الشعر والحدس الفلسفي
يأخذ بعض الشعراء ونقاد الشعر على الشعرية ذات الروح الفلسفية بأنها تلغي وظيفة الشعر الجمالية.
الشعر، كما أراه، هو أسطرة الشعور بالوجود في زي جمالي أخّاذ. هذه الأسطرة الموعى بها تنطوي على وحدة الحدسين: المعني والجمالي. حتى ليمكن القول بأن الشعر الذي لا يتوافر فيه هذان الحدسان شعر ناقص.
وعبر أسطرة الموجود يحول الشعر اللغة إلى ميتا – لغة. وكلما غرق الشاعر في الأسطورة ارتفع باللغة إلى الميتا. حتى يمكننا القول: الأسطرة أحد أهم معايير الشعرية.
هذه الميتا – لغة الأسطورية تحمل حدساً فلسفياً كما قلنا، نظرة إلى الدنيا، فالحدس الفلسفي الشعري هو ظهور الفكرة ظاهرة أو خفية.
من سمات الحدس الفلسفي الشعري أنه فكرة طليقة ترقص في ثوب مزركش وليست بحاجة إلى منطق أرسطو ولهذا هي حدس.
وهناك مستويات من حضور الحدس الفلسفي في الشعر فإما أن يأتي في صورة عفو الخاطر أو يكون مقصوداً لذاته بوصفه مقصود الشعر.
ولقد دللت التجربة الشعرية أن مرحلة ما بعد النضج تكون أكثر امتلاءً بالحدس الفلسفي، وتصل حد وقوف الشعر عليها.
وعندي أن ليس هناك – في الشعر – انفصال بين الحدس الجمالي والحدس الفلسفي، والقرابة بين الشعر والفلسفة قرابة من الصعب فصلها.
يظهر الحدس الفلسفي – الشعري في الغالب عبر أجوبة عن أسئلة مضمرة، بحيث تبدو الفلسفة شذرة فكرية تقول قولاً فصلاً، قولاً يأخذ شكل ما تسميه العرب الحكمة.
غير أن ذلك لا يمنع أن يكون النص شعرياً حدساً فلسفياً بالأصل. وآية ذلك أن الشاعر وهو يعيش التجربة الشعرية بوصفها كينونة، نمط وجود يعيش الأرق الفلسفي عبر القلق الوجودي. فالموت والمصير والحزن والفرح والبحث عن المعنى وكل أسئلة الوجود الكبرى تحضر في التجربة الشعرية فتخلق الحدس الفلسفي الشعري بعد أن يصل الشاعر إلى مرحلة النظرة إلى العالم والموقف من الوجود والعدم الذاتية.
والسيرة الشعرية للشعراء الطغاة تدل على تحرر الشاعر من تجربته الذاتية المعيشة والانتقال إلى تجربته الوجودية الكلية، أو قل تتحول التجربة الوجودية الكلية إلى تجربة ذاتية.
والمعنى الكلي إذ يختفي خلف الجمالي والجمالي حين يظهر في المعنى يزيد من جمالية المعنى ومن معنى الجمال. عندها لا يبقى الشعر عند حدود الميتا اللغوية بل ويتجاوزها إلى الميتافيزيقا – الفلسفة.
ولكن حذار من اعتبار الشعر فلسفة. فليس هاجس الشعر قول الحقيقة والدفاع عنها. الشعر هنا وجدان فلسفي وليس عقلا فلسفيا.
الوجدان الفلسفي الشعري هو في النهاية تجربة وجودية وليس تأملا باردا بالعالم .
فالشاعر لا يسأل ما الموت؟ ما العدم؟ ما الحب؟ بل يعيش تجربة الموت فينقل الموت من التجربة المعيشة إلى الحدس الفلسفي – الشعر الكلي. وهذا هو معنى أن يحوّل الشاعر تجربته الوجودية المعيشة إلى تجربة كلية.
والفيلسوف بدوره حين يعيش أسئلة الوجود الكبرى تجربة ذاتية فإنه يعوّل على الشذرة الفلسفية أو الإهاب الأدبي للقول الفلسفي فيمزج بين الوجدان والعقل فيما يظل الشاعر وجداناً خالصاً.
غير أن توسل الشعر وسيلة للتعبير الفلسفي الحدسي فقط سيضعف الجمالية الشعرية وتصبح التفاتة الشاعر إلى المعنى فقط. ولهذا فإن الشعراء الطغاة – العظام يجمعون بين الحدس الفلسفي والحدس الجمالي فيوحدون على نحو مبدع بين الميتا – لغة والميتا – فيزيقا.
والميتا بطابعها المزدوج تحقق المتعتين الجمالية والعقلية معاً، وترتفع بالشعر إلى الأبدية.
وبعد: إن الشاعر الذي وصل إلى ذروة الميتا حدساً جمالياً وحدساً فلسفياً كائن يجمع بين النرجس والفينيق.
غير أن قلة من شعراء العرب قد أظهروا عبقرية خاصة في الشعرية هذه التي هي الميتا التي وحدت بين الحدس الجمالي والحدس الفلسفي .
ويبدو بأن أغراض الشعر العربي قد قيدت الشعرية العربية وحالت دون الوصول إلى وحدة الحدسين، إلا على نحو محدود، اللهم إذا استثنينا أبا العتاهية والمعري وبعض المعاصرين وبخاصة عند الشعراء التجديديين في الصورة والمعنى والغرض.
والتساؤل الذي لم أستطع تجنبه لدى اطلاعي على إجابات جل الشعراء العرب المنشورة في ملف “الجديد”، وكذلك كلما كنت بصدد قراءة متعمقة لشعر الشعراء أو لكلامهم على الشعر، هو: لماذا لم يتلامح، على نحو ما، أفق فلسفي في القصيدة العربية، لدى أكثر الشعراء العرب المعاصرين، وقد تحرر الشعر من لهجته القديمة وتخلص من أزيائه التقليدية، وباتت لغته الجديدة طالعة من روح العصر ولغاته، ومن المنتظر، بالتالي، أن تكون قادرة على ذلك؟ أضع هذا التساؤل في انتباه الشعراء العرب ونقادهم المعاصرين.