السعادة الزائفة

مع نهم الاستهلاك المفرط أصبح ما يهمّ الناس في المجتمعات الحديثة اغتراف كل ما يمكنهم اغترافه من الأشياء والأموال، غير عابئين بما يتبقى لسواهم. وقد أدى هذا النمط الجشع من الاستهلاك إلى انزواء جميع الأفكار المتعلقة بمعنى الحياة ومفاهيم العيش المشتركة من عقول المجموعات المستهلكة، وصار النهم لاقتناء السلع من ملابس وإلكترونيات وسيارات يغيّب الإحساس الإنساني بالواجب الاجتماعي، وما يجب أن ينهض به المرء إزاء الحياة وتطورها وآفاق غدها، واقتصر النشاط البشري على الإشباع السريع للمتع المتاحة، فأصبحت الحياة كأنها “اللحظة” المعاشة حسب، وبات ما يعني الجموع النهمة عيش “الآن”، وما يوفره النمط الاستهلاكي من خداع توفير السعادة المضللة والاكتفاء الذي لن يحصل قط.

أنجبت الليبرالية الجديدة والتداول الإلكتروني للسلع والعلاقات البشرية مظاهر مترابطة تقوم على تشجيع فرط الاستهلاك لحماية حرية الأسواق الاقتصادية وحرية التجارة وتعزيز أرباح الشركات العملاقة الداعم للنظام. كما أدت تفاعلات هذه الحريات الاقتصادية إلى تفشّي نزعة التملك والخضوع لمغريات القصف الإعلاني وفتنة المتع المتحصّلة من هوس الشراء.

وعملت المؤسسات التجارية ما بعد الحداثية، في مقدمتها صناعة الإلكترونيات ووسائل التواصل ودور الأزياء، على ترسيخ القوة الجائحة لليبرالية الجديدة، منجبة النزعة الاستهلاكية والحرية الفردانية ووعد السعادة المتاحة، فخاطبت وسائل الإعلان المغرية التي يروّج لها المسوّقون البارعون الجانب الرغائبي الخفي لدى الناس: رغبة الظهور بصورة أفضل عبر الأزياء، ورغبة الرضا عن النفس عبر عمليات نحت الأجسام، وتجميل الوجوه حسب المعايير السائدة المفروضة من قبل الإعلام، وهيمنت الشهوات القائمة على جوع للتملك على نمط تفكير المستهلك الذي يظن واهماً أن سعادته سوف تتحقق إذا قلّد “النموذج” السائد جمالياً، وأن يتماثل مع نموذجه المشتهى من نجوم السينما والإعلام ومغني البوب والشخصيات المشهورة على وسائل التواصل.

وقد تركت الأفكار الموجهة، التي تسوّقها برامج التوك شو كبرنامج “أوبرا وينفري” وبرنامج  “ايلين ديجينيرس″ وبرامج المسابقات العربية، آثارها في الذائقة العامة والسلوك الإنساني، وعملت على إزاحة قيم وأعراف تقليدية مستتبة معينة، وإحلال قيم  الفردانية ما بعد الحداثية محلها.

وترافق هذا الاستبدال اللاواعي بالهدايا الثمينة والفوز في التنافس اللاهث، مما سهل عملية خداع الجمهور وتوجيه أفكاره وعواطفه نحو اتجاهات استهلاكية وسلوكية محددة، فالكل يعمل من أجل الفوز، ودحر كل آخر، ومصادرة القيمة الإنسانية لدى الأفراد من جانب، وتحقيق المزيد من الأرباح للمؤسسات من جانب آخر، وهي أرباح طائلة تتقاسمها البرامج مع الشركات المصنّعة التي توهم سذاجة المستهلكين -المأخوذين بنشوة الفوز- بسخائها، وكرم مقدمي البرامج، مثلما توهمهم بأهميتهم اللحظية حال ظهورهم في البرامج الشهيرة.

وسائل التواصل وتدجين المستهلك

تعمل وسائل التواصل، بما تبثه من سيل الإعلانات المثيرة، على تدجين مستخدميها وتعويدهم على ملاحقة إعلاناتها عن موديلات السيارات، وآخر أجهزة الموبايل، وبرامج التجسس على الآخرين، وعروض الأزياء، ومواد التجميل لاستعادة الشباب وصولاً إلى إعلانات تجارة الجنس الإلكتروني.

وقد يحدث أن  تتراجع المبيعات في موسم معين، ويتردّى الاقتصاد في عموم المنظومة الاقتصادية خلال فترات دورية، فيختل توازن القوى الاقتصادية الداعمة للنظام الليبرالي الجديد، عندها قد يخفت الاستهلاك في حدود بسيطة، وتتصاعد وتيرة طرح النماذج القابلة للتقليد لتسويق الممارسات الاستهلاكية على نحو يحقق أرباحاً معقولةً لأرباب الصناعة والمال، وهم المؤثرون في سياسات الدول الليبرالية.

وعندما لا تجدي هذه الوسائل ولا تصل إلى غاياتها المرسومة لترويج الإدمان الاستهلاكي، وتوريط ملايين البشر في استنفاد كينونتهم الإنسانية  ضمن ماراثون الاستهلاك، خاصة في بعض بلدان العالم الثالث بسبب سياسات معينة مثل انغلاق الأنظمة، تعمل الشركات على تحريض الساسة الذين تساندهم مالياً، وتدفعهم لاستخدام القوة، وتبرر الدولة استخدامها للقوة حينها بمسوغات ملفقة لضمان سلامة مواردها المالية، وزيادة وتيرة تدفق الثروات إلى خزائن قادتها، فتقوم بفتح أسواق استهلاكية جديدة  لصناعاتها عن طريق الغزو والحروب، يؤدي كل غزو إلى تدمير البنى الاقتصادية والنفسية والتعليمية، والقضاء على الصناعات المحلية، وتعطيل الطاقات الإنتاجية للمجتمع، ثم إحلال بنى اقتصادية هشة، تتصارع فيها المجموعات الحاكمة على استنزاف الموارد الريعية من جانب، واصطناع ضغوط وحوادث محلية وخارجية تجعل شبح الموت ملازماً لأنفاس الحياة، عندها تندفع الطبقات المنتفعة من الخلل الاقتصادي، والفساد، والرواتب المرتفعة إلى تبنَي نزعة استهلاكية متوحشة تتطلب المزيد من الأموال، فتحدث اختلالات في العلاقات المجتمعية، ويسعى البعض للحصول على المال بطرق عنيفة تسوغ الاختطاف والاغتيال والغش والفساد للاستحواذ على الثروات.

مجتمعات القسوة والنفايات

تحت ضغوط أخلاقيات السوق والمنافسة ونمط الحياة الاستهلاكي المفرط تتجه مجتمعات ما بعد الحداثة مجتمعات -الليبرالية الجديدة- إلى القسوة والأنانية والفردية المنغلقة على ذات الإنسان، فتتخطى  موضوعة الإعلاء من قيمة الإنسان التي تبنتها أفكار التنوير والحداثة، وتتجه إلى التعامل مع البشر والمصنّعات باعتبارها أشياء قابلة للاستبدال، فما تم استهلاكه -أي غدا قديماً- لم يعد مناسباً لأخلاقيات المظاهر والسوق، ومغرياتها المتجددة، ومعاييرها المادية، وعروضها المهينة، فتتهاوى القيم، وتختل الروابط الإنسانية، وتحل النفعية المجردة محلها، وعندها تبرز حقيقة صادمة نجد معها أن البشرية قد بلغت الحدود القصوى في الاستهلاك، وعجزت عن حماية نفسها من هول ما تقترفه رغباتها وشهواتها المنفلتة، فما بلغته المجتمعات البشرية من عبادة المال والماديات والمتع الآنية جعلها تفقد القدرة على مواجهة الغيلان المنفلت الذي أطلقه العلم من جهة، وتعاظم الطوفان الاستهلاكي الذي يحول الأشياء والبشر إلى نفايات يمكن الاستغناء عنها في أيّ لحظة من جهة أخرى.

 يخبرنا الفيلسوف وعالم الاجتماع زيغمونت باومان، في آخر حواراته، أن الاستهلاك المفرط جعل البشر متخصصين في إنتاج  “النفايات”، وبسبب النزعة المظهرية يتخلى الناس سنويا عن ملايين الأطنان من الثياب الصالحة للاستعمال ويسعون بنهمٍ هوسيّ للحصول على الجديد من المنتجات وفي مقدمتها الثياب والأدوات المنزلية والأثاث ومستجدات الأجهزة الإلكترونية ويعمل الناس ليل نهار لكسب المزيد من المال بغية إشباع جشع الاستهلاك، وتتمحور ظاهرة الهوس الشرائي في المجتمعات الحديثة حول فكرة مركزية تقول: إن ما نشتريه اليوم سيتوجب علينا التخلص منه سريعا لنجعله في عداد النفايات، فنحن نتخلص من أشياء كثيرة بقصد التجديد والتجريب وحسب ولأنها أصبحت خارج اشتراطات منظومة الموضة، تلك الاشتراطات التي يتفق عليها رؤساء شركات إنتاج الثياب ومواد التجميل، وينصاع لها التجار والمسوّقون ومصممو الأزياء ومصنعو الموبايلات ومزينو الشعر وتروج لهم الإعلانات المبهرة والعروض التشويقية المغرية، فلا يعود المرء قادرا على المقاومة والظهور بملابسه القديمة فثمة ضغوط هائلة  تستهدفه من البرامج المتلفزة والمجتمع عابد المظاهر وترغمه على  التماهى مع السلوك الجمعي لينصهر في القطيع المتماثل الذي فقد فرادته وسهُلَ إخضاعه  للنمط الذي تفرضه السوق والسياسة والحفاظ على معدلات الإنتاج، فيغدو الكائن البشري بهذا روبوتا مهووسا بالتملك والتخلي بسرعة عما امتلكه.

تشيؤ البشر-استهلاك الرفقة

ينعكس سلوك الكائنات القلقة المهووسة بالاقتناء، والحصول على كل ما هو جديد في السوق على علاقاتها الإنسانية، إذ تمكّنها الظروف المشوشة لعالم الاستهلاك من الحصول على العلاقات بيسر عن طريق الإعلانات الإلكترونية التي تروج للمواعدة، وتعرض صفات الرجال والنساء طالبي الرفقة: لون الشعر الطول والوزن والهوايات، وبوسع المستهلك اختيار الشريك الذي يناسب رغباته الغرائزية ونزوعه المادي، ولكن إلى أيّ مدى ستدوم تلك العلاقة طالما هناك إمكانية الحصول على المزيد كما في عروض السوق الإلكترونية ومواقع التواصل؟

في هذه الحالة يمكن استبدال الشريك بسلوك نفعي محض وبيسر مثلما يستبدل المرء سيارة عتيقة أو جهاز موبايل بطُل طرازه، فتنهار العلاقة الإنسانية المهددة، ويتضاعف قلق المرء من فقدان الشريك المعرض لغوايات السوق، ويمسي الوضع البشري مريعا مضطربا مفتقدا للقيم الإنسانية، والحميمية التي يصعب العثور عليها لدى المعروضين في سوق التداول السلعي، وتصبح الرابطة هشة عابرة لافتقادها إلى المعنى الإنساني وعمق التعلق والرقة والعطاء اللامشروط.