الشّعر يتنفّس في سمائه السّابعة
إلى الشّاعر، ضوء في غمامة، وإلى القارئ، نسْل اليقين الأبديّ.. لا شيء في آخر الطّريق غير بوح البلاغة عن سرّ القول والخيالْ. ليس الشّعر ناكثا بوعده، وإنّ من السّحاب ما يمرّ، ولو بعد حين.. فالشّاعر النبيّ والقصيدة الرّسالة.
أطلق النّاقد المصري جابر عصفور منذ تسعينات القرن الماضي فكرة “زمن الرواية”، وهي رؤية نقدية تقوم على إعلاء النّثر عموما وجنس الرواية خصوصا والحطّ، بذلك، من الشّعر، لأنّ الرواية العربيّة عند جابر عصفور تجسّد عقليّة الاستنارة التي انبنى عليها مشروع النّهضة، وهي، بذلك، ستزدهر لأنّها أداة فنيّة لعقلية الاستنارة تلك.. فهي ديوان العرب الجديد ومرآة عصرهم.
وبعد ذلك، أخذ الإعلاميّون والنقّاد والأكاديميّون، يروّجون للرواية في الندوات والملتقيات واختصّت دور النّشر، أو تكاد، بنشر الروايات ورفض الشّعر نظرا للجوائز المالية الكبرى المخصّصة للرواية حتّى صارت الروايات أكثر الكتب، وأضحى الروائيّون أكثر من القرّاء.
إنّ هذا كلّه، يبدو إلى حدّ بعيد ممنهج ومقصود، لبنة فوق لبنة، في صرْحٍ زائفٍ، والجمهور مثل حاطب ليل تستوي عنده الأشياء جميعها، وَهْمٌ تغذّيه اتهامات ضد الشّعر بالغموض والنخبويّة والابتعاد عن الهم الجمعي وعن الجمهور وبالتخلّي عن مكانته كديوان العرب للرّواية.. وفي هذا جهل غير مقصود أو إخفاء مقصود لتطوّر الشعر العربي المعاصر في بنيته وفي علاقته بالمرجع.
لكن ضوء هذا الزيف أخذ يخفت.. والتّهليل للرواية أخذ يتراجع نسبيّا.. ولم تستطع شجرة الرواية أن تحجب غابة الشّعر كما أراد لها صاحب الشّجرة وقاطف ثمارها.
إنّ انفتاح الشّعر على الفنون واستدعاءه عناصر سرديّة عديدة واقتراب الرواية في لغتها من الشّعر جعل من مقولة زمن الرواية دون معنى، ذلك أن الأدب قرّب في السنوات الأخيرة، أكثر من أيّ وقت مضى، الأجناس الأدبيّة بعضها إلى بعض مما جعل الحدود المائزة بين بنياتها الأولى غائمة فأطلق “جيرار جينات مصطلح “جامع النّص” ورولان بارت “مفهوم الكتابة” رؤيتان تسعيان إلى إلغاء الحدود بين الأجناس الأدبيّة فلا زمن للرّواية ولا آخر للشّعر.. بل زمن الأدب في كلّيته.. حيث المطلق يحوي الجزئي.
إضافة إلى ذلك، فقد تطوّر الشّعر العالمي من حيث البناء والمعنى وتنوّعت نوافذه المطلّة على العالم والإنسان، وتعدّدت مصادره وتعمّق مفهومه، فملأ ماؤه الكون وظلّلت أشجاره المسافر إلى الأبديّة.
وليس أدلّ على ذلك من عودة الشّعر إلى واجهة الثقافة الكونيّة وحيازته أسمى الجوائز في ميدان الأدب والفنون فقد تحصّلت الشّاعرة الأمريكيّة ” لويز جلوك ” على جائزة نوبل لآداب لسنة 2020 وفي العام 2019 بيتر هاندكه نال نوبل وهو شاعر وروائي، وفي 2016 حاز على نوبل شاعر وموسيقي ومغن هو بوب ديلان. وفي هذا العام نال شّاعر عربي هو التّونسي ” المنصف الوهايبي” جائزة الشّيخ زايد لآداب لسنة 2020 عن ديوانه ” بالكأس ما قبل الاخيرة” وهي المرة الأولى التي يفوز فيها الشّعر بهذه المسابقة.
إنّ الشّعر إذن حيّ، يتنفّس من علٍ في سمائه السابعة، يرى العالم فيحوّله إلى كلمات ويعكس صورة الإنسان في ماء الوجود بكل الألوان.. فهو الجذر الذي منه تشتق الفنون بكلّ ظلالها.. وهو ديوان العرب اليوم وغدا.. وديوان الإنسان الموغل في التجربة والزّمن.