في رواية “2666”. يقول بولانيّو عن هذا الموضوع “أنا أحب الرِّواية البوليسيّة. لكن، لا أتفق مع القاعدة الكلاسيكيّة لهذه الرِّواية التي تقوم على الرَّاوي – فك الشفرة – القارئ – القراءة”. هذا الرفض الصريح لواحد من المعايير الأساسيّة لأدب التّحري الكلاسيكيّ، جعل وظيفة الرَّاوي تقتصر على اقتراح فكرة حل الغز، ونقل فك تشفيره إلى القارئ.
لذا يقدم بولانيّو نظرته للرّواية البوليسيّة على الشكل التّالي، ووفق ما جاء في أحد حواراته “تسعى الرِّواية البوليسيّة الجيّدة، من بين أشياء أخرى، أن تجعل القارئ يؤدي دور مفكك الشفرات. لذلك تقترح عليه جميع العناصر (في شكل مبعثر، فوضوي) حتى يتمكن من إعادة ترتيبها وفهمها، وفي الأخير تهنئة نفسه على النتيجة التي يتوصل إليها. سيسمح له ذلك بالقبض على القاتل وفهم متى وكيف ولماذا تم ارتكاب الجريمة”.
عالم روائي مليء بالألغاز
يكشف عالم بولانيّو الرّوائي، المليء بالألغاز، والجرائم، والقتلة، والتّحقيقات، عن نقد صارم لمجتمع أميركا اللاّتينيّة المعاصر. تبيّن ذلك منذ أعماله الأولى. بما في ذلك رواية (La Literatura nazi en América)، التي تتكون من ثلاثين سيرة متخيلة للمؤلفين اللاّتينو- أميركييّن الَّذين ارتبطوا بالنّازية، وبعالم الشر. بهذا المعنى، يجسد المؤلف، في جوانب معينة، ما يسمى بأيديولوجيّة “ما بعد الحداثة”، التي تتجلى وتَلوحُ من خلال التّخلي عن التجديد وفكرة التقدم، وعن كل ما دافع عنه الحداثييّن، والعودة إلى أشكال الماضي وتحديثه بعد الشك فيه. يسير هذا الشك في هذه القيم، جنبًا إلى جنب مع خيبة الأمل المرتبطة بالتحوّلات المختلفة التي حدثت منذ السبعينيَّات في أوروبا وأمريكا، عندما بدأ الخطاب يتغير في علاقته بالحداثة المُخيِّبة (6).
هكذا، فإن خيبة الأمل هذه برزت في روايته الشهيرة “2666” التي نشرها سنة 2004، أي بعد رحيله بسنة، وتجلت بالخصوص من خلال عدم قدرة سكان مدينة “سانتا كلارا” على مواجهة المجرمين، تمامًا كما عجز القّس سيبستيان أورتيا لاكروا في رواية “ليل التشيلي” عن مواجهة الدِّكتاتوريّة. كما تُفَسَر عبر الانتقال من خطاب إضفاء الشرعيّة (الرسمي) إلى خطاب شهادة (غير رسمي)، ومن خطاب مُتفائل ومتفجر (ثوري، تحرري) إلى خطاب متشائم ومُخيب للآمال، ومن التمثيل المرئي للواقع إلى التمثيل المشوه له، ضمن ما يسميه جان بودريار بـ”المحاكاة”.
من وجهة نظر اجتماعيّة، تَتميز الشخصيّات في رواية “2666” بكونها تعيش في عزلة تامة وعند الهامش. كما أنّها في حالة تِرحال دائم وعدم استقرار مستمر. تبحث دائمًا عن “الجوهر” والهُويّة لملء فراغها الداخليّ. في هذا الصدد، تقول “فلوريتا ألمادا” في الرِّواية، في شكل مناجاة داخلية: “أنت، وحيد، غريب دائما. ماذا تعني هذه العزلة الهائلة؟ يشير مصطلح “العزلة”/”الوحدة” متعدد العلامات إلى عزلة الشخصيات، في حين أنّ الجوهر يحيل إلى تِرحالهم. تِرحال يظهر بشكل خاص في الفصل المعنون بـLa parte de los críticos حيث انطلق جان كلود بيليتييه وبييرو موريني ومانويل إسبينوزا وليز نورتون في رحلة بحثًا عن الكاتب الألمانيّ الغامض بينو فون أرشيمبولدي، فيسافرون إلى العديد من البلدان، مثل إسبانيا، فرنسا، المكسيك، إنجلترا، ألمانيا، إلخ. فما هو سبب هذا التِرحال؟ هل يمكن أن يُعزى إلى فراغ وجودي فقط؟
ومن منظور سياسيّ، تسود الفوضى في الرِّواية (2666) ولا يبدو أنّ أي زعيم قادر على وضع حدٍ لها. علاوة على ذلك، لم يتم ذكر أي رمز من رموز هذه السلطة. فهي مغيبة تمامًا. ويعني تغيّيبها من المتن الرّوائي، شكل من أشكال النّقد السّياسي. ومثل سيرفانتيس في دون كيشوت الذي غيّب الملك، وجعله غير حاضر، ينتقد بولانيّو عدم كفاءة القادة السّياسيين من خلال تغييبهم من النسيج الرّوائي لـ2666 (7).
أما من وجهة نظر أخلاقيّة، فإنّ الفضيلة لا تُميز المجتمع المكسيكيّ ما بعد الحداثيّ كما عرضه علينا بولانيّو في روايته. فعلى مدى الجزء الرابع من الرِّواية، يصف لنا جرائم القتل المروعة لعدد لا يُحصى من النساء (المراهقات، والفتيات، وكبار السن) وبقائها كجرائم بلا مجرمين معروفين، على شكل جرائم منسية، بلا إدانة من قبل المجتمع المحافظ الغارق في نِفاقه وخوفه. لكنها جرائم تطفو دائما على السطح. وتعكر صفو حياة سكان مدينة “سانتا تيريزا”، تماما كما يُعكر الماضي حياة سكان قرية “كومالا” في رواية “بيدْروا بَارّامو” للمكسيكي خوان رولفو. وتعكس هذه الجرائم وحشية الإنسان، حيث تم اغتصاب و/أو خنق، و/أو تشويه جميع الضّحايا تقريبًا. نفس التواطؤ، ونفس الصمت نجده في رواية “ليل التشيلي”، جراء الجرائم المرتكبة من قبل النظام الدّكتاتوريّ. فالشخصيّة المحورية في الرّواية، وهو القس سيبستيان أورتيا لاكروا، يُحاول “إنقاذ روح الشاعر بابلو نيرودا، بعد أن ظن أنّه “إنسان ملحد”، بدل أن يسير وراءه ويتفاعل مع أفكاره المناهضة للدّكتاتورية.
تفتتح الرِّواية (ليل التشيلي) على لحظة احتضار القس أورتيا لاكروا، وهو في نفس الوقت ناقد أدبيّ وشاعر يحاول، خلال ليلة من الألم، الدفاع عن نفسه من الاتهامات التي يسمعها، والتي ربما ليست سوى تعبير أخير عن ضميره. بينما هو على فراش الموت، يحتضر، يعود سيبستيان أورتيا لاكروا (ويدعى القس ايكاباتشي)، محمومًا إلى ماضيه. فيردد “أنا الآن أموت، لكن لديَّ أشياء كثيرة لم أقلها بعد”. ثم يبوح بأشياء كثيرة. ويبحث في الذكريات عمّا ينصفه، ويفضح الأكاذيب التي نثرها الشاب الهرم لكي يفقده مصداقيته. فهل كانت له مصداقيّة فعلا؟ هذا ما تكشفه لنا باقي أحداث الرّواية، التي نلخصها في القول بأنها رواية الإنسان الذي يعتقد بأنّه على صواب، بينما هو في الواقع ليس سوى رجل “عديم القيم”.
وباقتراب قصّة الرِّواية من حاضرنا، ينزلق الكاهن نحو الجحيم، دون أن يفقد أيًا من جنون العظمة أو العمَى الَّذي أصابه، والَّذي يصل إلى ذروته عندما يقبل إعطاء دروس في الماركسيّة للدّكتاتور بينوشيه، بُغية فتح مداركه وجعله يتعرف أكثر على نوايا أعدائه السّياسيين.
في هذه الرِّواية/القصيدة النثرية، التي تجمع بين الرؤية والغرابة، يُلقي المؤلف الضوء على نصف قرن من تاريخ التشيليّ، ويطرح إحدى الأسئلة التي ظلت تطارده: ما الّذي يمكن أن يفعله الأدب في مواجهة الظلام؟ لقد اختار القس/الشّاعر الصمت عن جرائم الدِّكتاتور، فسار تدريجيًا نحو مزيد من الجُبن والعمَى، وعدم الإنصات لآلام النَّاس من حوله. ذلك هو “ليل التشيلي” الذي ضربت فيه الدّكتاتورية بعنف وقسوة، قابلها جزء من النخبة المثقّفة بالصمت. فالصمت بالنسبة للقس “إيكاباتشي” كان يعني السكينة، فيقول كنتُ “صامتًا في سلام”. لكنه، ومن كثرة توجُسه، يشعر أنه “متّهم”. فيبوح بما يجعله يتخلص من تلك التُهمة (المُتوهمة)، لكن ليس بما يجعله يشعر بالذنب لأنّه وقف إلى جانب الدِّيكتاتور وسانده في انقلابه ضد حكومة أليندي الدّيمقراطيّة. أما في رواية “رجال التحرّي المتوحّشون”، فيخرج أرتور بيلان”، وعوليس ليما، بعد أن أسسَا حركة شعرية تُدعى “الواقعيّة العميقة” في رحلة للبحث عن “ثِساريا تيناخيرو”، الكاتبة الغامضة المختفيّة في صحراء “سُنورا”. يدوم هذا البحث مدة عشرين سنة، من عام 1976 إلى عام 1996.
تدور أحداث القسم الأول من الرِّواية، وعنوانه “مكسيكيون ضائعون في المكسيك”، عام 1975. يسرده “خوان غارثيا ماديرو”، وهو شاعر يبلغ من العمر سبعة عشر عامًا، ويحكي عن ظروف انضمامه إلى حركة أدبيّة يسرق أعضاؤها الكتب من المكتبات، لتمويل نشر مجلتهم الأدبيّة، التي تحمل عنوان “لي هارفي أوزوالد” (قاتل الرئيس الأميركي جون ف. كينيدي يوم الـ22 من نوفمبر 1963)، يتمحور همهم الأدبيّ حول ضرورة ” تغييّر الشِّعر المكسيكيّ”، فيقول “كان وضعنا غير مستديم بين إمبراطوريّة أوكتافيو باث وإمبراطوريّة بابلو نيرودا. أي بين المطرقة والسندان”. أما الجزء الثاني، فيحمل عنوان “رجال التحرّي المتوحّشون”، فتدور أحداثه خلال سنوات منفى مؤسسي تلك الحركة الأدبيّة التي سُميت بـ”الواقعية العميقة”، وهما أرتورو بيلانو وعوليس ليما، بين أعوام 1976 حتى 1996. هذا القسم من الرّواية مليء بالجدل والنقاشات الأدبيّة، ولقاءات مع شخصيات مثقفة من بينها الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث.
أما في القسم الثالث، الذي يحمل عنوان “صحارى سونورا”، فنعود من خلاله إلى عام 1976، عندما يفر غارثيا ماديرو وبائعة الهوى لوبِّ بمساعدة عوليس ليما وأرتورو بيلانو، من رجل شرطة فاسد، للبحث عن ثِساريا تيناخيرو في صحارى سونورا.
تناولت هذه الرِّواية (رجال التحرّي المتوحِّشون) فكرة أنّ الشَّر يبقى مُطلقًا عندما لا يمكن تحديد أسبابه بوضوح. هذا بالذّات ما يفسر سبب عدم اعتبار هذه الرِّواية كرواية بوليسيّة محضة، بالرغم من أنّها تُحيل إلى ذلك من عنوانها. فالكُتّاب الذين يشرحون الأحداث، مثلما يقوم به مؤلفو الرِّوايات البوليسيّة من الكلاسيكيين، أو الّذين يكتبون وفق منطقهم وعقلانيتهم، يقللون من تعقيد الأشياء ويبررونها طوال الوقت. لذا هم مجرد دجالين حسب بولانيّو. فالشر موجود. ولا شيء يمكن أن يجد له حلاً. هذا ما تقوله رواية “رجال التحرّي المتوحِّشون”. فالرِّوائي، حسب بولانيّو لا يشرح الأسباب التي أوجدت الشر. ولا يكمن دوره في تبسيط الحكاية مثلما يفعل كتاب الرّواية البوليسيّة. دوره يتمثل في نقل الواقع. وإيفادِ تعقيداته. وإن كان الأدب الحقيقي مُعقدًا، فذلك راجع لأنّ الواقع في حد ذاته مُعقد. يقول بولانيّو على سبيل السّخرية، أنّ أعظم روائييّ أميركا اللاّتينيّة حاليًا، ليسوا خوان كارلوس أونيتي، أو خوليو كورتاثار، أو خورخي لويس بورخيس، بل إيزابيل أليندي ولويس سيبولْفيدَا، لأنهما يُقدمان أدبًا سهل القراءة، أدبا خاليا من التعقيد. فالكتاب السيء هو كتاب تبسيطيّ. لأنّه ينقل صورة في غاية التبسيط عن العالم.
الرّواية الكُليّة
لا يوجد شيء اسمه البساطة في روايات بولانيّو. فهي روايات ليس بها حبكة كلاسيكيّة، بقدر ما تقوم على لعبة إبداعية متشابكة ومتداخلة ضمن ما يمكن تسميته بـ”الرّواية الكُليّة”. أكثر من ذلك، تُعرضُ الحبكات والشخصيّات والأماكن في هذه الرّوايات من زوايا ورؤى مختلفة. كل هذا يتطلب يقظة دائمة من جانب القارئ. لأنّها رواياتٍ تعدُ صورًا عن للواقع المُعقد. ومثل بولانيّو، فهي روايات مُنغلقة لا تقول شيئًا، لأنّ الأمر متروك للقارئ لتحمل مسؤولياته والتفسير بناءً على خلفيته وثقافته وحساسيته. هذا ما يفسر سبب استخدام بولانيّو للشهادات في كثير من الأحيان. فالشهادة هي وجهة نظر ذاتية في حدث ما. لا تثبت الحقيقة تحت أيّ ظرف من الظروف.
من هنا، نفهم بشكل أفضل ارتباط بولانيّو المتناقض بالرّواية البوليسيّة. إذ يكاد يكون من الطبيعي أن يُسمح له بجمع الشهادات. هذا ما يحدث مع رواية “رجال التّحري المتوحشون”. ولكن أيضًا في رواية “2666” و”حلبة الجليد”. حتى عندما لا يكون النوع الأدبيّ الَّذي لجأ إليه من نوع الرّواية البوليسيّة، غالبًا ما يلجئ لتعدد الأصوات، حيث تتكون الشخصيّة المركزية من راو أو أكثر. وقد تبلغ خمسة عشرة ساردٍا مثلما هو الحال في رواية “رجال التحرّي المتوحِّشون”. كما لا توجد في أعماله سوى وجهات نظر بخصوص العالم. وحتى مجموع وجهات النظر هذه لا تؤسس أدنى موضوعيّة، إذ هي منفتحة على قراءات مغايرة. وفي اللحظة التي يتم فيها إلقاء الشهادة، فإن الذاكرة بالضرورة تُسهم في تغييّر الحقائق. فلا فنّ بلا ذاكرة متأججة، متوقِّدة، ومتسعِّرة.
في دراسة بعنوان “روبيرتو بولانيّو والرّواية البوليسيّة أو عودة اللغز” كتبت أدريانا كاستييو بيرشينكو “إذا كانت معظم أعمال بولانيّو الرّوائية هي بالفعل تحريات، فهي ليست كذلك بالمعنى البوليسي للمصطلح، ولكن بالمعنى التّاريخي. كما يُظهِر أصل الكلمة، فالمؤرخ هو محقق يقوم بالتّحري، ويجمع الشهادات ويبني حبكة لفهم الأحداث. يفعل بولانيّو الشيء نفسه، يجمع الشهادات كما يجمعها المؤرخ. باستثناء ذلك، فهو لا يفرض عليها دائمًا نفس الاتساق، ولا يختار حبكة، بل يترك عدة حبكات تتطور. بالطبع، يقدم روايات متشابهة. لكن هدفه من خلال الخيال هو التقاط لحظة الشر. الشر هو حقيقة العالم. هو موضوع الرّواية. وهذا الشر لا يمكن سوى تقديمه وعرضه، ولا يمكن تفسيره”.
يكمن أحد أدوار الكاتب حسب بولانيّو في نقل الأحداث بهدوء قدر الإمكان. بيد أنّ الكُتاب في أعمال بولانيّو لديهم ميل مزعج للاختفاء. لا يظهرون بعد القيام بدور “الحكي” أو السَّرد. ففي رواية “2666”، وجد الكُتاب ملاذًا في منزل غريب يوفر لهم اللجوء، بينما لا يزال “أرشيمبولد” مختفيا. وفي رواية “رجال التحرّي المتوحِّشون” اختفى ثلاثة شعراء (سيزارا تيناجيرو ثم أرتورو بيلانو وأوليسيس ليما). وكأني بالكُتاب ليس لديهم ما يقدمونه أكثر من نصوصهم (8).
في كتاب بعنوان “تحت الرّواية الشّعر.. تحديات روبيرتو بولانيّو” تقدم فلورنس أوليفييه تحليلاً لأعمال بولانيّو، وعلى وجه الخصوص من خلال عملين رئيسيين، “رجال التحرّي المتوحِّشون، و”2666″، باعتبارهما روايتين صنعتا شهرة مؤلفهما عالميًا. وتوضح كيف يسير عمله الرّوائي في مسارات الشّعر الغامضة التي “تتحمل وحدها غياب الاستجابة والمخاطر وجماليّات الغموض” (9).
تُفسر فلورانس أوليفييه أنّ الحماس الَّذي أصبح يُبديه القراء عبر العالم لأعمال بولانيّو يتجلى خلال وجود عدة كُتاب في كاتب واحد، فهناك بولانيّو التشيلي، وبولانيّو المكسيكي، وبولانيّو الإسباني وبولانيّو الفرنسي وبولانيّو الأميركي وبولانيّو العالمي الذي يعرف كيف يقدم مقاربات فلسفيّة وأدبيّة عمّا يشغل الإنسان، وذلك بالنظر إلى الموضوعات والأمكنة التي اختارها لأعماله الإبداعيّة التي بدأها “شاعرًا عابرا للواقع”، ثم جاء انتقاله لكتابة الرّواية في تسعينات القرن العشرين، من خلال غنائية شعرية مختلفة، قال عنها “بصفتي شاعرًا ليس لديّ أي شيء غنائي، فأنّا نثري تمامًا كل يوم”.
ومع ذلك، كانت غنائيته مختلفة. إذ قال في مقابلة عام 1999 “أعتقد أنّ أفضل شعر في هذا القرن مكتوب بالنثر. هناك صفحات من يوليسيس لجويس أو بروست أو فولكنر امتدت على أوتارها كما لم يفعل الشعر أبدًا في كل هذا القرن، وحيث ندرك حقًا أنّ الكاتب أصبح على دربٍ لم يسلكه أحد قبله”.
تخبرنا فلورنس أوليفييه، أنّ نضال بولانيّو خلال هذه السنوات الثلاث والثلاثين من الكتابة، كان يهدف إلى “التخلص من بعض الشعارات الغنائيّة وابتكار غنائيته الخاصة”. فتقترب “غنائيته” من خلال “أنا” الحاضرة في أعماله تحت العديد من الأسماء غير المتجانسة، ليس بطريقة شاعر البرتغال فيرناندو بيسوا الذي افترض هُويَّات مُتعددة، ولكن من خلال توضيح أنّ الـ”أنا” الأول هو لبولانيّو أما الشخصيات المختلفة الأخرى فهي مثل “الأسماء غير المتجانسة” للمؤلف أرتيرو بولانيّو على سبيل المثال. وبذلك، يخرج عن السيرة الذاتية، ليعود إليها بشكل أفضل. إنّ الـ”أنا” تقرأ، وتتلقى التعاليم، وتكتب وتعلّق، وتقوم بعملية التمرير في هذا التعلم المشترك للحياة الشِّعرية لأن الحياة والقراءة والكتابة هي نفسها.
استطاع بولانيّو الجمع بذكاء بين النثر والشِّعر. وأعطى أدب التَّحري البوليسي صبغة أكثر أدبيّة، تلجأ أحيانًا إلى الغنائيّة الممزوجة بالذات. مما منحَ كُتبه توترًا دراماتيكيًا يظل سرّه قائمًا، في تشعب المؤامرات وتكاثرها و/أو وفرة الأصوات السَّردية. إضافة إلى ذلك، نجد أن حضور الشّعر في أعماله مرتبط بالمقاومة. ويعود ذلك الحضور لسنوات الدّكتاتورية في التشيلي. وتسترجع فلورنس أوليفييه كلمات أوكسيليو لاكوتور التي تعتبر “أم الشاعر المكسيكي الشاب” التي تقول “فكرتُ: لأنني كتبتُ، إذن قاومتُ. فكرتُ: لأنّني دمرتُ الكتابة، إذن سيكتشفونني، سيضربونني، سيغتصبونني، سيقتلونني. فكرتٌ: الاثنانِ مرتبطانِ، الكتابة والتّدمير، الاختباء والعثور عليك”. ويُحيلنا هذا المقطع إلى شخصية القس أوروتيا في رواية “ليل التشيلي”، الذي يفضل تدمير ذاته على الاعتراف بالأخطاء التي ارتكبها في عهد دكتاتورية “بينوشيه”.
إنّ الشِّعر عند بولانيّو مرتبط بنضاله ضد الرعب والشر، الذي تجلى في التِّيَّار اليميني الشيلي خلال فترة الدِّيكتاتورية العسكرية، والَّذي يمكن العثور عليه أيضًا في روايتا “نجم بعيد” و”ليل التشيلي”، اللّتان تفتحان أعين القارئ على هاوية الشر والرعب السّياسي واللاأخلاقي في مظاهره المعاصرة (10).
تبقى الكتابة بالنسبة لبولانيّو معركة محتملة ضد الشر والرعب. إذ يرى “إذا كانت الحرب هي السعي وراء السّياسة بوسائل أخرى، فإنّ الكتابة هي استمرار للحرب بأسلحة أخرى […] هذا يعني أنّ الكاتب ينوي نقل الأسلحة إلى حقل الرسائل مرة أخرى “. وستتمثل استراتيجيته في مهاجمة ميدان الكتابة الخاص به سياسيًا، أيّ المجال الأدبيّ، من خلال شحذ بنادق الحروف على الحروف.
في نهاية الكتاب، تستحضر فلورنس أوليفييه الموهبة الساخرة لبولانيّو، وتطرح السؤال حول القيمة الأخلاقية والجمالية للأدب وتنوعاته بخصوص الشرف (“شرف الشعراء وفقدانهم له”)، وتناقش قضايا الكتابة الإبداعيّة، التي يقول عنها بولانيّو في خطابه الشهير الذي ألقاه سنة 1999، حين تسلم جائزة “رومولو غاييغوس” الشهيرة “ما هي الكتابة الجيّدة؟ حسنًا، الكتابة هي معرفة كيفية وضع رأسك في الظلام، ومعرفة كيفية القفز نحو الفراغ، ومعرفة أن الأدب، في الأساس، مهنة خطرة”. ففي هذه القدرة على المضي قدمًا في الظلام، بعيون مفتوحة، هو بالذات ما يجب على كل كاتب أن يواجهه.
من الواضح أنّ هذا النوع من الخطر والكتابة المخاطرة نجدها في رواية “2666” التي تُهاجم مظاهر الشر طوال القرن العشرين. فهي رواية مشبعة بجو قاتم شرير ومروّع. فشلت شخصياتها في قمع أو التغلب على رغباتها ودوافعها الخفية. فأصبحت مجردة من الإنسانية. ويتجلى فشلها في نهاية مجتمع مثالي، مجتمع ما بعد الحداثة.
إنّ بولانيّو، وفقًا للكاتب الكاتالوني إنريكي فيلا ماتاس “كاتب التّعدد”. وهو مفهوم مأخوذ من الدروس الأميركيّة للكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو. لا يتردد “كاتب التعدد”، حسب كالفينو في ترك حرية كبيرة لشخصيّاته لتعديل أو تحويل السرد الأصليّ، على سبيل المثال. كما لا يخشى الانفصال باستمرار عن مساراته السّردية. بمعنى آخر، يسمح بولانيّو لشخصيّاته بالتحدث، لذا فهو مؤلف متعدد الأصوات. ففي رواية “حلبة الجليد” بدأت تتضح معالم كتابة روائية مختلفة عنده، إذ تحتوي على ثلاثة أصوات ساردة تسرد الأحداث بالتّناوب. لكنّنا ندرك أنّ أحد هؤلاء وهو المدعو “ريمو مورغان”، هو الكاتب نفسه. غادر بدوره التشيلي فرارا من دكتاتوريّة بينوشيه. وعاش في المنفى بالمكسيك، أين اختلط بشعرائها. أما “غاسبار هييرييدا”، الذي عاش حياة الحرمان والفاقة لمدة طويلة، والذي له ميول أدبيّة بدوره، فهو يمثل كذلك جزءا من شخصيّة بولانيّو وحياته والذي عرف نفس الفاقة والجوع حين غادر مسقط رأسه. أما السارد الثالث “إينريك روسكالس” فهو الّذي لا علاقة له بالكاتب.
على الرغم من شعور بولانيّو الدائم بأنّه شاعر بالأساس، إلا أنّ شُهرته بُنيت على رواياته وقصصه القصيرة. وظل حتى بعد رحيله سنة 2003، الشاعر البوهيميّ، الإنسان الشقيّ، والابن الرهيب للأدب. وهو اليوم أحد الشخصيّات الرئيسيّة في الأدب الإسباني وأميركا اللاّتينيّة. قبل ستة أسابيع من وفاته، أشاد به روائيون من أميركا اللاتينيّة باعتباره أهم روائي في جيله. فخلال مؤتمر دولي عقد في إشبيلية يوم الـ14 من يوليو 2003، حضر أقرب أصدقائه وهما الروائيان رودريغو فريزان وإنريكي فيلا ماتاس، وأعلن فريزان “لقد فرض روبرتو نفسه ككاتب في وقت لم تعد فيه أميركا اللاّتينية تؤمن بالطوباويات وعندما أصبحت الجنة جحيمًا. ويتخلل هذا الشعور بالوحشيّة وكوابيس اليقظة والهروب الدائم من الرعب مثلما تجلّى في روايته الشهيرة 2666”. وحسب فريزان فإن كُتب بولانيّو سياسية، “لكن بطريقة شخصيّة أكثر منها متشددة أو ديماغوجية، فهي أقرب إلى سحر جيل “البيت” الأدبيّ منه إلى” البوم”. ووفقًا لفريزان دائما، “كان بولانيّو فريدًا تمامًا، وعمل دون شبكة أمان، وبذل كل ما في وسعه، دون أن يقيّد نفسه، وبذلك ابتكر طريقة جديدة ليكون كاتبًا أمريكيًا لاتينيًا عظيمًا”.