السرد والهيمنة الأبوية
كل فرد مجبول على الحرية. وبما أن المسارات الأبوية التي تفرض على الأبناء -أيًّا تكن أهدافها حسنة النوايا- فهي على الضد من انعتاق الفرد مفاهيمياً، وتحقيق ذاته بعيداً عن الظل الأبوي الذي أحاطه. والمقصود بالمسارات الأبوية هنا هو الحمولة المفاهيمية التي كوّنها الأب عن الحياة والوجود واشتباكات الواقع مع الفرد والتي تسيل إلى لاوعي الابن خلال فترة القيمومة الأبوية، مشكّلة نظرته الأولية (أي الابن) لأبسط أموره اليومية والمعيشية. سيكون السرد العضوي المرتبط بذات الإنسان والنابع من ذاته لا المفروض من الخارج هو الوسيلة التي بها تُخبِر الذات عن حالها في خضم صراعها مع الحياة والواقع، في محاولة لتحرير محلّ النزاع بين الرغبات المفروضة وإرادة الفرد وحريته.
لا تشكل الهيمنة الأبوية ومحاولة كسرها مجرّد محاولة عبثية للتمرد والإنكار، بل هي أحد أشكال ردّ الجميل والبرّ للرعاية الأبوية عبر الخروج من النسق الذي رسم حياة الابن طيلة فترة نضجه، خروج من هذه الشرنقة يمثل المنعطف الأول لكبح جموح طموحات الهيمنة التي لا ينبغي لها أن تمتد لتحيل صورة الابن مسخاً أو صورة تكرارية لاستيهامات (fantasm) وطموحات المُهيمِن غير المتحققة، وروح العصر التي طبعت وصبغت النزعات والرغبات والميول الأبوية النفسية والفكرية والحالة المزاجية، واستزراعها في أرضية بكر خصبة (أرضية الابن) لجبر آمال لم تستطع تحقيقها الهيمنة الأبوية إبان شبابها، وقد يكون للمفارقة أن يكون العصيان الفكري أقصى تجليات البرّ وردّ الجميل عبر تحرير النوازع العقلية والخيارات الشخصية وذائقة الفرد. هكذا تمرّد وعصيان إذن غير موجّه إلى ذات الأب بما يمثله كرمز للكيان الأسري، وإنما هو تمرد موجّه نحو تلك الاستيهامات التي يرغبها الأب ولا تنتمي بالضرورة إلى رغبة الابن وهواجسه وميوله الذاتية. إذن وكنتيجة مقابلة لهذا العصيان يكون الانغماس في الهيمنة الأبوية (الهيمنة هنا هي ما تمثّله النزعات والميول الأبوية ونظرتها للحياة وطريقة قراءتها وتعاطيها مع الواقع) شكلاً مفزعاً من أشكال العقوق، حيث تكون الملكة العقلية وملكة النقد معطلة في ظل الاستمرارية في الكنف الأبوي مع تفتق الوعي وإمكانية الخروج إلى الأفق الأرحب الذي تُمارس فيه الذات المفكرة رسم خياراتها، وتقييم مسارها وفقاً للملكة العقلية التي كانت في حالة ضمور ولن يكون بمقدورها النموّ طالما كانت تلك الملَكَة غير مفعّلة وخاضعة لهيمنة علوية ما.
الحقل الخالي
يمكن تشبيه العلاقة الموجودة في ظل الهيمنة الأبوية بين الأب والابن بمثال الحقل الخصب من جهة والحارث أو المزارع من جهة أخرى حيث يضاهي عقل الابن وتاريخه حقلاً خصبًا لكنه غير ذي زرع، حقلاً ذا قابليات متفاوتة وقدرات مختلفة في انتظار استكشافها وإماطة اللثام عنها، حقلاً ينتظر مَن يبذر فيه بذور الوعي التي منها سيزهر الحقل بنباتات ومحاصيل تحمل خصائص حسية وعقلية وفكرية ستكون ذخيرة وزادًا لهذا الفرد في حياته، بينما يضاهي دور الأب هنا في هكذا نوع من العلاقات وظيفة الحارث الذي يقوم بحراثة الأرض، إنها حراثة وسقاية في أرض بكر والنتيجة الحتمية لمحصولات هذا الحقل تعود بالدرجة الأولى إلى الأب لا الابن، وستكون هذه المحاصيل تحمل طعم ولون الخصائص الأبوية بالضرورة، حيث تمت غراسة المفاهيم التي ينتمي لها الأب في حقل الابن الخالي من الزرع. الحرث هنا إذاً يمثل أيديولوجيا الأب بامتياز* ويمكن رؤية ذلك اللون الفاقع من هذه الأيديولوجيا حاضراً في كثير من العلاقات القائمة بين الآباء وأبنائهم على امتداد البيئة العربية الإسلامية والمسيحية، التي على الرغم من احتواء أدبياتها وتراثها على الكثير من النصوص الحقوقية والأدبية والفقهية التي تضمن حق الأبناء على الآباء، التي تحضر بالتوازي مع حق الآباء على الأبناء، حيث إن هذه حقوق معترف بها، بينما تلك الموازية لها لم تزل حقوقًا مغيّبةً متواريةً وفي عداد اللامفكر عنه. *(انظر كتاب الباحث والناقد السوري إبراهيم محمود في حديثه عن غلواء هذه الأيديولوجيا في علاقتها مع الجسد الأنثوي في كتابه: الشبق المُحرٍّم؛ أنطولوجيا النصوص الممنوعة-رؤية للنشر والتوزيع، ط2٢، 2016).
في ظل ثقافة ترسّخ مفاهيم مثل إحياء التراث والأخذ بتجارب الآباء وحكمتهم في الحياة وأسبقيتهم، يتم نكران حق الأبناء -بطريقة ضمنية لا تصريحية- في خوض تجاربهم وتشكيل وعيهم من التجربة عوضاً عن التقليد وركوب سيرة الآباء الأولين
ما حدث في مثال الحراثة والحقل أنه لم يُتَح هناك المجال لنموّ علاقة طبيعية بين الحقل الخصب والمزارع صاحب الحق في حقله (الابن)، لم يتم التمهيد للابن لتعلّم أصول الحراثة (التفكير والنقد والخيال الخلاق) ولم يكن له الخيار في بذر البذور فنتج عنه محصول (مُستزرع) لا ينتمي إلى (طبيعة ذاته)، محصول يحمل هويةً وخصائص مختلفةٍ عن خصائص الابن (المزارع الأصلي)، ومع أوان موسم الحصاد سيكتشف الفرد (الابن/ة) مع مضيّ الزمن أنه يحمل هويتين، هوية تخصه بذاته مخفية ومغطاة من قبل الهوية التي شكلها الأبويين أحدهما أو كلاهما، هما هويتان تنازع كل منها الآخر، هوية مكبوحة تمثّل الابن، وهوية منتصرة ظاهرة عينية قاهرة تمثّل هوية الأبوين أو أحدهما، أو بشكل أكثر دقة -استيهاماتهم (fantasm) وتطلعاتهم- تلك الهوية المهمّشة التي تمثل الذات يخبرنا عنها إدوارد سعيد في كتابه “خارج المكان” الذي سرد فيه طفولته ومراهقته وعلاقته مع أبويه قائلا “ثمة موضوعان ضامران في كتابتي هذا الكتاب، أولهما: انبثاق ذات ثانية كانت مدفونة لمدة طويلة جداً تحت سطح خصائص اجتماعية غالبا ما تُكتسب بواسطة العادة والإلزام وتنتمي إلى تلك الذات التي حاول أهلي تركيبها، وأعني بذلك ‘إدوارد’ الذي أتحدث عنه هنا بين الحين والآخر. وثانيهما: هي الكيفية التي أدّى بها عدد متزايد جداً من المغادرات إلى زعزعة حياتي من بدايتها الأولى”.
يحلل الناقد العراقي عبدالله إبراهيم الطبيعة السردية لكتاب سعيد آنف الذكر عند حديثه عن علاقته مع ذلك المحضن الأبوي الذي نشأ فيه إدوارد سعيد وما تحكيه سردية سعيد هنا تتقاطع في الكثير من جوانبها مع نوعية العلاقات القائمة بين الأب العربي وابنه وإن اختلفت حدتها فيقول “رسم سعيد المحضن التربوي الأبوي الذي اختلق شخصيته وهو محضن خرّب البراءة الأولى وشتّت السوية الطفولية حينما أخضعها لمعايير أبوية معدّة سلفًا فلم يكن المهم أن ينمو طفلاً على البداهة ويتفتح مكتسباً خبراته بالتدريج من الوسط الأسري والاجتماعي، إنما ينبغي عليه أن ينمو ممتثلاً لشروط تلك المعايير الجاهزة وما كان مهما أن تنمو له شخصية خاصّة، إنما أن ينصاع إلى سلسة لانهائية من الرّوادع والنواهي. وبهذه الطريقة اختُرعت شخصيته وتحدّدت علاقته بالأمكنة التي عاش فيها، ……”(انظر: السرد، والاعتراف، والهوية – عبدالله إبراهيم-المؤسسة العربية للدراسات والنشر-ط 2011).
العادات والتجارب
في ظل ثقافة ترسّخ مفاهيم مثل إحياء التراث والأخذ بتجارب الآباء وحكمتهم في الحياة وأسبقيتهم، يتم نكران حق الأبناء -بطريقة ضمنية لا تصريحية- في خوض تجاربهم وتشكيل وعيهم من التجربة عوضاً عن التقليد وركوب سيرة الآباء الأولين، أو كما في عبارة إمبرتو إيكو الطافحة بالدلالات “…… قوة التقاليد أكثر أهمية من التجربة الفعلية”. (انظر:OnLiterature-UmbertoEco-Vintagebooks،edition2006).
الأمر كذلك يصبح من الصعوبة على الأبناء كأفراد أو الشباب كجيل تحقيق ذواتهم ورغباتهم والحصول على استقلاليتهم، يحدث ذلك في ظل كون الآباء في أيّ مجتمع لديهم عادة سيئة ألا وهي شرعنة آرائهم عبر إحالتها إلى خبراتهم، مراكماتهم (accumulation) لتجارب حياتية ملموسة، والتي بديهياً هي أكثر مما راكمه الشباب، وشرعنة الآباء لتجاربهم في الحياة وخبراتهم بها يتم عبر سرد قصصهم، والتي تصبح بحكم الأسبقية كالقدر المسلّط الذي يجب على الأبناء مسايرته، وما أن يحيدوا عنه سوف تتم إحالتهم عليها لإثبات صوابية الآباء وخطيئة الأبناء في بحثهم عن الجِدّة ومحاولة تشكيل قصصهم ومروياتهم (انظر:WalterBenjamin-Selectedwritings، volume1:1913-1926،CambridgeUniversitypress).
العصيان مصدرا للاختلاف
لا تمكن ممارسة الحياة بطريقة آلية كالتي توجد في إعدادات التشغيل لجهاز كهربائي ما، كما أن التجارب والخبرات الحياتية لأيّ فرد مّا هي لصيقة بالمحيط الاجتماعي والحالة النفسية والبيئة الجغرافية والنزعات والميول الذاتية، فهي ليست وصفات جاهزة يتم من خلالها صقل الذات وملكاتها. هناك فقط مصهر الحياة الذي فيه يكون الوضع الطبيعي الذي منه تستقي الذات تجاربها ومنها تخوض وتشكل وتقاسي مساراتها وفيه تصهر شخصية الإنسان وكيانه عبر اكتساب التجارب الشخصية الحسية والذوقية والعقلية، تلك التجارب هي التي ستصوغ ذاتاً مختلفة، ذاتًا هجينة بعيدة عن التكرار والتقليد.
زراعة الذات
لا نقاش هنا حول مقاصد تلك الهيمنة، لكن محلّ النقاش هنا تجليات وآثار تلك الهيمنة التي لا يمكن كبحها بمجرد إرجاعها إلى القصدية (intentionality) الأولية للهيمنة مقابل غض الطرف عن تجلياتها وآثارها التي تترسّخ وتترسّب في وجدان الابن، ولهذا تعد الكتابة السردية الشكل المضاد للرغبات الأبوية، هي الخطوة الأولى لكتابة مسار مختلف، مسار ينبع من الذات بالأصالة، كتابة لم تُـملى من قِبَلِ سلطة عليا تمارس القيمومة على الذات وصياغة المتن الحياتي لها، إذن هو السرد الذي يشكل أداة فاعلة أولى يستطيع معها الانبثاق ومعانقة الذات، السرد الذي يروم ذلك الجوهر الذي جُبلت عليه الذات وغُيّبت عنها -الحرية-، سردٌ يمارس فعل المقاومة ضد (الرغبات الأبوية المنسابة خلال فترة الهيمنة) ويزيحها ليحل محلها مرويته التي ستكون الوجه المرآوي لتطلعاته ورغباته ودهشته وانعكاساً أصلانيا (authenticity) لكينونته المتفردة، حيث نستشف أن مبادرة الذات لأخذ زمام سرد كينونتها هي وظيفة حيوية طبيعية -بيولوجية- من الخصائص التي تتصف بها ذات فاعلة واعية لتاريخها وكيفية تشكيله ونشوئه ورسم ملامحه خلال مسار الحياة اليومي، بينما عندما تكون الذات مسرودة لا ساردةً -مفعولا ًبها لا فاعلة- فهي حالة باثولوجية (pathologic) مرضية لا تتواءم مع خاصية الذات الحرة التي تعي أهمية نفسها. لهذا إن كان للسرد وظيفة بيولوجية كما يقول أرسطو ألا وهي رواية قصة ما “فإن تلك القصص التي نرويها هي الطريقة الرئيسية التي بها نضفي معنى على الأشياء سواء عبر التفكير عن حيواتنا كتطور يؤدي إلى مكانٍ ما أو عبر إخبار عمّا يحصل في العالم”(انظر:Literarytheory، Averyshortintroduction–JonathanCullerOxfordUniversityPress).