السؤال الضائع
الوحدة اللغوية مصدر للخداع. بمجرد أنك تعرف لغة، ستفترض أنك تفهم الشعب أو الشعوب التي تتحدث بها. فجأة يصبح الإيحاء بأن الجغرافيا ليست ذات أهمية وأن المئات أو الآلاف من الكيلومترات لن تحول دون توفر الوعي لفهم الشخصية الاجتماعية للأفراد من ذلك الطرف البعيد من تلك الجغرافيا. تزيد المركزية الفكرية من المشكلة عندما تكون عاصمة ما أو دولة مصدر إشعاع ثقافي، فيكون ابنها معدا بالخلقة لفهم الناطقين بلغته، ويكون ابن البلد البعيد مستلبا، بالخلقة أيضا، نحو مصدر الإشعاع.
الحقيقة، كما علمتنا التجارب، بعيدة كل البعد عن هذا. الناس تفهم القريب منها وتتعامل معه، ولكنها تبقى حائرة أمام ذلك البعيد وتعجز عن تفكيك إشاراته، حتى وإن صدرت بلغة مشتركة.
يتجرأ كل مفكر عربي على استخدام مفهوم الوحدة اللغوية في العالم العربي لكي يطرح أسئلة من نوع “كيف نصلح العقل العربي؟”.
لأنه مشرقي أو شمالي يتحدث العربية، ولأنه من عاصمة مشعة ثقافيا، يفترض أن بوسعه توفير حلّ فكري شامل وموحد لأزمة العقل العربي التي يفترض أنها نفسها في أقصى الغرب أو الجنوب. كلنا يعرف أن هذا الجواب مفقود بعد عقود من إطلاق السؤال. كلما جاء جيل جديد، يطلق نفس السؤال، ويتراجع مكتئبا بأن العقدة في العقل الجمعي، وأن من الصعب أو حتى المستحيل، العثور على الجواب. لم يسأل الكثيرون ممن طرحوا السؤال إن كان هو السؤال المناسب. هل هناك عقل عربي حقا لكي نصلحه؟ أم هي عقول عدة، قد تكون عقولا متعددة في كل بلد وليس في بلدان مختلفة وحسب؟ ثم ما هذا السؤال العبثي عن محاولة إصلاح العقل العربي؟
لأن الأمور بالقياس، لعلنا نسأل: ماذا لو فكرت أوروبا بنفس الطريقة؟ ماذا لو فكر الغرب؟ ماذا لو أرادت بريطانيا، بحكم اللغة مثلا، أن تصلح العقل الأسترالي أو الأميركي؟
دعونا نستبق الغضب من المقارنة ونقول: نعم؛ بريطانيا وأميركا وأستراليا هي “أمة واحدة” بالمفهوم العربي القومي. تتحدث لغة واحدة ومصيرها مشترك وتمارس السياسة بشكل متشابه وتقاتل معا. ربما الاختلاف يكمن في أن الأميركيين قرّروا أن يسوّقوا سياراتهم على الجانب الآخر من الطريق أسوة ببقية العالم وعلى العكس من البريطانيين. وضع عجلة القيادة في السيارة على اليسار أو على اليمين لن يفسد مشاعر الأمة الواحدة.
ولكن هذه الأمة لم تطرح على نفسها سؤالا من نوع “كيف نصلح العقل الأنكلوسكسوني؟” لا تجرؤ بريطانيا على أن تطرح هذا السؤال في بلدها لأنه سيستفز الأسكتلنديين والويلزيين مثلا. هذا النوع من التعميم غير وارد.
أوروبا التي بنت وحدتها بشق الأنفس، أيضا لا تطرح هذا السؤال. أيّ محاولة لحشر الأمور بهذا التبسيط ستجد من يقاومها بشدة. البريكست الذي يقود المملكة المتحدة خارج الاتحاد الأوروبي حدث لأسباب أقل من هذه بكثير.
دول الجوار العربي إيران وتركيا كانت أذكى في تعاملها مع قضية “الإصلاح”. بدلا من الحديث عن إصلاح العقل الإيراني (أو الفارسي)، كان السؤال: ما هو السبيل لاستبدال العقول الإيرانية المختلفة بعقل جمعي طائفي واحد؟ نفس الحال في تركيا التي اختارت طريق العودة إلى عثمانيتها الطورانية. هناك مركزية إيرانية أو تركية تعمل لصالح هذا التغيير وهو ما نلمسه يوميا من تلك الرياح العقائدية التي تهبّ علينا من الشرق والشمال.
لا يمكن لشاميّ أو عراقي أن يقترح أجوبة (أو حلولا) للسؤال العبثي عن إصلاح العقل العربي. أيّ منهم قد لا يستطيع أن يقدم حلولا لمشاكل مجتمعه التي يعيشها يوميا، دع عنك التفكير بمشاكل الجزائري أو اليمني. أنظر غربة العاملين المصريين الفكرية والنفسية وهم يعودون من الخليج. يعودون مرتبكين في عاداتهم، بل وحتى في أزيائهم. يعودون بالأسئلة أكثر من عودتهم بالأجوبة، لا فرق بين من ذهب عاملا أو أستاذ جامعة.
المغترب العربي في أوروبا أو الولايات المتحدة لا يطرح هذه الأسئلة حتى لو كان مصنفا كمفكر، اللهم إلا أولئك المنعزلون تماما وممن يعيشون في غيتوهات الغربة. الأستاذ الجامعي العربي أو المسلم لن يؤخذ بجدية أكاديميا إذا طرح مثل هذا التساؤل. عالم اليوم غارق في الرد على الأسئلة المعرفية الصغيرة وتعلّم أن لا يطرح التساؤلات الكبيرة.
سؤال إصلاح العقل العربي هو محاولة للهروب من طرح الأسئلة الحقيقية عن التنمية والوعي والتعليم والصحة والأمن والحكم. هو سؤال صنع خصيصا لمنع الإجابة عنه.