السيلفي بوصفه تمجيدا للتفاهة
جونثان دوداي
“السيلفي” selfie هو أسلوب تصويرٍ فوتوغرافي، ويتمثّل في أن يلتقط المرء صورة ذاتية لنفسه وبنفسه دون تدخل من شخص آخر يظل عديم الفائدة لحظةَ التصوير. اشتُقت كلمة “السيلفي” من المفردة الإنكليزية “سالف” self التي تعني “ذات”، وبالتحديد “ذاته”. لكن أهل الكيبيك، الذين يرفضون إدماج أي كلمة إنكليزية في اللغة الفرنسية، يستعملون مصطلحَيْن يوضّحان لنا، في الوقت نفسه وبشكل أفضل، معنى الكلمة والإشكاليات التي تطرحها. إذ هم يستعيضون عنها بـ”صورة ذاتية” autophoto أو بتعبير أفضل هو “بورتريه ذاتي” égoportrait.
توضّح العبارة الأولى معنى كلمة “السيلفي” عبر تركيزها على فكرة الصورة الشخصية التي يأخذها الشخص لنفسه، بينما تفتح العبارة الفرنكوفونية الثانية المجال لتفسيرات إشكالية بشكل واسع؛ إذ تحيل مباشرة مفردة بورتريه في عبارة “بورتريه ذاتي” على فكرة الأثر الفني، أي الصورة الشخصية، أو بالأحرى البورتريه الشخصي. غير أنه من الصعب إدراج هذا الإنتاج الفوتوغرافي في مجال الفن، بل إنه لا يمكن إدراجه حتى في خانة الفن المعاصر على كثرة خلوه من القيمة الجمالية التي كانت للفن قديما. كما تكشف تلك العبارة عن مسألة أخرى هامّة، وهي أنها تحيل عبر استعمالها لكلمة “الذات” في معناها الأكثر بساطة إلى “الأنا”، يعني إلى فردية كل شخص، بمعنى إلى الـ”أنا” في مفهومه الأكثر شمولا وكلاسيكية. وبما أنّ الاشتقاق من أساسيات اللغة، فإن الاستعارة باعتبارها فعل تغيير للمعنى تبدأ بتقديم كلمات أخرى تأخذ مكان التعريف الأصلي. وبسبب قوة الاستعاضة التي في الاستعارة، نلاحظ أنه في بعض الأحيان يكون هناك بديل لا يعبر عن الكلمة الأصلية حتى وإن كان قريبا حرفيا من معناها، ذلك أنه لا توجد استعارة لا تستبطن المعنى، بل هي تبتعد به بشكل مدروس ابتعادا يكشف نوعا ما عن نزوح ذاك المعنى نفسه، ولعلّ كلمة ذات Ego تندرج ضمن هذا النوع من الكلمات، فنحن في العادة نفهم هذه الكلمة على أنها نوع من الكبرياء، وهو ما يجعل تعبير “الاعتداد بالذات” يشير إلى كوننا نمتلك نوعا من الغرور مثل ذاك الذي ينتاب شخصا مصابا بتضخم الأنا. هنا، لن نشغل أنفسنا كثيرا بالمعنى الفلسفي للذات بما أن الأمر يتطلب تقويما فكريا للاستعمال المعتاد للكلمات، وهو ما سنبحث فيه في القسم الثاني من المقالة.
انطلاقا من أحداث واقعية، تخيل أنك ذهبت مع أصدقائك أو مع عائلتك في رحلة إلى المرتفعات الرائعة لمتنزه غراند كانيون. وبما أنّ الطقس كان يومها جميلا، فإنك قررت أن تخلد تلك اللحظة عبر التقاط صورة أمام تلك المناظر التي لا يتسنى رسمها إلا للطبيعة. ولكي لا يُستثنى أحد من الصورة، فإنك توجه عدستك نحوك أنت وأصدقائك مادا ذراعك إلى الأمام أو مستعينا بعصا «سالفي». وللأسف، يحدث أن تكون غير راض عن المشهد، لأن الإطار لم يشمل مثلا أحد أصدقائك أو لأنك تخفي بما يظهر من جسدك الجبال التي خلفك.
وعليه، قررتم أن تتراجعوا إلى الوراء من أجل إيجاد الزاوية الصحيحة لتشمل الصورة كل أصدقائك والمنظر الخلاب من ورائكم. للأسف مرة أخرى، ولكثرة تراجع من معك إلى الخلف، فإنهم وجدوا أنفسهم على شفير الهاوية، وانتهى بهم الأمر إلى السقوط في الوادي دون أن يتمكن ذلك «السيلفي» من تخليد ذكراهم. هذه الحادثة وقعت سنة 2015، ولقي أثناءها اثنا عشر شخصا حتفهم. إنّ أمثلة هذه الحادثة كثيرة، ومن بينها، وفاة سائح ياباني في السادسة والستين من عمره، وإصابة رفيقته بجروح، بعد أن سقطا كلامهما على مدرجات “تاج محل” وهما يحاولان أخذ صورة سالفي. هذا إضافة إلى موت متجول مصعوقا بالكهرباء في ويلز بسبب عصا السيلفي التي لامست عمودا كهربائيا، كما مات ثلاثة طلاب في الهند عندما رغبوا في أخذ صورة أمام قطار قادم، وسقطت شابّة كانت تحاول التقاط صورة مع حبيبها من منحدر صخري في جنوب أفريقيا، إلخ… لا يمكن للمأساوي أن يشد معالم الواقع، وغالبا ما ينتهي به الأمر إلى أن يصير هزليا. ولكي لا نبدو متبجّحين بمساوئ السيلفي، نستفيد هنا من قول برغسون “الضحك تحديدا هو علاج الغرور، والغرور عيب هزلي أساسا”، لنسأل: كيف يمكن مقاومة الضحك أمام الغرور الذي تعبّر عنه تلك المشاهد الإنسانية، وتلك السخافة المفرطة في طابعها البشري؟ في النهاية، هذا الفن الشعبي سيقتل أكثر ممن ستقتلهم أسماك القرش في نهاية السنة (بلغ عددهم 8 في 2016). ربما سيقوم إعلان إشهاري، ذات يوم، بتوعيتنا حول مخاطر التقاط الصور بأنفسنا ويدعونا إلى تبني شعار “الصورة التي يأخذها لنا شخص ثان هي الأفضل”.
إنّ الرغبة في إثارة الضجّة (البوز buzz) غالبا ما تترجم الغرور البشري عبر ما يعلن من قدرة على جعل نفسه سيدا للطبيعة ومدمرا لها. عند قضاء عطلتهم في كوستاريكا، تسبب بعض المتواجدين هناك بشكل غير قانوني في إرباك السلاحف أثناء فترة مبيضها بالتقاطهم صور سالفي معها، وهو ما جعل هذا النوع الهش من السلاحف يتخلى عن طقس أساسي من طقوس استمراره. يمكن اختزال ما يصف هذه الحادثة في كلمة محددة: السّائح. لكن من هو السائح؟ إنه كائن حي ينتمي إلى فصيلة البشر لكنه لا يمتلك أي سمة من سمات آداب السلوك أو الثقافة أو حسن التدبير، ويؤمن بمذهب التمتع على طريقة كاليكلاس، إذ دون اكتراث لوجود الآخرين، يسعى إلى الاستمتاع، والمتعة هنا بالنسبة إليه تبرر كل الوسائل المستعملة فيها.
“تريد أن تعرف يا سقراط ما هو الجميل والصحيح وفقا للطبيعة؟ حسنا سأخبرك بصراحة. من أجل العيش بشكل جيد، على المرء أن لا يقمع رغباته الخاصة، وأن يترك لها القياد مهما يكن حجمها، وعليه أن يكون قادرا على وضع شجاعته وذكائه في خدمة رغباته من أجل إروائها حال ظهورها”. يأخذ السائح، عندما يصادف حيوانا مهددا بالانقراض، صورة سالفي معه، وذلك من أجل تخليد اللحظة. وقعت هذه الحادثة على شاطئ في المحمية الطبيعية بـ”أوستيونال” في غرب كوستاريكا أين يحدث كل سنة أمر خارج عن المألوف ألا وهو فترة بيض سلاحف البحر الخضراء. يأتي هذا النوع المحمي نظرا لهشاشته في نفس الفترة دوما، ليتزاوج ويصنع أعشاشه في ذلك المكان العدني، وهو أحد الأماكن النادرة التي لا تزال غير مهددة بالتلوث والتصنيع والصيد المفرط.
من المعلوم أن هذا الطقس، بالغ القدم، ضروري لاستمرار هذه الحيوانات. لكن خلال تلك السنة لم تجر عملية البيض كالمعتاد، لأن مئات السياح كانوا قد هرعوا إلى الموقع بدعوة من منظمي الرحلات وغزوا المكان وأربكوا السلاحف مانعين إيّاها من التقدم نحو أطراف الشاطئ، بل إنهم قد أركبوا أطفالَهم فوق ظهورها، واستغل بعضهم الفرصة لسرقة بيضها. عدد كبير من السلاحف الخائفة عادت إلى البحر حسب تقرير جريدة “لبيراسيون”، ناهيك عن صغير الدلفين الذي قتلته مجموعة من السياح عندما التقطوا معه صور «سالفي» سخيفة، ممّا جعل جسده يتعرّض إلى الجفاف. إننا لنشعر بالاستياء حتى وإن اعترفنا طوعا بأننا سنظل دوما سائحين بالنسبة لكائن ما. غير أنه بعيدا عن هذا السخط الأخلاقي، بل وبالغ الأخلاقية، قد حان الوقت لنفلسف هذه الظاهرة.
يعتبر السائح المدن والمواقع الطبيعيةَ والمعالم التاريخيةَ منتزهات سياحية متعددة. وبذلك، يتحول كل شيء إلى ميدان لعب، تكون فيه “البلدان أماكن ترفيه”. فالشاطئ المكتظ بالسلاحف يصير حديقة حيوانات، وتغدو تلك الحيوانات ميكي ضخما من ديزنيلاند. يأخذ السائح صورا لأطفاله ويضعها على مواقع التواصل الاجتماعي ليصنع المشهدية. كل ما هو نادر لا يظل نفيسا بل يصير مفاجئا رغم أن “المفاجئ هو شيء ميت… حال التعبير عنه” كما تورد ذلك ياسمينة رضا على لسان إحدى شخصيات مسرحيتها “Art”، والزائل يصير الشيء الوحيد المهم في مقابل اضمحلال قيمة الدائم.
إن غاية هؤلاء السياح هي التأثير على العقول والتميز بكثرة صور «السيلفي » التي تملأ الإنترنت، وصورة “سالفي” مع رفقة جيّدة تمكنهم من الخروج من الحشد وتجعل “الأنا” قابلة لأن تلاحظ وتشد الانتباه. هدفهم هو الحصول على أكبر قدر من المديح من أجل تمجيد تفاهة وجودهم. و«السيلفي» هو أحد أعراض الشخصية الأنانية لإنسان ما بعد الحداثة الذي لا يكفيه التقاط صورة سالفي أمام برج إيفيل بل يجد أن صورة مع السلحفاة أكثر تأثيرا. موت هذه الحيوانات ليست له أدنى أهمية والحياة الاجتماعية هي المنتصر الوحيد في هذه المعركة.
ينقل لنا أوفيد في “تحولاته” أسطورة نرسيس. لكن ما هي هذه الأسطورة؟ سئل العراف تيريسياس عند مولد نرسيس إن كان هذا الأخير سيصل إلى الشيخوخة، فأجاب بأنه سيعيش أكثر من ذلك شرط ألا يشاهد وجهه. مع تقدمه في السن، حظي نرسيس بوسامة فاتنة مشوبة ببعض الكبرياء وباعتداد بالنفس كبير.
لم يكن يحرك مشاعره طلاب ودّه، بل كان يظل باردا كالرخام. توجّهت الحورية “صدى” التي رفض حبّها إلى السماء، وقدّمت شكواها فيه، فاستمعت إليها الإلهة نيميسيس باهتمام وقررت أن تستجيب لها. ذات يوم، وعندما كان نرسيس يشرب من نبع بعد يوم شاق من الصيد، رأى انعكاس صورته في الماء فأُغرِم غراما كبيرا بالوجه الذي رآه. توالت الأيام، وواصل نرسيس خلالها تأمّل انعكاس صورته في الماء، وكان يتعذب بسبب عجزه عن الإمساك بوجهه وامتلاكه.
كان نرسيس يزداد هزالا كل يوم، وكانت الحورية “صدى”، رغم عدم غفرانها له، تشاطره ألمه مردِدة قوله “للأسف، للأسف” في شكل صدى. انتهى الأمر بنرسيس إلى الموت بسبب شغفه العقيم بصورة وجهه. لكن حتى بعد موته، تواصل هوسه عبر محاولته تمييز ملامحه في مياه ستيكس.
هذه الأسطورة معاصرة بشكل دائم، بل هي أيضا، وفقا لجيل ليبوفتسكي Gilles Lipovetsky، الأسطورة المؤسسة لمجتعات ما بعد الحداثة، وبالخصوص مجتمعات القرن الحادي والعشرين. إن إنسان «الهومونرسيسوس» Homo Narcissus “مهووس بذاته في بحثه عن تحققه الشخصي وتوازنه”. ينظر إلى نفسه في شاشة هاتفه المحمول مثلما كان نرسيس يحدق في انعكاس قسمات وجهه في الماء. يرغب في أن يعشق ويحب صورته، وفي أن يعجب الآخرين، وأن يكون محبوبا من لديهم، لكنه عاجز عن أي حب باستثناء حبه لذاته.
لا يعرف «الهومونرسيسوس» كيف يقيم أي علاقة، ولا يحب شيئا أو شخصا ما لم تؤجج هذه الأشياء الرغبات نحوه هو ذاته. إنه أحد الأعراض المرضية لمجتمع المظاهر فـ”دمار العلاقات غير مهم طالما أن الفرد قادر على الانشغال بذاته”. لقد تخلى إنسان ما بعد الحداثة كليا عن الحب باعتباره رابطا ميتافيزيقيا بين اثنين، وانشغل بدأب على تحرير الأنا بغاية بلوغ أكبر قدر ممكن من الحرية الذاتية والاستقلالية، فهو يستوعب شعاره الذي يتلخص في هذه الجملة “يكفيني أن أحب ذاتي، ولذلك أنا لا أحتاج إلى إنسان آخر ليجعلني سعيدا”.
ماذا يفيد حب الآخرين وحب المجتمع عندما أكون أنا نفسي قادرا على تلبية احتياجي العاطفي والحصول على الاعتراف الذي يمنحني الانطباع بأني موجود؟ النرجسية ليست دليلا على الوجود وإنما على تأكيده. «الهومونرسيسوس» يعيش لنفسه وداخل نفسه، ويسعى إلى لفت انتباه الآخر الذي يزيد من نرجسيته.
إن هذا الآخر لا يقوم بالاعتراف به، لكنه يقوم بتأكيد أن انعكاسه (في صورة السيلفي) يستحق أكبر قدر من المديح ومن اللايكات والتويتات والإعجاب، وكلها مفردات تضخم الإغواء الذاتي الذي يشكل شخصية النرجسي. يتغنى «الهومونرسيسوس» قائلا “انظر إليّ، وهذا يكفيني”، وهو دليل على أن الفردانية تتخذ أشكال تشخيص العالم. لئن لم يكن نرسيس، في الماضي، يمتلك إلا فضاء الأسطورة، وكان دوره فيها ينحصر في توصيف غرور الطبيعة البشرية، فإنه قد صار له، اليوم، ألف وجه ووجه، وكلها وجوه متطابقة وملونة بفلاتر اصطناعية وبشاشات غبشة، يحاول الجميع من خلالها أن “يتنرجسوا” لكي يحققوا وجودهم أكثر قليلا. تحوّل “الهموسابيان” إلى “هومو فيبر” وانتهى به الأمر إلى «هومونرسيسوس» يتبدى ويختفي في شرارة فراغ واحدة.
ترجمة: سامية شرف الدّين، أستاذة الأدب الفرنسي، تونس