الشعر يسري في الدم

هل مازال الشعر (ديوان العرب)
الأحد 2020/11/01
تخطيط: محمد خياطة

لم يتخل الشعر عن بهائه يوما من الأيام، فهو قلب الأرض الذي يؤشر على ديمومة الحساسية الجمالية للإنسان، فقد فاز بنوبل كثير من الشعراء على رأسهم بابلو نيرودا شاعر الحب ورابندرانات طاغور وتوماس ستيرنز إليوت وريس باسترناك، وكذلك في هذه السنة ينتصر الشعر بفوز الشاعرة الأميركية لويز غليك.

أعتقد أن المنظومة النقدية العربية هي منظومة تلهث خلف المناسبة السائدة في حقبة ما، لتنقاد إلى مواقع واهمة منسلخة عن ضمير العالم، لذلك سادت مقولة ساذجة تقول “الرواية ديوان العرب” وقد عمّق تراجع الضمير الجمعي الشعري طبيعة الجوائز المغرية التي خصصت للرواية دون الشعر، هذا الأمر ساهم في شيوع مفاهيم واهمة حول تراجع أهمية الشعر وضرورات السرد وتتابع تلك المفاهيم لدى دور النشر التي أصبحت تتثاقل في نشر الشعر ولكنها شغوفة في نشر الرواية والترجمات دون الأخذ بعين الاعتبار أهمية النص سواء كان شعراً أو سرداً.

لكن العالم بشموليته لم يتغير كثيراً، خاصةً العالم الغربي الذي ينظر إلى الشاعر كقيمة نادرة ومهمة في حياة المجتمعات.

الشعر موجود في ضمائر الناس لكنه تراجع في المشهدية العامة في الميديا، وطبيعة الجوائز والنشر والبرامج الثقافية.

ولم يزل إلى هذه اللحظة معظم الناس يستشهدون في أحاديثهم بأبيات شعرية للمتنبي مثلاً، وهذه دلالة على سريان الشعر في الدم العربي منذ بزوغ القصيدة وتجلياتها ما قبل الإسلام، أو ما يسمونه جزافاً “العصر الجاهلي” وهي تسمية تحمل في طياتها دلالةً إقصائيةً واضحةً.

الشعر مكبّل بأكثر من قيد، لكنه ما زال يقاوم، ويتواجد في الحراك الثقافي والاجتماعي رغماً عن تلك القيود

فالشعر كمنجز نصيّ لم يتراجع، بل تطاول ليصل السماء بكوننا نمتلك فرصةً حرةً في اختبار تنويعات النصوص وتجلياتها الإنسانية، لكننا نحن أردنا له تلك العتمة والإخفاءات التي تراكمت حتى سادت مقولة “الرواية ديوان العرب”، وهي أيضاً مقولة إقصائية ظالمة، علماً ان السرد يرمم جمالياته بالشعرية، وكذلك السينما والفعل المعماري، فالشعر موجود في الفيزياء وكل مناحي الحياة، موجود منذ هوراس وهو في علوّ مطّرد، فقد قامت عليه الحضارة اليونانية في المسرح وشتى مناحي الحياة.

نحن ما زلنا نعاني من التباس في مفهوم الشعر نفسه، عبر محاربة الحداثة في المنابر الإعلامية التي انتصرت في غالبها لعمود الشعر، وكذلك الشعر المحكي “العامي” بكونه يناغي أحاسيس دهماء الثقافة، بل أقيمت مهرجانات بملايين الدولارات لمثل هذه القصائد التي غالباً ما تتورط في المدحوية لهذا الحاكم أو ذاك.

لكن العالم يدرك أن الشعر هو الحضارة الإنسانية النابضة، لذلك كثر الذين حازوا على جائزة مثل نوبل من الشعراء العظماء، على عكس ما يحدث في عالمنا العربي، فقد عانى الشعر من مجموعة هائلة من الإقصاءات المبرمجة، والتي ساهمت في سيادة الشعر الخطابي الذي يمتدح السلطة السياسية، ومجموع ما يبث من هذا النمط يفوق بكثير ما يبث من شعر جيد له فضاءاته الناقدة، وما زلنا نعاني من ممنوعات هائلة لبعض الأسماء الشعرية العربية الكبيرة من دخول كتبهم بعض البلدان العربية، والسبب الرئيس في ذلك هو السلطة الدينية والسياسية.

فالشعر مكبّل بأكثر من قيد، لكنه ما زال يقاوم، ويتواجد في الحراك الثقافي والاجتماعي رغماً عن تلك القيود. فحين تنتصر نوبل للشعر يعتبر الأمر بمثابة رسالة ساطعة لعالمنا العربي بأن المبدع الحقيقي هو ضمير الكون، بغض النظر عن الشكل الإبداعي الذي يقوم به، وخاصةً الشعر الذي توّج مجمل الفنون عبر التاريخ.

وقضية شيوع زمن الرواية ما هي إلا وهم بائن إذا تفحصنا المشهد بشكل حيادي، نعم هناك انتعاش للفعل السردي لكنه لم يستطع أن يقصي القصيدة أبداً، والذي غلّب طرفا على الآخر هو طبيعة سلوك المؤسسات الثقافية الرسمية منها والأهلية كذلك، وخاصةً دور النشر والتوزيع. لذلك فالشعر باقٍ إلى يوم الدين.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.