الشِعر والشاعر، النافذة والرمل
كنتُ في مدينتي البعيدة التي نشأتُ فيها أُطِلُّ من نافذتي على الصحراء التي تتسعُ كلما نظرتُ وأحاول فهم الرياح التي تراوغني دوماً: تقوم وتملأ الدنيا وتفرض وجودها بشكلٍ فادح واستعراضي لكنّي كلما أسرعتُ لألتقط لحظة خلعها للرمل المسكين من حضن إخوته ومرات مقاومته وطرقها وأشكالها، تجبرني بخبثها القادر على أن أرتعش وأغلق عيوني ثم أثبت مكاني فلا تقتلعني صرخات أبي وأمي التي تحلّق من فوقي ومن تحتي حتى أسرع وأغلق طاقات الشر أو نوافذ البيت أو بالأحرى عيونه الملتهبة دوماً.. أسئلة وإشكالات وغيوم من هذا القبيل كانت تملأ عقل الصغير وروحه، هذا الفتى الذي هبط عليه الخيال أو فُرض عليه فرضاً ليتمكّن من خلق بشر وحيوانات خرافية وأشباح ويحل بالتالي معضلة الأصوات التي تصطخب وراء الباب الحديدي كل ليلة.
كان يريد أن يلعب مع أطفالٍ مثله فهز أبوه رأسهُ وأحضر له قصصاً مصورة وكان يريد الرقص والغناء فظلت أمه تحكي له الحدوتة الوحيدة التي ورثتها عن أمها.. من أجل هذا تناول الولد ورقة وبدأ يرسم بالوناتٍ وأشجاراً وأطفالاً يضحكون وأنهاراً ووضع اسمه على الرسم ثم أضاف في اليوم التالي وصفاً وتعليقاً وبعدها اكتفى بهذه الكلمات التي كان يسهر وهو يحدق فيها كي تبتسم له وساعتها يتمكن من استقبال الأحلام أثناء نومه المتقطع.
مع الوقت والزمن زادت الكلمات في علاقتها به إلى حد الصداقة فاكتفى بها عن العالم، وهي من جهتها أوهمته بألعابها بأنها بديل هذا العالم وأن عالمها الذي تخلقه على يديه، هو الحقيقي فقط وأن ما سواه محضُ وَهْم.. من أجل هذا كتبتُ الشعر ومن أجله ظللتُ أكتبه حتى اليوم: أن تشتد روحي فأمتطي رياحه وأعوض بجبروتها وكونها القادرة على فتح الأبواب كلها ودغدغة الجبال من روحها المخفية، تواصلي المفقود مع هذا العالم وأحقن نفسي بحقنة طويلة المفعول من الثقة في أنني قادرٌ على فعل التعويض بمهارة، تعويض الفشل اليومي في التجارب الحياتية وكذلك الانسحاق بإزاء هذا الوجود القاسي وأسئلته الحارقة التي تأخذ أشكالاً وألواناً دائمة التغير كل أصيل.
وبهذا فأنا أستغل الشعر حقاً، على الأقل في تذوق طعم النوم ومعاينته أخيراً بعد نوباتي المرعبة وعَدوي كالمجنون في شارع الأرق، أقصد في معاناة كتابة قصيدة.. هذه القصيدة التي لا أَمَلُّ من مراقبتها وتكرار الابتهال الساخن بأن تصير أكثر شجاعة وإقداماً وأن تتسع نوافذها أكثر لتنفتح على الرياح والزلازل وكذلك على الورود والقبور وصرير الأبواب وابتسامات الجميلات.. أريدها أن تظل صباحاً ومساءً في أتون محاولاتها الدائمة لأن يطول شبابها وتتحفز قدرتها على أن تُلقِي على جانبيْ الطريق في كل لحظة باقتراحاتٍ جمالية جديدة، حتى يمدَّ الشاعر يدهُ ويلتقط كفها ويعدوان نحو تجربة تَلَمُّس والتماس الشِّعر في خلايا وقيم أخرى.. أريدها بنت الإنسان: تقوده نحو نقاطٍ مضيئة تعيد النفخ في إنسانيته، فيعيد اكتشاف ذاته الموزعة على أوهامٍ شتى تزيدُ وتتحور في كل لحظة، وبالتالي يتخلى عن قهر ما سواه من المخلوقات ثم يصادق المشتركات ويجوس في أنماط وأشكال التشابه والتجاور بينه وبين غيره من الكائنات في هذا الكون، والتي هي قيم ونجوم تظل على الدوام أكثر مما نتخيل.
ورغم ما سلف، كان من الصعب دائماً على الشاعر أن يتقصد أهدافاً معينة يحاول الوصول إليها ليحس أن ما يحققه يضيف إلى مشروعه، وإلى ما سمح به الشعر واعتبرهُ الشاعر عقيدةً فنيةً له – عقيدة من أهم شروط تمام الإيمان بها، نقضها كل حين!- وإلى الشعر ذاته بمعناه الفضفاض وردائه غير المحدود.. إنه فقط يحشد إخلاصه ويجمع شتات رعشته ويصير حواسّ تتحرك هنا وهناك ليلتقط ويُقَطِّر أجزاءَ من روحه على هيئة قصائد، لكنها، ربما من دون أن يعي هو، ترتب زوايا جديدة كل يوم في بيته الشعري وتضيف أرائك ولوحاتٍ أو تحذف ممراتٍ وسجاداً لتتنفس الحوائط والأرضيات أو تغني، وتُجَمِّل حياة هذا المنزل الخرافي بالأصوات والروائح والحكايات.. إنهُ واعٍ – إذن – ولو بشكلٍ غائم، لصرحه الوهمي من الحروف والكلمات رغم أنه يشبه طول الوقت حامل الإزميل، القلق والخائف والمتوتر، الذي يظل عمره كله في انتظار أن يظهر التمثال المختبئ داخل الطين.
وهكذا يظل الشعر يلعب معك ألعابه فلا تستطيع التيقن بأنك صاحب مشروع شعري له حياة وملامح وأذرع وسيقان، بينما تضيف كل يوم بأعصابك المحترقة حجراً ملوناً لا تأمن خيانته وقدرته العصية على أن يتركك في أيّ لحظة ويطير بعيداً عن صرح الأوراق، هذا الذي كأنه منتصبٌ أمامك وكأنه في نفس الوقت خيالٌ أو ظِلالٌ أو ذكرى.. يقول الشاعر حتى يهرب من تقييم نفسه: كل نص هو الذي يقودني إلى شكله ومعماره اللغوي، لبصره وبصيرته ومداه الضيّق أو المتسع، وبالتالي فإن ما حققه الشاعر يظل سؤالاً مشروعاً مع كل نص وكل ديوان وبالتالي فالأوفق والحال هكذا، أن يتأجل سؤال المشروع وملامحه إلى أن يموت الشاعر وتنتهي صفحته النابضة إلى حال التوقف.
إن لكل ناقد من النقاد كشفاً يخصه في حواره مع النص أو الديوان أو حتى مع شعرية الشاعر، هذا الكشف بالضرورة غير مكتمل وغير كافٍ في المطلق، بحيث لو اشترك العديد من النقاد في تأويلات متقاربة ووصلوا إلى كون هذا الملمح أو ذاك هو لعبة هذا المبدع وسره، تكون الكارثة.. فالمبدع وقتها لن يكون إلا مجتراً لآلياته وتقنياته ومواضيعه الشعرية التي جرّب أن يطرقها واستكان إليها وظن أنه خبرها، لهذا أتلقى كل اقتراحات النقاد وزوايا نظرهم حول نصي بدهشة دائمة، دهشة المفارق الدائم والسريع لنصه فور كتابته وكأنه يهرب من فضيحة، دهشة المتقبِّل الدائم لأي فضاءٍ يفتحُ سِكةً ما للنظر.. لا أنتظر منهم تأويلاً معينا ولا اهتماماً بمنطقة فنية ما في نصي دون الأخرى ولا أتمنى ولا أقترح حتى بيني وبين نفسي، أقصد لا أقودهم حتى بحدسي، لأن دوري انتهى مع ظهور النص، وهو أمرٌ بهيٌّ حقاً أن يقرر هذا العذاب أن ينتهي ويرتاح على سرير هدنته.. كل التأويلات إذن، أياً ما كانت وحتى لو كانت جائرةً في ظاهرها أو بعيدةً وغائمة وتخرج عن روح النص وتساهم بالتالي في قتل صيرورة حياته، ممكنة ومطلوبة وجائزة على الدوام.. ومع اعترافي وبوحي أكثر من مرة – ربما لنشر حزني وهتك معضلتي بشكل أوسع وأكثر قسوة – بأن كتابتي للشعر تنبع من دوافع وتوجهات وظروف ذاتية لا تخص سواي ولا تستغل بالأساس إلا تجربتي وملامحي النفسية والسيرية بالذات، إلا أنه مع تعاطي هذا الفن المؤرق يتكشف لك كل لحظة أن هناك مشاريع شعرية هامة وضرورية لاستمرارك في هذه اللعبة المجنونة.
لكن، وبالتماهي مع حالة المخاتلة الدائمة في محبة الشعر والخوف منه وإنتاجه وتذوقه ودراسته وكذلك حرقه والتشفي فيه ثم استدعاؤه والبكاء عليه، يعني مع الاقتراب والابتعاد الدائميْن، وذلك بعد تصنيفكَ له على أنه الكائن الأغرب والأصعب في حياتك، تظل الأسماء والمشاريع الملهمة متغيرة هي الأخرى، حيث أن كل مرحلة من مراحلك الفنية، تخلق أبطالها وسَحَرَتها ثم يتدخل الزمن والوعي ليغربلا تلك المشاريع.
وبما أنك ستملك مع الخبرة والسنين فضيلة الابتعاد عن تقديس قيمةً ما، أياً ما كانت – بقضها وقضيضها – فستنجح إذن في أن تنتخب بالتالي من كل مشروع دواوين ثم قصائد ثم سطوراً وجملاً، وهذا الفعل مستمر بالضرورة وبقوة الزمن والواقع، وبالتالي فأنا أجتبي أساتذة وصناعاً للجمال كل يوم، من كل الأجيال والمدارس والأزمنة الفنية وحتى أحدث شاعر في كل لغة متاحة وأخون مثلهم في الآن ذاته.. إن الشعر بطبيعته فن صياد، لا ينشغل بالبحار الواسعة بل ينتقي سمكاتٍ بعينها دوماً.. الشِعرُ طفلٌ خواف يرى الغابة وحشاً كبيراً لكنه يمتلك عيناً تشوف الأم الحانية التي في الشجرة.. عجوزٌ ماكرٌ يقامر حتى الرمق الأخير من حياته ليكسب لحظة يضيفها إلى رصيده الوهمي.. لهذا كانت عيوني منذ البداية تجري بهدوء على الكثير من القصائد لكنها لا تلمع إلا فجأة وعلى حين غرة.. الرديء غالب ومتوغل دائماً وأبداً واللآلئ كعادتها متوارية وكسولة في صَدَفَاتها.. كل ما في الأمر أنه مع السيولة التي خلقتها الشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل صار البحر أكبر من تنفسنا وصار الشعر الحقيقي لا يظهر إلا بصعوبة بالغة وسط الزحام، لكن الرائع في هذا الأمر أن لذة الاكتشاف تلك صارت متاحة في كل ثانية وأن الآمال المعقودة طول الوقت أكبر من اليأس وضيقه.
هناك في كل لحظة شاعر مهم يولد ومشروع يكاد يكتمل وهناك في نفس الوقت فرز قاسي وبلا رحمة يزيح من الطريق أوهاماً تتخلق بالضرورة طالما كان هناك فضاء.. لقد صنع الواقع اختبارات جديدة ودائمة للشاعر، بغرائبيته وأحداثه العجائبية وبالتواريخ التي تخلق شروطها المتغيرة في كل لحظة وبالمقدسات واليقينيات التي تتفكك، حتى بالحكايات الصغيرة للإنسان التي باتت تدهش أكثر أحياناً من الفن الذي يستلهمها، بألعابها وشطحها وتعصيها على التأطير وبلاغتها المسموعة والمرئية.. هذا الواقع الغريب، كأنه يظل يقول للشاعر في كل لحظة ماذا ستضيف إليَّ أيها المسكين.. ماذا في وسعك اليوم وأنا الذي سرقتُ أحلامك وتصوّراتك وخيالاتك وأرضك وسماءك ثم سجنتك في صناديق ملونة أُغيِّرها لك كل فترة كي لا تُجَنَّ.. هل تملك القفز في هذه المرايا التي صرت لا ترى فيها نفسك بل أشباهاً ونظائر تتناسل بلا رحمة، لتمسكَ بظلَّك وتعيد تمشيط شعره ودغدغة قلبه؟.. إن هذا الشاعر اللاهث والمحاصر بالضجيج وبالبريق، مجبرٌ اليوم على شحذ أظافر أطول وعيوناً أكثر اتساعاً وعلى خلق دواماتٍ لا تكف عن التحليق لتشيله وتحطه وسط الدراما المجنونة الدائرة حتى يخرج منتصراً بقصيدته.. وربما ويمكن بسبب كل هذا بالذات، سيظل الشاعر صديقاً للأرواح الضالة وللطيور وسيبقى الشعر ضرورة.