الشعر الفرنسي المختصر وقصيدة البيت الواحد العربية

الجمعة 2015/05/01

يمكن القول بِأن هذه المُطارَدة بِوصْفِها نَشاطًا فِكريًّا ووُجْدانِيًّا عتيدًا وعَصيبًا في الآن ذاتِه، تُعبِّرُ بِشكلٍ من الأشكَالِ عن حَالَة النُّقصَان أو ما سَمَّاهُ الشَّاعِر لامْبِرسِي بحالة اللَّامُكتمِل ــ اللامُكتمَل. وهذا ما يؤكِّدُهُ الخَلل الحاصل في مشروع كِتابَة القصِيدة والنَّتيجة التي يَحصُلُ عليها الشَّاعر، حيث “أنَّ القصيدَة تَحمِلُ الشَّاعر وترمي به نحو شيءٍ آخر يُشبِهُها دونَ أن تَكونَ هي نَفسها، لِتُعطيهِ إحسَاسًا بِعدم التَّطوُّر”.

يُصنف لامبرسي الشعر المُختصرَ إلى ثلاثة أنواع:

1 ــ قصَائد مُختَصرَة تَنتمي إلى الشعر المُختَصر بِحكم حَجمِها القصير”حيثُ تَعريفُها وَاضِحٌ، ليست سوى قصيرة”.

2 ــ هناك نوعٌ من القصَائد القَصيرة التي رغمَ حَجمِها المُكَوَّن أحيانًا من ثلاث كلمات إلا أنّ كلمتين داخلها زائدتان، “لا تَحمِلُ سرًّا ولا سُمُوًّا، “ليس فيها تلك الإضافة الصغيرة التي تصفها كونها منبعثة من الرّوح”.

في هذا السياق “النص القصير لا يبني، لا يوحي بشيء، لا يُغَنِي”، وبالتالي يمكن وصفه بـ”معلومة”، في حين أن هناك تضخما، دون مُبالاة حقيقية بالتواصل (محتوى الخطاب والهدف منه، ونوع المُخاطب).

هنا تتبدى أوجه التباعد الوجداني المجرد من الدعم، والذي نَتج عنه أن امتلاك أسلوب، وأناقة، وتقشّف أو حتى نوع من التواضع الأنطولوجي هو بمثابة نوع من الابتذال أو البذاءة، وعدم امتلاك كل هذه المواصفات هو علامة على امتلاك الموهبة والنبوغ.

هنا يعبّر الشاعر عن تَخوّفه من القصيدة القصيرة الخالية من كل بُعدٍ جمالي وتقني، حيث تصبح القصيدة في خطر حين تُستسهَلُ كتابتُها داخل إجماع رخو لشعور سهل. فتَصير القصيدة القصيرة “رقابة للممكن، وإخصاء للتخييل”. وعوض أن تكون “تكثيفًا مُتفجِّرًا نووِيًا للواقع ثم للواقِعي تنسى أن تعبّر عن غياب الحُدود بين الإنسانية والكون، وتحرم الكائن الكوني من الحصول على “الفرح والسلطات والافتراضية الخالدة والخلاقة”.

3 ــ أما النوع الثالث الذي يوليه الشاعر أهمية كبيرة ويفضلُه، فهو الهايكو، قصائد مُختصَرة ذات تقاليد عريقة، تقول بكلمات قليلة أشياء شديدة العمق. تُخلِّفُ نوعًا من الصَّدمة، استعملها السرياليون بقوة، نقبض مِن خِلالِها على طرفَيْ الواقع مع حذف الوسائط، فيُصبِح أمامك فَجأة، “قوسٌ كهربَائي”، ويصِيرُ الكونُ كلهُ مُختَصرًا في كَلمَة حول حالة الطقس، أو عُبورَ حيوان، أو شعور الطَّبيعة. “إنَّها شَكلٌ مُختصَرٌ (مُضِيء) بِمعنى البَرق، حيث لا يسْلمُ القارِئ من تأثيرهِا، وحيث من المستحيل أن يَبقى كما كان من قبل”.

هنا تظهر قوّة القراءة وفعاليتها عبر مُمارستها لِفعل التغيير في القارئ. لكن يَبقى الهايكو من أصعب ما يُمكنُ كِتابته، فأمام محدودية الجُملة، تَنتصبُ لامحدودية مخيلة القارئ.

يُحٍيلنا هذا النوع من القصائد إلى دعوة الشاعر الفرنسي ” فاليري” الذي تَنبَّه إلى شَكلِ النَشاط الفِكري الذي تَتولَّدُ عنه الأعمال الأدبية، وهو يَلقي مُحاضرةً في “دروسِ الشِّعرية”، حينَ تَناوَل هذا المفهوم داخلَ سِياقٍ إبداعي، وليسَ بالمَعنى المُتدَاول للقواعِدِ والمَفَاهيمِ الجَماليَة المُتَعلِّقة بالشِّعر.

لقد دَعا الشاعر “فاليري” الكُتَّابَ إلى الوقوفٍ على تَجربَة الإبداع، وَتحليل حالة تخَلقِ النصوص، فَكانت فِكرتُهُ مَحطَّ اهتِمَام البَعضِ، بَينَما قُوبِلَت بالرَّفض من قِبلِ آخرين تَخوَّفُوا من إعاقةِ قُدرتِهم الآنية على الإبداع.

ففي الشِّعر الفرنسِي، يَقتَصرُ الشِّعرُ المُختَصر على قصيدة الهِجاء (أبيات قصيرة)، والتي تعُودُ إلى فَترة “العَصر القديم” كِتابَة مَخطوطة على الشاهد، أو كتابة فَخرية، أو نَذرية أو وصفية” على حَدِّ قولِ سَانت بوف، تَصويرٌ رَعوي أو ريفي قَصيرٌ جدًّا للتَّعبير عن قصَّة عشق، (إعلانٌ أو شَكوَى عِشقية مُختَصرة).

حاليًّا، يًصنِّفُ البَعض القصيدة المُختصرة فيما يُسمُّونَهُ بالمَقطَعي، في حين يَرى آخرون أن لا شيءَ يَتَّسِمُ بالاكتمال مثلها. وقد مسَّ هذا النِّقاش كل نواحي الأدب، ومُعظم التَّأويلات المُتعلِّقة بالتَّوجُهات الفَلسَفِية.

ففي القرن التَّاسِع عشر، حَاولَ مُعظمُ الكُتَّابُ الإحاطة بِواقِعٍ مُتنَوِّعٍ وهاربٍ عَبرَ نقلِ التَّفاصيلِ هي ذاتُها التفاصيل التي وَضعتْ الوَاقعَ في أزمَة، في حين بَذلت الرّمزية كل طاقاتها لجعل الكلمة قادرة على استرجاع الوحدة والانسجام المطلوبين والمفقودين.

وفي وطننا العربي، يظُنُّ الكثير أن القصيدة المختصرة شكل من الأشكال التي تأثر بها الشعراء، انطلاقا من الكتابات الشعرية الغربية، لكن الحقيقة التي يَجهَلها العديد هو أن هذا الشعر المختصر هو ما اصْطلِحَ عليه في تراثنَا الشعري العربي بِـ”قَصيدَة البَيت الواحد”، والتي تَوسَّعَ فيها الشاعر اللِّيبي “محمد خليفة التليسي” في كِتابِه الموسُوم بِـ”قصيدة البيت الواحد”. حيثُ يقول “الأصلُ في الشِّعرِ العربي هو البيتُ الوَاحد، وعِندَما كان الشَّاعر العربي القديم يُرسِلُ البيت الواحِد لِيُعبِّرَ به عن لَحظتِه الشِّعرية، لَم يَكُن يُواجِهُ أيّ مُشكِلة تَعبيرية، فقد كان البيتُ الوَاحدُ يُعبّرُ عن حَاجتِه، ويَستَوعِبُ اللَّحظة الشِّعرية التي يُعانيهَا بِكُلِّ أبعَادِها”.

وحتَّى بَعد مَجيءِ القصيدة، ظلَّ البَيتُ الوَاحِدُ هو المِحور الرئِيسي للقَصيدة، فَنَشأتْ وتَطوَّرتْ حوله حَركة نَقدية واسِعة، أبدى من خلالها مجموعة من الشعراء والنقّاد رأيهم الداعم للبيت الواحِد كابن رشيق وابن خلدون، ثم لاحقًا في عصر النهضة المرصفي بعد وقوفه وتفحصه لِشعر البارودي، ومطران خليل الذي واجهه مُشكل القصيدة وتنافر معانيها، ثم العقاد والشابي وغيرهم، ووصولا إلى نزار قباني وأدونيس وآخرين.

وقد أراد التليسي أن يعيد الاعتبار للبيت الواحد في ظلِّ مفهُوم حَديث للجوهر الشعري الذي يحرّره من النظرة الصناعية التي أفرغته من مغزاه وروحه الشعريين. حيثُ يقول “قصيدة البيت الوَاحد تَعتمِدُ على مَفهُوم يُؤمن بأن الشعر وَمضة خَاطِفة، ولَمحة عابِرة، ودفقة وُجدَانية ولَحن هَارب، وأغنية قَصيرة، يَخلق تَعبيره المُكثف المُركَّز الذي يَستَنفِذُ الَّلحظة الشِّعرية ويُحِيط بِها. وما زَاد عن ذلك فهو عَمل الصِّناعة والاحتراف ولِذلك كان الشاعر العربي القديم في اعتماده على البيت الواحد أقرب إلى الفطرة الشِّعرية والسَّليقة بل هو ــ الآن ــ أقرب إلى مَفاهيم العصر عن التَّجربة الشعرية”.

ويُضيفُ مُؤكّدًا أن البيت الواحد يتنافى مع الحِكمة أو المثل، ويرتبط ارتباطا وثيقًا بذات الشاعر ومعاناته، وفي هذه الحالة تجد الحكمة مكانها في التعبير عن التجربة الحياتية للشاعر.

“ونحنُ هُنَا عِندما نَتحَدَّثُ عن قَصيدة البَيت الوَاحِد لا نَعني بَيتَ الحِكمَة المُجَرَّدة أو الأمثِلة الوَعظِية السَّائِرة، ولكِنَّنَا نَعنِي البَيتَ الفَنِّي الذِي يَتَضَمَّنُ جَوهَرًا شِعرِيًّا، سواء تَمثَّلَ في صُورَة فَنِّية رَائِعة، أو بَيتٍ شعرِي يَحمِلُ ذاتَ الشَّاعر ومُعَانَاته. وحتَّى الحكمَة هُنا تَكُونُ مَقبُولة إذا احتَوتْ على ذَاتِ الشَّاعر وتَجرِبته في الحَيَاة”.

ويَستَشهِدُ التّليسي بأبيات كثيرة من تراثنا الشعري الثر، بَدءًا بشعراء الجاهلية كامرئ القيس وطرفة بن العبد وعنترة والنابغة الذبياني.. ثم شعراء آخرون كالمُتنبي وغيره وصولا إلى شعراء عرب حديثين.

هُنا حاول التليسي أنْ يُعيدَ الاعتبار للمتن العربي القديم الذي عاب عليه الكثير الثّرثرة وجعلوا التكثيف والتركيز وحُضور اللمحة الموحية مقصورة على الشعر الغربي، في حين أنها خصائص منغرسة في لُبِّ التراث الشعري في أرقى صوره الموحية والضاربة في جذور الوُجدان الشعري العربي.

يُؤكِّد الشاعر التليسي على أنَّ انشغال القصيدة العربية بقضايا فكرية وَوجدانية متعددة ضمِن لها استقلالية أبياتِها، لكن في الوقت نفسه، وبِحكم نَمط العيش القديم، لم يكن الشاعر مُنفصلا أيما انفِصال عن القبيلة وأعرافِها وهُمُومِها، وأحيانا ضغوطاتها، فكان لِزامًا عَليه أن يُضحّي بالتَعبير عن ذاته مُقابل استرضاء هواجس القبيلة وأحكامها، وبالتالي لم يُسخِّرْ لذاته سوى مَجالاً ضيِّقًا للتعبير عن مُعانَاتِها، غير أنّ هذا الجانب الذاتي يشغلُ الحيِّزَ الأهم لدى الآخر قارئا وشاعرًا، لأنه يُعبِّرُ عن عُمقِ التَّجربة الوُجدانية للشاعِر في تفَاعُلهَا مع تَجاربِ الحياة. إنَّها عُصارة وُجودِه وخُلاصة انسحاقه وانبعاثه كَإنسان تَتَمظهَرُ من خِلاله التَّجربة الحَياتية والكَونية.

ومع ذلك، تظلّ هذه الأبيات قليلة ومُتفرِّدة تَحكُمُها اللَّحظة الشِعرية النَّادِرة التي قَلَّما تُسفِرُ عنها لحظات الحياة الصَّاخبة، بسبب الضغوطات والانشغالات والمُثبِّطات. إنها الأبيات ذاتُها التي يبحثُ عنها الشاعر والقارئ على السواء باعتبارها تجليا أسمى وأعمق للمشاعر الإنسانية في مُطلق صفائها وتَجرُّدِها.

إنَّ هَاجسُ القصيدة المُختَصرَةُ كما ينعتونها في الغرب، وقصيدة البيت الواحد كما يتمثلها تراثنا الشعري العربي الإحاطةُ بالأساسي، حيث مسار القصيدة الطَّبيعي هو أن تكون أولية، مُؤسِّسة ومُلقِّنَة، وبالتالي فهي تَتطلّبُ مزيداً من الانفتاح المَعرفي والمرجعية الثقافية، بل إنَّها تَستدعي حضورًا كبيرًا للذَّاكِرة الجَماعِية التي تُؤسِّس وجدان الفرد، وتُشعره بالقوَّة بفضل انتِمائه للإنسَانية.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.