الشعبوية وشعرية السؤال
قبل أن تتحول نزعة «الحداثة» في الشعر العربي إلى نظرية في «الحداثية» منهمكة في عملية استكمال شعرية التجنيس والأداء والخطاب، أي في مستهل خمسينات القرن الماضي، نشر نزار قباني قصيدة «خبز وحشيش وقمر» اللافتة والتي بدا فيها الشاعر مُشَرّعاً للبشرية أشبه بالإله الروماني جانوس المُحَدّق في اتجاهين متعاكسين في وقت واحد، في الماضي والحاضر معاً.
هذه القصيدة الجسورة التي حاولت الإجهاز على أبقار كثيرة مقدسة لم تثر لدى النقاد أصداء تتجاوز السياسي إلى الثقافي، والثقافي إلى الكينوني «الأنطولوجي» رغم أنها مسَّت ما يطلق عليه بعض علماء الاجتماع مصطلح «الكبرياء الممأسسة»، أي الكبرياء المتهورة والمنقلبة على أيدي صانعي القرار إلى غرور ساحق ماحق من النوع الذي يقود البطل في التراجيديا الإغريقية إلى شفير الهاوية.
في مستهل المس بما اعتبره اليمين واليسار «كبرياء ممأسسة» يقول نزار:
«عندما يولد في الشرق القمر
فالسطوح البيض تغفو
تحت أكداس الزَّهر
يترك الناس الحوانيت.. ويمضون زمرْ
لملاقاة القمر
يحملون الخبز والحاكي إلى رأس الجبال
ومعدّات الخدر
ويبيعون ويشترون.. خيالْ
ويموتون إذا عاش القمر
ما الذي يفعله قرصُ ضياءْ
ببلادي
ببلاد الأنبياء
وبلاد البسطاء
ماضغي التبغ وتجار الخدرْ
ما الذي يفعله فينا القمرْ؟
فنضيع لنستجدي السماء
ما الذي عند السماء
لكسالى ضعفاء
يستحيلون إلى موتى
إذا عاش القمر..؟».
ويتابع نزار في سردية يتجاوز فيها شجاعة مناهضي النزعة الشعبوية:
«ويهزّون قبور الأولياء
علها..
ترزقهم رزاً وأطفالاً
قبور الأولياء..
ويمدون السجاجيد الأنيقات الطرزْ
يتسلون بأفيونٍ
نسميه قدرْ
وقضاء..».
والحال أن المس بـ»الكبرياء الممأسسة» هذه، على صعيد جمعي، مساً لا ثأثأة ولا فأفأة فيه لم يسفر آنذاك عن كارثة بل عن ثورة جمهورها شعبوي المنزع وأبطالها سياسيون يمثلون في مجلس النواب السوري اليمين الديني المحافظ واليسار القومي والماركسي. هذه الثورة العارمة لم تتردد بالمطالبة بطرد الشاعر من الوظيفة والبلاد بل وتجريده من جنسيته وحقوقه المدنية والسياسية.
ولعل ما ادعوه بشعرية «الكشف» التي اتسمت بها قصيدة نزار هذه التي اعتبرت أن أعذب الشعر أصدقه لا أكذبه، تبدو الآن، بعد مضي ما ينوف عن ثلاثة عقود على نشرها، نقيضاً تقويضياً لما عبر عنه الشاعر صلاح عبدالصبور في «الناس في بلادي».
وربما كان من الأفضل القول، نظراً لأن قصيدة عبدالصبور نشرت بعد قصيدة نزار، أن ما فعلته «الناس في بلادي»، على ما اتسمت به من جمالية خاصة، هو تكريس شعرية «الكبرياء الممأسسة» في الضمير الجمعي، وهي في تقديري شعرية ثبات مناهضة للتغيير تقف وجهاً لوجه أمام شعرية «الكشف» التي وضعت نزار في قلب الإعصار.
يقول نزار:
«في بلادي
في بلاد البسطاء
أي ضعف وانحلال
يتولانا إذا الضوء تدفق
فالسجاجيد وآلاف السلال
وقداحُ الشاي والأطفال تحتل التلال
في بلادي
حيث يبكي الساذجون
ويعيشون على الضوء الذي لا يبصرون
في بلادي..
حيث يحيا الناس من دون عيون..
حيث يبكي الساذجون
ويصلون ويزنون ويحيون اتكالْ
منذ أن كانوا يعيشون اتكال
وينادون الهلال:
أيها النبعُ الذي يمطر ماسْ
وحشيشاً ونعاس
أيها الرب الرخامي المعلق
دمت للشرق لنا
عنقود ماسْ
للملايين التي قد عطلت فيها الحواس..».
إذا أردنا تقرّي السبب الكامن وراء رد الفعل الهائج على القصيدة، يمكننا القول إن ثمّة أيديولوجيتين أو قُل أصوليتين تناهض كل منهما الأخرى أجمعتا على النظر إلى القصيدة باعتبارها انتهاكاً فظاً للمقدس. ففي حين رأى اليمين الديني (بلغة تلك الأيام).. رأى فيها محاولة لا يحتمل محمولها المعرفي تأويلاً آخر غير انتهاك ما اصطلح عليه البعض بأنه من قبيل السلوك المنفذ لتعاليم دينية، اعتبرها اليسار القومي والماركسي (بلغة تلك الأيام أيضاً) جرأة على التراث وعلى الشعب وتقاليده الاجتماعية.. جرأة لا تحتمل عملية انزياح تطرأ على المعنى الظاهري.
وكانت نقطة المحرق المشتركة هي أنه بينما كان الطرف الأول يرى الدين معادلاً للهوية الثقافية، كان الطرف الثاني يعتبر التراث بصيغة القومية والشعبوية أُسّاً لهذه الهوية. وقد علمت من أستاذي الناقد صدقي إسماعيل أن أحد ردود الفعل على قصيدة نزار آنذاك، خبر نشر في مجلة «الثقافة الوطنية» منسوباً للصديق الشاعر شوقي بغدادي، مفاده أن نزاراً يوشك على نشر قصيدة أنجزها مؤخراً وموضوعها «الطمث».
هذه القصيدة المزعومة لم تر النور بطبيعة الحال. كان الخبر من قبيل القصف الأيديولوجي المركز والذي يتجاوز كونه دعابة بريئة. والحال أن دلالة الخبر، بما انطوى عليه من مفارقة، هي أن الشاعر الجمالي نزار ينبغي أن يلتزم موضوعه الأثير «المرأة» وأن يحاذر بذلك الاقتراب مما اعتبره مذهب الواقعية الاشتراكية آنذاك فضاءه الشعري الشعبوي الخاص به.
آية ذلك كله أن النقد العربي أخطأ كثيراً عندما أهمل مَوضَعَة «خبز وحشيش وقمر» في سياق تاريخي صحيح يؤكد على ريادة صاحبها كمفجر حقيقي للفكر الحداثي بمعناه الانقلابي الشامل، إن على صعيد البنية الإيقاعية نثرية المنزع والتي لا تضحي كثيراً بشعرية الأداء، أو على صعيد فهم وإدراك معنى الحداثة واكتماله من حيث وجوب تغيير النموذج المرجعي «البارادايم»، أي الصيغة المعرفية المعتمدة.
وبعبارة أخرى فإن قصيدة «الكوليرا» للشاعرة نازك الملائكة والتي يؤرخ بها بعض النقاد لبداية الحداثة الشعرية تبدو في ضوء ما سبق أبعد ما تكون «بسذاجتها المفرطة» عن ريادة الحداثة من حيث هي عملية تغيير مدينية على مستوى شعرية الشكل والمجتمع والكينونة وليس الشكل وحده. وأنا لا أقول ذلك من منطلق النيل من أهمية الملائكة ودورها الشعري المميز وإنما أود بهذه الملاحظة أن أُذَكرِّ بأن جل انشغالات الشعر العربي الحديث استهل بانشغالات نقدية تجنيسية وتفعيلية ذات منحى اختزالي.
وإذا أردنا إعادة صياغة هذا الاستنتاج يمكن القول إن نزعة الحداثة ظلت مجرد نزعة من بين نزعات وذلك من حيث صلتها بالتغير الاجتماعي والوجودي. فهي لم تنقلب إلى «الحداثية» التي دشنها أدونيس، وهي السائدة الآن على المستوى النخبوي.
أعود إلى قصيدة «خبز وحشيش وقمر» فألاحظ أن الشاعر نزار قباني كان سباقاً على المستوى الأدائي المتجاوز للنخبة في رفض فكرة اعتبار المعتقد المذهبي بصيغته الأصولية الممتنعة على القراءة التأويلية معادلاً لفكرة هوية ثقافية تتسم بالثبات.
كما كان سباقاً في الجرأة على ما يُظَن إنه جوهر ثابت للتراث أو التقاليد الشعبية الفولكلورية، أي جوهر مكافئ من حيث محمولة المعرفي لمفهوم الهوية الثقافية. فهذه الهوية تتصل بمفهوم الصيرورة قدر اتصالها بوجود ذي مفهوم جامع مانع. كما أنها تنتمي إلى المستقبل قدر انتمائها للماضي. وهي في منظور ستيوارت هول عالم الاجتماع المتميز ليست شيئاً موجوداً متعالياً على المكان والزمان والتاريخ والثقافة. فالهويات الثقافية تأتي عادة من مكان ما ولديها تواريخها الخاصة بها. ولكنها مثلها في ذلك مثل أيّ شيء تاريخي تتعرض لتحول مستمر. وهي بذلك أبعد ما تكون عن الثبات في بؤرة ماضٍ جوهراني ناجز، إذ تظل عرضة للعب المستمر من قبل قوى التاريخ والثقافة والسلطة.
بهذا الاعتبار تغدو شعرية الكشف في «خبز وحشيش وقمر» شعرية تعددية وشعرية حداثية وشاملة المنزع من حيث نقضها (وليس الاكتفاء بنقدها) لفكرة التشبث بالرعوي والشعبوي والريفي الساكن مقابل المديني الصاعد والمتغير:
«في ليالي الشرق لما
يبلغ البدر تمامه
يتعرّى الشرق من كل كرامه
ونضال
فالملايين التي تركض من غير نعال
والتي تؤمن في أربع زوجات..
وفي يوم القيامة
الملايين التي لا تلتقي بالخبز.. إلا في الخيال
والتي تسكن في الليل بيوتا من سعال
أبدا.. ما عرفت شكل الدواء
تتردى
جثثا تحت الضياء…
…………..
في بلادي
في بلاد البسطاء
حيث نجتر التواشيح الطويلة
ذلك السل الذي يفتك بالشرق..
التواشيح الطويلة
شرقنا المجتر تاريخا وأحلاما كسوله
وخرافات خوالي
شرقنا الباحثُ عن كل بطوله
في (أبي زيد الهلالي..)
…………..
عندما أعدت قراءة هذا النص الحداثي اللافت مؤخراً تساءلت: ترى أما آن الأوان لكي يلقي النقد العربي نظرة ريبية شكاكة حاملاً بوصلة لا تبهظها أحكام القيمة المسبقة، نظرة تمعن التحديق في سردية نقدية اهترأت وتهترئ لشدة الاعتماد على النقل والاجترار والاختزال؟