السير الروائية
بات من المعلوم أن الأجناس الأدبية أخذت بالتداخل، والاشتباك، وأخذ ارتفاع حواجزها، التي في الأصل كانت طفيفة، ينخفض بنسبة ملحوظة. ويتداخل أيضاً في هذه المرحلة، ونحن نشهد ذيوعا للسرد ليس عربيا فقط، إنما عالمياً أيضاً، فن السيرة كتأريخ ذاتي خاص لجملة من الأحداث مر بها المؤلف، بفن الرواية كتأريخ موضوعي عام لعدد من الأحداث في قالب حكائي مُتخَيل. بحيث أننا كقراء أصبحا إزاء رواية تُحكى بأدوات السيرة الفنية، وإزاء سيرة تُسرد بأدوات الرواية المتعارف عليها.
لكن هذا التداخل لم يؤت ثماره في كل ما أنجز من روايات، فمنها ما نجح، حين استفاد مؤلفوها من عناصر السيرة، والمحكي فيها، كمتكئ، وكمصدر للخبرة التي تُغْني مصادر الروائي، فينجز عملاً يعبّد طريقه وبالتالي الوصول إلى ذائقة القارئ. ومنها ما لم ينجح، حيث لم يحدث ذلك التوازن المنشود بين الرواية كبنية قائمة على الحدث، كأهم العناصر في الرواية، وحركته المحسوبة في إطار النصّ الروائي، وبين السيرة التي ترتهن للتّداعي القادم من بابي الوصف والمونولوج. وهذا من شأنه أن يعيق حركة تطور الرواية، رغم أن تلك المنجزات تأتي على مَحْمل التوجه الجديد في تحديث النص الروائي، وانفتاحه على التجريب، ورغم الاتكاء على الرؤية النقدية القائلة بأن “الرواية جنس منفتح على كل الأجناس الأدبية الأخرى”.
وهذا ليس صائباً في كل الأعمال من حيث تطبيقه والأخذ به، فقد نجح في بعض المنجزات الروائية، وفشل في أخرى، كما أسلفنا القول. والعامل الحاسم في نجاح كهذا، هو النسبة التي يتعاطى بها الروائي أثناء إنجاز روايته التي تسوَّق على أنها عمل روائي، بما أنها تحمل على وجه غلافها تصنيف (رواية).
وتنطبق تلك النسبة المتعلقة بنجاح العمل الروائي على نجاح السيرة الروائية فنياً، لكن السؤال الأهم هو، إلى أيّ حد يمكن للمؤلف أن يفصل ما بين مخيلته كروائي، وبين أدواته كسارد يحكي الواقع بصدق متناه، بحيث يرسم لحياته صورة واقعية بكل سلبياتها، وإيجابياتها، بما أنه يروي سيرته، وبينه وبين القارئ عقد توثقه حسن النوايا، وأن السيرة بأيّ شكل من الأشكال ميثاق بين القارئ والكاتب.
وفي هذا السياق أستذكر رأي ذائع الصيت غابرييل غارسيا ماركيز في سيرته الروائية “عشت لأروي”، حينما قال إن “الحياة ليست ما يعيشه أحدنا. إنما ما يتذكره، وكيف يتذكره”.
وأستذكر أيضاً ما صرح به في نهاية “عشت لأروي” مشيراً إلى سيرته وهو يقول “يجب أن تعتبر جزءاً هاماً من أعمالي التخيلية، لأنها ليست سوى هذا: تخيّلات حول حياتي”.
وهذا المثال يقودنا إلى أن الحقيقة -حقيقة الأحداث التي ينشدها القارئ من حيث صدقية حدوثها على أرض الواقع- محض وهم لا يقلق الروائي أثناء إنجاز سيرته الروائية. وأن هنالك تمازجاً قوياً -أحياناً يكون غير محسوس من قبل الروائي- بين مخيلته التي كانت وراء صناعة عدد من الروايات، وبين سيرته التي يفترض أنها ما مر به من أحداث.
ورغم أن الكثيرين يرون أن الفاصل ما بين الخيالي والواقعي في السير الروائية، هي الحقيقة ذاتها، ومدى صدقيّتها، ليس فقط لكثرة الشواهد عليها زمانياً ومكانياً، إنما، كما يرون، لتلك الملامح والسمات التي يحملها الحدث في طياته. وهنا لا أتطرّق للسير الروائية التي وجدت من يشي بصدقيّتها، إنما بتلك السير التي وشت بخياليّتها بمحض ذاتها، كونها لا تحمل ما يشير إلى ذلك.
ففي عدد لا يستهان به من السير الروائية لروائيين عرب، كُتبت من باب اطّلاع القارئ على تاريخهم، والعوامل والأحداث التي ساهمت بتشكيل وعيهم الروائي، نجد أن هنالك بعض الأحداث التي سردت في تلك الكتب، قد ساهمت في صنعها المخيلة الروائية، أكثر مما ساهم في صنعها المؤلف كشاهد عيان على ما حدث له، وما وقع حوله من أحداث كان شريكا بها بنسب متفاوتة.
ويرى الكثير أن هذا تزوير للواقع، وتنصيب ذاتي من قبل الروائي لذاته، بحيث يوهم القارئ أنه عاش أحداثاً، ومر بتجارب استثنائية كان لها الدور الكبير في تشكيل وعيه، وعلاقته بالكلمة. ويعدّ حكم القارئ هذا صائباً من أكثر من جهة، كون العلاقة التي تحكمه بالروائي ما زالت تجملها تلك الهالة من القداسة، لكن إن أتينا لدور المخيّلة في صياغة تاريخ الروائي في سيرته، علينا أن نأتي لها أيضاً من جهة سيكولوجية تعنى باللاوعي، وأحلام اليقظة، وتاريخ الانكسارات والهزائم السرية التي تمور في دواخله.
فالروائي حتى في كتابة سيرته، لا يستطيع أن يكون منفصلا عن مخيلته التي ترتبط ارتباطاً وثيقا بالأحلام والخسارات التي يقاسيها. وهو حين يصنع أحداثا لم يعشها، إنما هو يصنع ما لم يحققه الواقع له، وما لم يكتب في رواياته. كأنه في هذه الحالة يجابه واقعه بما يخرج عليه، وهو يعي أنه يجانب الحقيقة دون أن يدري أنه كتب ما كان يمكن أن يحدث.
في حوار لإمبيرتو إيكو، وفي حديثه عن ذاكرته وعلاقتها بما كتبه في رواياته، يقول “اتضح لي أنني لست قادرا فقط على تذكر أشياء نسيتها، بل وأشياء كنت متأكدا أني لم أتعلمها”.
إذ أن هذا التصريح المهم يأخذنا إلى حقيقة مفادها، أن هنالك مساحات في السيَّر الروائية، عادة ما تكون مخصصة، دون وعي عند البعض، لكتابة ما لم تستوعبه رواياتهم لسبب أو لآخر، فتتم كتاباتها بعيداً عن شروط الرواية، وقريباً من تلك السكينة التي تخالج البعض في سرد تلك الأحداث، وكأنها حقاً حدثت.
إن ما يحدث لأولئك الروائيين، هو بناء شكل من أشكال رفض المهشّم، ورفض الضائع، وذلك بصياغته بنسق يراه البعض تحريفياً، ولكن في الواقع له جذور في اللاوعي، وفي المساحات السرية التي تحتوي على تلك الشروخات والانكسارات، التي لا يمكن أن تخفى على المتمحّص في منجزاتهم الروائية، كون الروائي لا يمكن أن يكون منفصلاً تماماً عن عمله، وأن شخصيته لا بد أن تكون حتى ولو في شخصية فرعية من شخصيات الرواية.
لكنّ هنالك روائيين نجحوا بتمرير مُتَواريات مساحاتهم السرية في أعمالهم، فما عادوا بحاجة لسيَر روائية، أو ما عادوا بحاجة لنسبة واضحة من دور المخيّلة في صياغة تلك السير. فقد اعترف الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير أنه هو “مدام بوفاري”، في روايته الشهيرة التي حمل عنوانها نفس الاسم. واعترف نجيب محفوظ أنه هو كمال عبدالجواد، في ثلاثيته الشهيرة. كما اعترف إمبيرتو إيكو أيضاً بعد أن رأى أن “كل رواية سيرة ذاتية” أنه هو “belbo” عازف الترومبيت في رواية “بندول فوكو”، وأنه أمضى زمناً يعزف على آلة الترومبيت هذه. وفي هذا السياق كثير من الأمثلة التي تشير إلى ذلك.
وما يمكن أن نخلص إليه، أن الذي نراه سطواً للمخيلة على سطوة الواقع المحكي عنه في السير الروائية، ما هو إلا سطو غير محسوس لدى بعض الروائيين، وما هو إلا انعكاس لما أحدثه ضياع الأحلام، ومُقاساة بعض النوازع والآلام الخفية. إنها الأشياء والحوادث التي لم تذكر في رواياتهم، والتي لم تستوعبها شخصياتهم الروائية. وهذا لا يعني بالضرورة نسف كل السير الروائية، وإضفاء ميزة الخيالية على مجملها العام، بل إن هنالك سيراً روائية، حافظت بشكل كبير على تلك الصدقيّة التي ينشدها القارئ. لكن هذا لا ينفي أن المخيلة ستبقى تسطو على سطوة الواقع في هكذا أعمال أدبية عظيمة.