السينما وحرب الفايروسات

الخميس 2021/07/01

عَطَّل فايروس كورونا المشاريع السينمائية مثل كافة الأجناس الفنية الأخرى، فتقلصت فاعلية الإبداع السينمائي في مختلف البِقاع، وسرعان ما انحدرت إنتاجِيَّة الأفلام على الصعيدَيْن العربي والعالمي بدرجات متباينة، فتراجعت المهرجانات الكبيرة بدورها وتم تأجيلها إلى مواعيد مستقبلية، كما أغلقت دور السينما بما فيها تلك القديمة والشهيرة مثل دار العرض “ذا ستيت ثياتر” في واشنطن، ما سبب خسارات كبيرة في الصناعة السينمائية بحلول سنة 2020.

على إثر ذلك انهارت أرباح شباك التذاكر، إذ تحوّل عرض الأفلام من الشاشات الكبيرة إلى المنصات والمواقع الإلكترونية التي أصبحت تتفاقم باستمرار دون بلوغ أرباح ما تحققه قاعات السينما، فبات البَثّ بصيغة الفيديو على شبكة الإنترنت شائعا أكثر فأكثر، كوسيلة رقمية بديلة للتوزيع (نموذج نتفليكس)، ما أدى إلى انخفاض مخزون العارضين. مع ذلك، لقيت منصات الأفلام إقبالا منقطع النظير، وأصبح تفعيلها المُستدام يُشكّل منافسا حقيقيا لصالات العرض، ما يدعو للتساؤل عن مآل هذه الأخيرة؛ فبالرغم من كونها باتت مرهونة بواقعها الراهن والموصول بفترة محدودة فحسب، إلّا أن هذه الوضعية المرحلية قابلة لتكريس قدر من التأثير في معزل عن سَيَران تنفيذ الإجراءات الوقائية بعد القضاء الشامل على الفايروس.

ببب

 في المقابل، ومهما كانت ظروف التصوير عصيبة للغاية، فقد عزم عدد من المخرجين على جعل أوضاع الجائحة ومُخَلَّفاتها موضوعا لأعمالهم الوثائقية والروائية على حد السواء، وهي الأفلام التي تجري الأشغال على إنجازها في ظل التدابير الاحترازية الصارمة. ولطالما شغلت مواضيع الأوبئة والأمراض والكوارث الطبيعية والتراجيديات الإنسانية جزءاً يسيرا من تاريخ السينما، من الأفلام الوثائقية والتسجيلية التي ترصد وتحلل وتحصي وتَتَقَصّى الظواهر وتستكشف الخلفيات انطلاقا من صور الواقع والأحداث، إلى الأفلام الروائية الطويلة التي تقارب واقع الحال بالاستناد إلى الكتابة الحرة الموصولة بالخيال ومختلف المؤثرات الخارجية لخلق امتدادات جمالية تعمل في الغالب على تصعيد الأحداث وتكثيف التفاعل لدى الجمهور الواسع.

يؤكد قيس قاسم (الجزيرة الوثائقية، 11 يونيو 2020) على أن تَخَصُّص الوثائقيات وحرص بحثها على جانب واحد مَكَّنها من عرض تفاصيله بشكل دقيق، ما جعل بعضها يُعَدُّ مرجعا بصريا في مجال الأمراض والأوبئة، مثل الوثائقي الأميركي “إنفلونزا 1918” للمخرج الأميركي روبرت كينر، نظرا لأهمية أسلوبه الملحمي والتاريخي الذي يجسد مراحل ظهور الجائحة في الولايات المتحدة حينها، واعتماده شهادات حية مؤثرة لأولئك الذين فقدوا أحبتهم وذويهم، وكذا وقوفه عند مفهوم “مناعة القطيع” باعتباره من أهم المفاهيم العلمية ذات الصلة، وبتأثير من هذا الفيلم الأخير صَوَّر ستيفان هيلدبران مخرج الوثائقي السويدي القصير “الإنفلونزا الإسبانية” بدوره شهادات أطفال عايشوا فترة انتشار المرض، كما اعتمد مقابلات جديدة تفتح نقاشا حول الحق في توسيع حقل الوثائقي، الشيء الذي مكنه من معلومات وأراء جديدة.

في حين، يحيلنا قيس قاسم على العديد من الأفلام الوثائقية ذات بعد مرجعي: “الموت الأسود” الذي أنجزته هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” حول وباء الطاعون عبر اجتهاد تقني وفني يروم إعادة تمثيل المراحل التاريخية التي مَرَّ بها وكيفية انتشاره في أوروبا بشكل خاص، “عودة للموت الأسود” للمخرج كيني سكوت (إنتاج “بي بي سي” مرة أخرى) الذي استلهم فكرته من خَبَر عثور عمال توسيع قطارات الأنفاق في لندن عام 1912 على هياكل عظمية مطمورة تحت الأرض، هياكل الأشخاص الذين فتك بهم الطاعون كما تبين ذلك بعد تحليلها، “تداعيات.. زيكا وإيبولا وما بعدهما” للمخرج جيمس بارات الذي أنجز الفيلم بنَفَس عِلْمي ومَلْحمي من خلال تسليط الضوء على تفاصيل أخطر الأوبئة التي عرفتها الإنسانية في العصر الحديث، “صراع ضد إيبولا” الذي أنتجه الصحفي داني غرين خلال رحلته لتغطية الحملة الطبية المُوَجَّهَة بأمر من الرئيس الأميركي باراك أوباما لمكافحة وباء “إيبولا” الذي اجتاح ليبيريا وقتل مئات الآلاف من سكانها، ما يعكس شجاعة إقدام رجال الإعلام على ولوج أكثر المناطق خطورة من أجل نقل ما يجري في العالم، فيما يثير الوثائقي شجاعة العاملين والمتطوعين في المنظمات الإنسانية التي قدمت من أنحاء العالم المتفرقة لتقديم يد المساعدة اللّازمة بدافع إنساني.

ببب

من جانب آخر، يبقى فيلم “كونتيجن Contagion، 2011” (عدوى) لمخرجه ستيفن سودربيرغ من أقرب الأفلام الروائية الطويلة التي عكست صور انتشار الوباء قبل عشر سنوات، إذ استطاع سيناريو الفيلم أن يحاكي الأحداث شديدة القرابة من أوضاع تفشي فايروس كورونا، وذلك من خلال أحداث الفيلم التي تدور في آسيا، حيث يظهر فايروس شديد الانتقال يؤدي إلى مقتل الآلاف من الأشخاص في خضم تخبط حكومي من أجل إيجاد علاج عاجل والسيطرة على حالة الرعب الجماعي. وفي السياق، أعلنت شركة “وارنر برازرز” التي أنتجت الفيلم (ضم نخبة من نجوم السينما العالمية من قبيل مايكل دوغلاس، مات ديمون، جود لو، غوينث بالترو، كيت وينسلت) أن “ترتيب الفيلم جاء في المرتبة 270 في دليلها لشهر كانون الأول 2019 لأكثر الأفلام شهرة، بعدما بدأت أخبار تفشي مرض كوفيد – 19 تظهر في الصين، غير أنه وبعد ثلاثة أشهر فقط، قفز فيلم كونتيجن إلى المرتبة الثامنة، وجاء مباشرة بعد فيلم “هاري بوتر”.

في الوقت ذاته، وبالإضافة إلى هذا الأخير، استعرض موقع “ديسايدر” في تقريره خمسة أعمال سينمائية أخرى ترجمت تفشي وباء يتَّجِه نحو القضاء على الجنس البشري: “أوتبريك Outbreak، 1995” (اندلاع)، من إخراج وولفغانغ بيترسن الذي يدور حول تفشي فايروس ذي تأثير شبيه بإيبولا في كاليفورنيا ويكشف أحوال الوضع لدى فريق من العلماء الذين يبحثون سبل العلاج، “Days Later 28، 2002” (بعد 28 يوما) من إخراج داني بويل الذي يتناول انتشار فايروس غامض في إنجلترا ويكشف كيف حاولت قِلَّة من الناجين إيجاد مأوى يقيهم من الإصابة، “World War Z، 2013” (حرب الزومبي العالمية)، من إخراج دافيد فينشر ويدور حول موظف الأمم المتحدة السابق الذي يسافر حول العالم لإيجاد علاج لفايروس فتّاك يهدد بتدمير البشرية، “Train To Busan، 2016” (قطار بوسان) من إخراج سانغ – هو يون الذي يتناول أحداث ركاب قطار خلال سفرهم ضمن محاولتهم النجاة من فايروس يَمْسخ البشر ويُحولهم إلى موتى أحياء (زومبي) في كوريا الجنوبية، ثم سلسلة أفلام “ريزدنت إيفل Resident Evil، بين 2002 و2016″ التي استوحاها بول أندرسون من لعبة فيديو بنفس الاسم، وتدور حول عملية بقوى خارقة تُحارِب شركة فاسدة صنعت سلاحا عضويا يحول البشر إلى موتى أحياء.

هكذا يتحول الخيال والفانتازيا لدى المؤلفين إلى ما يحاكي أحوال معيشنا الراهن  في ظل كوفيد – 19 بكثير من التقاسم، وبخاصة مواضيع التنبؤ بنهاية العالم وما يتعلق بالأوبئة والتلوث وحرب الفايروسات. ومن ثمة، تؤكد هوليوود أكثر فأكثر على تكريس أميركا كقوة منقذة عظمى وخارقة للبشرية، فيما أصبحنا نجد أنفسنا مع سيناريوهات أفلام الخيال العلمي قريبين كل القرب من واقعنا الذي صار مقرونا بصور الذُّعر والرُّعب والتراجيديات التي سيطرت على كبريات الدول بدورها، ضمن أحداث الجائحة السائرة في التحول والتطور.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.