الشعبويّة والعِلم في مدار النقد

الخميس 2020/10/01
(لوحة رافي سركي)

كشفت الأزمة الصحية التي لم تشهد بعد انفراجها عن تحدّ غير مسبوق للعلم ومنجزاته، وصراع بين العقل والشعبويّة، حوّل المشهد الفرنسي الذي لا يزال يواجه فايروس كورونا ومخلفاته إلى عالم مانوي شبيه بالأفلام الأميركية حيث يقف الأبطال الأخيار للتصدي للسفَلة الأشرار، مع فارق كبير وهو أن المتابع لا يميّز هنا الأخيار من الأشرار.

من النادر أن يكون العلم باعثا للأمل ومثيرا للجدل في الوقت نفسه. فمن ناحية، يرجو الناس جميعا رجاء أشبه بالدعاء أن يتوصل العلم إلى ترياق يصد فايروسا حبس نصف البشرية داخل بيوتها، وينصتون آناء الليل وأطراف النهار إلى نصائحه وتوقعاته ويلتزمون بما يوصي باتباعه داخل البيت وخارجه حين يقتضي الأمر.

ومن ناحية أخرى ما انفكت أصوات كثيرة، خاصة من النخبة، تتعالى وتهدد بتحدّي سلطة العلم، وحتى الحقيقة، بدعوى رفض تسليم زمام الأمور للعلم حينا، واتّهامه بالقصور عن توقع الجائحة حينا آخر، ما يعني أنه لا يمكن أن يكون محلّ ثقة. بيد أن شبكة القراءة التي تريد فرض نفسها تسوّي بين ظاهرة الشك هذه وظاهرة أخرى سياسية هي الشعبويّة، ما جعل خط الفصل المعاصر محصورا في مواجهة ثنائية بين العقل والشعوبية، تهدد بإلغاء كل نقد للمؤسسات العلمية والسياسية معًا.

كميل فيري: ينبغي تحويل الاحتراس من العلم إلى النقد بدل الشك
كميل فيري: ينبغي تحويل الاحتراس من العلم إلى النقد بدل الشك

ولو أمعنّا النظر في عمليات سبر الآراء والدراسات الإحصائية وأصدائها في وسائل الإعلام، لألفينا أن الديمقراطيات الغربية تعاني من إيمان عددٍ متزايد من المواطنين إيمانا غير عقلاني بالأخبار الزائفة والحقائق المضادّة ونظريات المؤامرة، كقولهم إن التلقيح مضرّ بالصّحة، ونظرية التطور كذبة، والاحتباس الحراري بهتان.. دون أن يخضع ذلك للتحليل لمعرفة ما إذا كان رفض النظريات والبروتوكولات والعلماء ومؤسسات البحث والتطبيقات التقنية للعلم قائمًا على أسس منطقية، أو أنه يُستغلّ فقط لغايات سياسية، فقد جرت العادة أن تلقى تبعات هذه الظاهرة على عاتق الشعبوية وحدها.

والتلاعب بالأرقام والنّسب والأسئلة الموجَّهة لم يعد خافيا على أحد، ففي عملية سبر آراء أجريت مؤخرا عن علاقة العلم بالمجتمع، تمّ التأكيد إثرها على وجود مؤشّر احتراس من العلم بناء على أسئلة من نوع “هل تشعر أن العلم يقدم للإنسان من الخير أكثر مما يقدّمه من شرّ، أم قدر ما يقدّمه من شرّ، أم دون ما يقدّمه من شرّ؟”

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تمّ التأكيد أيضا على وجود مؤشّر شعبويّ بناء على أسئلة من نوع “هل السّاسة فاسدون؟ هل النظام الجيّد هو الذي يقرر فيه المواطنون ما يصلح للبلاد وليس الحكومة؟ هل تكون الديمقراطية أفضل لو يتمّ اختيار نوّاب الشعب عن طريق القرعة؟” ومن الطبيعي أن يكون المستجوَبون الذين يعتقدون أن القرعة يمكن أن تكون وسيلة ديمقراطية جيدة هم أنفسهم الذين يعتقدون أيضا أن العلم لم يقدّم للإنسانية من الخير قدر ما قدّم لها من شرّ، ما يعني أن الشعبويين لا يثقون في العلم والعكس بالعكس، وأن كلا الطرفين يلغي الآخر.

إن شبكة القراءة هذه تسمح لواضعيها بتفسير النجاح المتعاظم لقادة شعبويين عن طريق تحريف إدراكي للأفراد، ما يوهم بأن ذلك لم يكن نتيجة خيارات اقتصادية واجتماعية وسياسية (تزايد التفاوت، وعزل المجتمعات في أحياء شبيهة بالغيتو، وتفقيرها، وجعل السياسة مهنة كسائر المهن) كأسباب رئيسية في انتخاب دونالد ترامب أو خايير بولسونارو وفيكتور أوربان وسواهم، بل كنتيجة لاستعدادات ذهنية وسوء تقدير من ناخبيهم. أي أن ربط الاحتراس من العلم بالشعبوية تمّ تفسيره، حسب شبكة القراءة هذه، وفق تحليل للسلوكيات الفردية، المستوحى من نظرية “الانحرافات الإدراكية”، وهي نظرية ترى أن الظواهر السياسية التي لا تنحو منحى الوسط الليبرالي المتطرف هي قبل كل شيء نتيجة سلوك لاعقلاني.

فالشعبوية الوقائية تتمثل في تضخيم ما يُخشى حدوثه كالهجرة والبطالة والتصرف على ضوئه، وهو أيضا سلوك غير عقلاني يدفع نحو الغلوّ والتطرف. والمشكل هنا، كما تقول كميل فيري أستاذة الفلسفة بجامعة باريس العاشرة، يكمن في المرور السريع في مثل هذا التحليل من إدانة مخاوف مشروعة إلى إدانة كل نقد للأيديولوجيا المهيمِنة، في غياب أيّ معيار للتمييز بين الاحتراس والخوف من النقد والاستنكار.

جون ديوي: إذا انفصلت طبقة الخبراء عن الصالح العام تحولت إلى طبقة مصالح خاصة
جون ديوي: إذا انفصلت طبقة الخبراء عن الصالح العام تحولت إلى طبقة مصالح خاصة

ومن ثَمّ وجدنا شعبوية “يسار” تدين علما خاضعا لمصالح مالية، وشعبوية “يمين” تندد بعلم مؤدٍّ إلى الإفلاس باسم تقليد زائف، وكلتاهما تبدوان متساويتين متعادلتين، ما دام التوزيع على الرقعة السياسية يتم حسب الاحتراس، ولا يهمّ بعدها أسبابه أو دوافعه وحتى تحديد ماهيته. أي أن تلك الخطابات تضع في نفس المستوى مجموعات سياسية، على اختلاف مشاربها وتباين خطاباتها، بدعوى أن عمليات سبر الآراء تفيد أنها تلتقي أكثر من غيرها في نقد العلم، وبذلك يوضع في الخُرج نفسه دونالد ترامب والسترات الصفراء ومارين لوبان وجان لوك ميلنشون والمشككون في الاحتباس الحراري والمناهضون للقاحات.. ليشكل جميعهم تيارا واحدا، هو تيار الظلامية ضد الحقيقة.

لئن تجلى البعد الأيديولوجي في هذا الفصل بين العقلانية والشعبوية، فإنه يشير في بدايته إلى واقع حقيقي، إذ ثمة جملة من الحقائق المضادة تحتوي على آثار مضرة بالإنسانية، كالتشكيك في تدمير البيئة ونفي الحقائق التاريخية وتكذيب الداروينية والإيمان بنظريات المؤامرة. ولكننا نحتاج إلى تحليل أسبابها الحقيقية بدل إلقاء تبعاتها على خلل ذهني في تكوين الجماهير الغبية. من بينها سبب سياسي، هو مسعى جعلِ السياسة علمية في ديمقراطيات تعتمد على التقنيات بشكل واسع، ذلك أن تنظيم الرأسمالية الليبرالية يطوّع القرارات المشتركة لمعيارية اقتصادية حسابية يقدمها بانتظام زمرة من الخبراء المقربين من السلطة بوصفها حقائق أزلية، والحال أن تقديم خيارات سياسية كخيارات علمية يعرّض العلم نفسه إلى الشكوكية إذا ما تبين أنها غير مجدية أو أن لها عواقب وخيمة تضر بالبيئة أو الاقتصاد أو الأفراد.

ومن بينها أيضا سبب اجتماعي، وهو أن العلوم في عمومها ليست محايدة، إذا كانت نتاج ملاحظٍ بلا صفة. وبما أنها من إنتاج العلماء، فإن انتماءهم إلى مجموعة أو طبقة اجتماعية واحدة يجعل نتاجهم متأثرا بالضرورة بوضعهم الاجتماعي. من ذلك مثلا أن المشتغلين بالعلوم كانوا على مرّ القرون ذكورا، وهو ما يفسر تأخر الأبحاث في الجهاز التناسلي للمرأة، أو بعض الأمراض كانتباذ بطانة الرحم الذي لا يصيب غير النساء.

كما أن أبناء الأوساط الشعبية يظلون مبعَدين عن البحوث والعلوم إلا ما ندر بسبب فقرهم وضعف المنح التي ترصد لهم. ما يعني أن العلم ما دام مراسُه بأيدي الطبقات الغنية، فسوف يظل يعمل بالضرورة لفائدة تلك الطبقات، لأن الموضوعية والحياد ينجمان عن التعدد والمساواة، وإلا فـ”سوف تظل طبقة الخبراء منفصلة عن المصالح المشتركة بشكل تتحول معه إلى طبقة مصالح خاصة، وهذا لا يمثل في الشؤون الاجتماعية أيّ معرفة” كما يقول الفيلسوف الأميركي جون ديوي.

ثم إن التنظيم الاقتصادي للمؤسسة العلمية يساهم بشكل كبير في الاحتراس من المنتوجات، لأن نمط الإنتاج ليس بمعزل عن منطق الريع ومراكمة الأرباح الذي يخص المنظومة الاقتصادية الغربية بوجه عام، والفرنسي بوجه خاص. فالتمويل الخاص للبحث العلمي يحجب عن التداول الديمقراطي خيارات الاستثمار وأولويات البحث، في وقت يزداد فيه العلم حضورا في حياة الناس، ويحدد نمط عيشهم وإقامتهم في العالم. أضف إلى ذلك أن المال العام يواصل تمويل البحث بقوة، في شكل هدايا جبائية في الغالب، ولكن في غياب تامّ للشفافية، وهو ما سهّل استحواذ القطاع الخاص على المرابيح المتأتية من الاكتشافات، كما هو الشأن في سلسلة الدواء الذي تمّت خصخصته شيئا فشيئا خلال عشريات حكم ليبرالي.

البروفيسور راوولت المتهم بالشعوبية
البروفيسور راوولت المتهم بالشعوبية

كما أن منظومة البحث والتنمية والإنتاج والتوزيع في مجال منتوجات الصحة، التي يمولها دافعو الضرائب صارت بين أيدي الخواص بفضل منظومة براءات الاختراع. أضف إلى ذلك إلغاء القطاع الخاص لمراكز بحوث عديدة يموّلها المال العام، وصرفه مليارات من الأرباح للمساهمين، ورفضه رغم ذلك تنصيب المراكز محليا بدعوى ارتفاع التكلفة. فكيف يمكن في هذه الحالة فرض الثقة في سير فاقد للديمقراطية.

أمام وضع تلك سماته، تعتقد كميل فيري أن ما عاينّاه ينبغي أن يقودنا إلى تحويل الاحتراس إلى نقد بدل أن يؤدي بنا إلى التشكيك، وكل مؤسسة داخل بلد ديمقراطي ينبغي أن تجعل نفوذها مستندا إلى شرعيتها لا أن تفرضه من باب العمل بالمبدأ. والعلم لا يستثنى من القاعدة، فلكي يحافظ على شرعيته، عليه هو أيضا أن يخضع للنقد، وهذا من المبادئ الأساسية للشرعية الديمقراطية، “فعن طريق نقد ديمقراطي فعال للعلم وليس بفرض تسلطي لليقينيات يمكن أن نأتي على الحقائق المضادة” تضيف كيمل فيري.

مثل هذا النقد ينبغي أولا أن يقرر بشكل مشترك ما هو محيط سلطة العلم: على أيّ أسئلة يشتغل وما هي الأسئلة التي تكون فيها منظومات حقيقة وقيم أخرى، لها ما للعلم من أهمية في حياة البشر، أجدر بفرض قوانينها، فقد أثبتت أزمة كوفيد – 19 أن النصائح والتوقعات العلمية المحض لم تكن تملك غير معيار واحد أمام أبعاد اقتصادية واجتماعية وثقافية وحتى دينية، وما إلى ذلك من الأحداث التي تطرأ على المجتمع. ومن ثَمّ فإن المجموعة الديمقراطية هي التي تقرر الموقع السليم للعلم في تنظيم الحياة المشتركة.

وفي رأي الباحثة أن أيّ تطبيق للعلم على الحياة ينبغي أن يخضع لتقارير مضادة من الخبراء، يتم نشرها على رؤوس الملأ، لضمان شفافية العلم ومخترعاته وطرق تمويلها وتسويقها، فإن كنا نريد أن نمنح العلم نفوذا في هذه المرحلة وحتى التي تليها، فلا بدّ من إخضاعه هو أيضا لضوابط رادعة، بعيدا عن ضغوط السياسيين وأصحاب المال، ونقده خصوصا، فقد أثبتت التجربة، عند اندلاع أزمة المصابين بالدم الملوث، أن نقد العلم كان وسيلة ديمقراطية هامة، فنّدت صورة شعب جاهل حُكم عليه أن يقاد بفكر الأنوار.

(لوحة رافي سركي)
(لوحة رافي سركي)

 

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.