الشيوعية بديلا عن الرأسمالية
منذ انتشار الجائحة وتعطّل معظم أنشطة الإنسان في العالم، والكتّاب والمفكّرون والمحللون السياسيون يتنافسون في تصوّر ما بعد كورونا، ولئن اختلفوا في ذكر الأسباب التي جعلت الإنسان عاجزا عن مقاومة فايروس تافه، برغم الإنجازات العلمية والتكنولوجية الباهرة التي حققها، فإنهم يلتقون في معظمهم في تحميل الرأسمالية تردّي الأوضاع الاقتصادية والبيئية والصحية في العالم. ففي رأيهم أنّ الرأسمالية، في وجهها النيوليبرالي، دمّرت خلال أربعين سنة حياة البشر مرتين: مرّة بالضيق والخوف من الحاضر والآتي، بوضعهم في موضع هشاشة، فرائس سائغة بين أيدي سيّدين مجنونين هما السّوق والشغل؛ ومرّة بجعل الحياة على كوكب الأرض عسيرة، بل وممتنعة، بسبب الاحتباس الحراري والمناخ الخانق وأخيرا الجائحة.
فما يمكن ملاحظته اليوم أن الرأسمالية تهدّد الجنس البشري بالانقراض؛ وأن الفضاء الديمقراطي الذي كان يتم التفاوض داخله حول تعديلات في سير الرأسمالية لم يعد قائما، ولا بديل غير تفاقم الأوضاع أو قلب المنظومة بتمامها وكمالها. وبما أن الأقلية الماسكة بكل الخيوط والمستفيدة من كل الأوضاع، سواء في السّراء أم في الضرّاء، ليست مستعدة للتنازل عن امتيازاتها، وأن تضافر هذه الأزمة العضوية، بالمعنى الغرامشي للكلمة، مع الانتقال الإيكولوجي يجعل كل محاولة لتعديل مسار التراكم الرأسمالي مستحيلا، فإنه لا يبقى سوى البحث عن مخرج من الرأسمالية.
هذا المخرج يحمل اسمًا هو الشيوعية، التي تُطرح بديلا عن اقتصاد يقوم على نظرية “التنمية أو الموت”. ولكن كيف للشيوعية أن تعود في مرحلة اتسمت بهيمنة رأسمالية مطلقة، في مقابل انهزام قوى النضال الاجتماعي وغياب أي مشروع بديل مشترك يحظى بالأغلبية؟
قد يبدو الأمر غريبا أن تُطرح الشيوعية كأفق يمكن أن يحل مشاكل الإنسان في هذا العصر، نظرا لاقترانها بمشروع سياسي راديكالي مظلم، واقتران الستالينية منذ سبعينات القرن الماضي بشيوعية توتاليتارية قاتلة؛ فبعد “ماضي وهم” لفرنسوا فوري، و”كتاب الشيوعية الأسود” لستيفان كورتوا، بدا أن مرحلة استعمال الكلمة إيجابيا أغلِقت نهائيا، ليحل محلها جانبها الإجرامي في حق الإنسان والإنسانية، ولم يعد الجدل يحوم سوى حول عدد ملايين الموتى الذين راحوا ضحيتها.
غير أن المسألة الشيوعية لم تختف تماما، إذ ظلّت تستعمل في بعض المنظمات والأحزاب برغم ضعفها وهامشيتها، وظلت كذلك موضوع أعمال نظرية نقدية وخاصة فلسفية، تحاول إعادة استكشاف المصطلح وتحديد “خصوبته” وفق مقاربات مستحدثة، تحلّل أسس هذا المصطلح الذي جمع بين تاريخ طويل وظرف حديث: إذ ساهم سقوط جدار برلين وزوال الكتلة السوفييتية منذ نهاية الثمانينات في تحريره، وإن قليلا، من تهمة التوتاليتارية، مثلما ساهم في دفن فكرة بديلٍ قابل للاستمرار في الوقت نفسه. ثم ما لبث أن عاد يُستعمل بشكل إيجابي، ولو محدود، لدى فئات قليلة تحاول إعادة الحياة للأمل الذي حملته فكرة الشيوعية أول ظهورها. ولكن دون أن يكون مرتبطا بأفق سياسي محسوس نظرا للسياسات النيوليبرالية العنيفة التي تتحكم في كل شيء، فليست الغاية كما يقول المعنيون بالأمر تهيئة سياسية للمرور إلى الشيوعية كتجاوز للرأسمالية أو إلغائها، بل تقديم الشيوعية على نحو يجمع بين إرادة التغيير وممارسة الاحتجاج والنقد الراديكالي والتنظير الأكاديمي.
والاستعمال الحديث للمصطلح، في وجهه الإيجابي، يعكس تطلعا إلى إعادة بناء بدائل، إن لم تكن ملموسة، فمحدَّدة بالاسم على الأقل، واقتراحه كاحتمال ممكن، ولكن لا تزال تعوزه الظروف الاجتماعية والقوى السياسة الكفيلة بتحريكه وفرضه على أرض الواقع. من هذه الزاوية فقط يمكن أن نفهم عودة المسألة الشيوعية في فرنسا، والأصداء التي تلقاها كتب مفكرين أمثال ألان باديو وأنطونيو نيغري وجان لوك نانسي وجاك رانسيير إلى جانب كتاب ماركسيين لم ينكروا انتماءهم إلى الشيوعية أمثال لوسيان سِيف وأندري توزيل وجاك بيدي ودانيال بنسعيد.
إن ما يلفت الانتباه أن أغلب المقاربات الشيوعية ما بعد الماركسية تجري في الحقل الفلسفي، في محاولة لتحديد المفهوم دون أن تكون متصلة بالمسألة الاجتماعية التي هي المجال التقليدي للتأمل النظري حول التغيير السياسي والاجتماعي. ولكن أصحابها يختلفون في تناول المسائل الأساسية للاشتراكية والشيوعية، إذ أن كل واحد يركز على هذا البعد أو ذاك من البديل المقترح، فباديو يركز على الدولة والحزب، وإرنستو لاكلو يقدم استراتيجيات الاستيلاء على السلطة، وأنطونيو نيغري يسبّق العمل والملكية شأن منظّري الشائع المشترك.
أضف إلى ذلك أن البحث عن بديل، على المستوى الاجتماعي والسياسي، لا يمكن أن يتحقق في ظل الهزائم المتتالية للحركات العمالية أمام الرأسمالية في وجهها النيوليبرالي الذي لم يعد يراكم مساويه بل بات يسبب كوارث لا حصر لها، تثير الغضب والتمرّد والاحتجاج الاجتماعي دون أن يلوح في الأفق تحول راديكالي في نمط الإنتاج برمته، رغم أنها مسألة ملحّة، وهو ما يفسّر انتقال ذلك الاحتجاج إلى الحقل الفلسفي والنظري كوسيلة لمناهضة الأيديولوجيا النيوليبرالية، على رأي الداعين إلى ضرورة العودة إلى الشيوعية ولو من زاوية أخرى.
من بين أولئك المقتنعين بأن الشيوعية هي البديل برنارد فريو، عالم الاجتماع والاقتصاد المتخصص في الضمان الاجتماعي. ففي كتابه “رغبة في الشيوعية”، أبرز خصوصية محددة في هذا النوع من الحماية الاجتماعية التي كانت تدار حتى عام 1967 من قبل العمال، وتقدم خدمات وتعويضات خارجة عن المنطق الرأسمالي، حيث صار الضمان الاجتماعي والوظيفة العامة أشبه بجزيرتين مستقلتين داخل المنظومة الرأسمالية، فاقترح توسيع ما هو كائن إلى نوع من الأجر الدائم مدى الحياة، أجر يعترف بأن كلّ إنسانٍ راشدٍ عاملٌ، ويُسند إليه حسب شبكة تتراوح بين ألف وسبعمئة وخمسين وخمسة آلاف يورو حسب المؤهلات والخبرات المكتسبة. هذا الأجر في رأيه يكسر أحد أعمدة الرأسمالية، أي سوق الشغل التي تُعدّ رافعة لاستغلال اليد العاملة بالمعنى الذي ذهب إليه كارل ماركس. فإذا ما تمّ ذلك، أصبح تغيير شكل الملكية لا مفرّ منه. وفريو يقترح ملكية استعمال، متحررة من ضرورة الربح ومن إمبريالية السوق، وبذلك ترتسم ملامح مجتمع جديد ينبني حول قرارات مشتركة ذاتية التنظيم.
والكاتب لا يتهرب من مصطلح الشيوعية بالمعنى الذي عرفه الناس من خلال التجربة السوفييتية، بل يسعى إلى إعادة معناه الأول الذي حدّده ماركس وإنجلز في “الأيديولوجيا الألمانية” حيث كتبا “ليست الشيوعية بالنسبة إلينا وضعًا ينبغي بناؤه، ومثلا أعلى ينبغي أن ينحو الواقعُ تُجاهَه. نعني بالشيوعية الحركة الواقعية التي تتجاوز الظروف الموجودة”. وهذا هو المسعى الذي يقول فريو إنه يسعى له، فغايته ليست بناء مثل أعلى مسبق، بل بناءٌ انطلاقا مما هو موجود في الشيوعية، ما سوف يجعل الرأسمالية لاغية في طورها النيوليبرالي المنتهي، أي أنه يدعو إلى بناء شيء جديد انطلاقا ممّا هو موجود، دون أن يغفل عن الظرف الحالي ووضع الإنسان فيه، بوصف الشيوعية تنبني في إطار هذه الجدلية.
كذلك المفكر وعالم الاقتصاد الفرنسي فريديريك لوردون، فهو أيضا يعتقد أن الشيوعية هي وحدها التي يمكن أن تنقذ العالم وتقضي على كل أشكال التفاوت، أو تحدّ منه على الأقلّ. وفي رأيه أننا لن نستطيع إنقاذ الأرض ومن عليها إذا تواصل هذا النظام الرأسمالي، ومن ثَمّ لا بدّ من العمل على ترغيب الناس في الشيوعية، هذه المنظومة التي ما عاد أحد يؤمن بها منذ الفشل الذريع الذي مني بها النظام السوفييتي، بالعودة إلى كارل ماركس.
ولوردون ينهل كثيرا من أفكار فريو، لاسيما مقترحه حول “الأجر الدائم مدى الحياة” وإن أطلق عليه اسم “ضمان اقتصادي عامّ” لا يُمنح حسب الوظيفة بل حسب الكفاءة، لتحرير العمال من سوق الشغل وتغيير نمط إنتاجهم بشكل جذري. وفي رأيه أن الشيوعية ينبغي أن تترك مجالا للسوق بخصوص بعض البضائع وما يسمّيه “المقترحات الخاصة” ولكن مع جعلها محلّ تخطيط متجدد، فالخروج من منطق السوق في رأيه يفترض بالضرورة أن تنهض الدولة بتوجيه الإنتاج، وتنشئ تخطيطا اقتصاديا يتركّز على أشياء ضرورية وذات قيمة، بدل الإفراط في استهلاك بضائع تافهة. أي أنه يدعو إلى تحديد مشترك للإنتاج والحرص على الالتزام بحدود كمية ونوعية للمواد المنتجة بما يتيح المحافظة على البيئة وضمان مستوى عيش يقبله الجميع. ولتحقيق هذا النظام السياسي الاقتصادي ينبغي أن ينظر إلى التنظيم الجديد بعين رضا مشتركة. فالغاية المنشودة لديه هي أن يفعل الناس ما يرغبون فيه، ولكن بإتقان، وللصّالح العام، دون الارتهان للعمل المفروض.
يقول جان لوميتر، الأستاذ المحاضر بجامعة باريس 6، في هذا الخصوص “أعتقد أن النيوليبرالية، المعولمة، تجرنا إلى قاع بئر التاريخ، أو إلى زقاق لا منفذ منه ولا نجاة، على كل المستويات الإيكولوجية والاجتماعية والديمقراطية. من المفيد، والعاجل ربما، أن نطرح فكرة الشيوعية في معناها الأوسع، الذي يعني التشارك والشياع، وليس بمعنى “نسخ لصق” لما سبق، كما كان الشأن في الاتحاد السوفييتي والبلدان التابعة له”. ويضيف “في رأيي، ينبغي العودة إلى المصطلح الذي سبق ماركس وخاصة لينين، بالتذكير بإسهامات البناة الأوائل أمثال شارل فوريي وبيير جوزيف برودون وغراكوس بابوف وأوغست بلانكي، وكذلك العناصر الإيجابية في التيارات التاريخية الأخرى من اليسار والأناركية والاشتراكية التي وصفت بالحركات الإصلاحية.”
بقي أن نقول إن معظم المنظرين في هذا الباب شيوعيون، وقد دأبوا دائما على تبني الفكرة القائلة بأن ثمة فرقا بين الشيوعية كما تصورها ماركس، والشيوعية كما طبقها لينين وستالين، وأن العودة إلى الأصل، النظري، ستكون في شكل طريقة جديدة لمقاربة الأزمنة الكارثية التي تلوح في الأفق، وننسى كلّ ما سُجّل من مآخذ على البيان الشيوعي نفسه. ولو فرضنا أن الفكرة صائبة، وجديرة بأن تكون سلاحا في وجه الرأسمالية، فمن سيحوّلها من الطور النظري إلى الطور التطبيقي والحال أن أحزاب اليسار كلها في تراجع مطّرد أمام المدّ الشعبويّ؟ ثمّ أي رأسمالية تواجه هذه الشيوعية والرأسماليات أنواع، تختلف من بلد إلى آخر، فسنغافورة لا تشبه الرأسماليات الغربية أو اليابانية، ورأسمالية الصين التي تخضع للتخطيط والتوجيه لا تشبه أيّا منها؟
لقد أثبت التاريخ أن كل الأيديولوجيات تبدأ جميلة على الورق، تَعِد الناس بالرفاه والحياة الكريمة والخير العميم، ثم تكشف عن وجهها البشع، فتسحق الفرد سحق التراب تحت الأقدام، وتصادر حتى تفكيره لأنها تفكّر بدلا عنه، فيغدو كل راغب في الخروج منها منفلتا عن العقال، يهدد السلطة القائمة، يحق نفيه أو سجنه وتعذيبه وقتله، لأن الأيديولوجيا منسجمة مع نفسها، ولكنها تختلف عن الواقع.
يقول ليفي ستروس “لا شيء يشبه الفكر الأسطوري سوى الأيديولوجيا السياسية.”