الشَّاعِرُ والنَّاقِدُ.. تَفَاعُلُ مُكَوِّنَاتٍ وتَنَاظُرُ مَرَايَا
فِي إِطَارِ مُشاركَتِهِ التَّفَاعُلِيَّة فِي الإجابَةِ عَنْ أَسْئِلَةِ مَلَفِ “أَنْتَ والشِّعْرِ”، المَنْشُورِ فِي العددِ الأخير (آذار 2021) مِن مَجَلَّةِ الْجديد، وفِي اقْتِبَاسَاتٍ مُضْمَرَةٍ تَسْتَلْهِمُ، إنْ تَجَاوُبَاً أوْ تَعَارُضَاً أو تَحَاوُراً، كَتَابَاتِ مُنَظِّريِّ الرُّومَانسِيَّة الأَدَبِيَّةِ والتَّنَاصِ والقِراءَةِ والتَّأْويلِ والبنْيَويَّة والتَّفْكِيكِ وكَتَابَاتِ غَيْرِهِم، ومَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مِنْ مُنَظري الأدَبِ ونُقَادِهِ الغَرْبِيِّيْنَ، ولاسِيَّمَا الفَرَنْسِيِّيْنَ مِنْهُم يُعَرِّفُ الشَّاعِرُ أَيْمَن حَسَن “التَّجْرِبَةَ النَّقْدِيَّة” بِأنَّهَا “قِراءَةٌ ذَاتِيَّةٌ”، نَافِيَاً عَنْهَا مَا تَدَّعِيْهِ لِنَفْسِهَا مِنَ “المَوْضُوْعِيَّةِ والْمَنْهَجِيَّةِ”، وخَالِصَاً إلِى أنَّهَا تبْقَى، فِي خَاتِمَةِ الْمَطَافِ، “كَلَامَاً عَلَى الْكَلَامِ”، وذَلكَ بِحَسبِ اقْتِبَاسِهِ حُكْمَاً قَدِيْمَاً كَانَ أَبوحَيَّانِ التَّوْحِيديِّ قَدْ أَطَلَقَهُ فِي كِتَابِهِ “الإمْتَاعِ والْمُؤَانسَة” قَبْلَ نَحْوِ ألفِ عَامٍ وقَرْنَيْنِ، مُوَصِّفَاً عَلاقَةَ النَّقْدِ بالشِّعْرِ والنَّاقِدِ بالنَّصِّ الشِّعريِّ الَّذي يُقَارِبٍهُ، نَاقِدَاً، بِكِتَابَة نَصٍّ نَقْدِيٍّ يُؤَوِّلُهُ، فَيُضِيْئُهُ، ويُوازِيْه.
ويَذْهَبُ الشَّاعِرُ والأكَادِيْميُّ أَيْمَن حَسن صَوْبَ أَبْعَدِ بِعِيْدٍ يُمْكِنُ تَصَوُّرُهُ، إِذْ يُقَرِّرُ، بِحَسْمٍ واثِقٍ، أَنْ لا دَوْرَ للنَّقْدِ والنُّقَادِ فِي إبْدَاعِ القَصِيدة، وأنْ لا تأثِيرَ لَهُمَا، إِنْ سَلْبَاً أَوْ إيْجَابَاً، نَجَاحَاً أو فَشَلاً، فِي وُجُوْدِهَا! ويبدو لِي أنَّ هَذا الْحُكمَ الْقَاطِعَ قَدْ تَأَسَّسَ، لدى مُطْلِقِهِ، عَلَى أَمْريْنِ أسَاسِيَّيْنِ؛ أوَّلُهُمَا فَهْمُهُ الْمَجْزُوءُ النَّاجِمُ عَنِ اسْتِخْدامِهِ مَقُولَةَ التَّوحِيْديِّ “الْكَلامُ عَلَى الْكَلام”، مَعْزُوْلَةً عَنْ مُصْطَلَحٍ قَرَنَهُ التَّوحِيْديُّ نَفْسُهُ بِهَا، وهُوَ مُصْطَلَحُ “بلاغَةُ التَّأْويلِ” الَّذي أَرادَ لَهُ أَنْ يَكُونَ “مِصِبَاحَاً” يُنِيْرُ مَدْلُولاتِهَا، ويُوْمِئُ إِلى مَا تَكْتَنزهُ مِنْ مَعَانٍ يتَكَفَّلُ إدراكُهَا بِتَوضِيح مَغْزاهَا، كَمَا أَرادَ لَهُ أَنْ يَكُونَ “مِسْبَاراً” يُوغِلُ صَوْبَ مَقَاصِدِهَا العَميقَةِ الْواجِبِ تَدَبُّرُهَا بِعُمْقٍ يَتَأَسَّسُ عَلى وثَاقَةِ عُرَى التَّرابُطِ بَيْنَ المَقُولَةِ والمُصْطَلَحِ الَّذي يُصَاحِبُهَا مُقْتَرِنَا بِهَا، والَّتي تُصَاحِبُهُ مَقْروْنَةً بِه!
أَمَّا ثَانِي الأمْرَيْنِ الْمُؤَسِّسينِ هَذَا الْحُكْمِ الْحَسْمِيِّ القَاطِعِ، والَّذي يَبْدو نَاجِمَاً عَنْ “تَجْرِبَةٍ خَاصَّةٍ”، استثْنَائِيَّةٍ، وشَدِيْدةِ الْخُصُوصِيَّة، فَإنَّمَا يَكْمُنُ فِي تَصَوُّرٍ انْغِلاقِيٍّ يَعْزِلُ الَعَمَلِيَّةَ الإبْدَاعِيَّة، أو تَجْرِبَةِ كَتَابَة الشِّعْرِ، الَّتي يُفْتَرضُ أَنَّ “الأنَا الشَّاعِرَةُ” تَخُوضُ، وِجْدَانِيَّاً، غِمَارَهَا، عَنْ أَقْطَابِهَا الرَّئِيْسَةِ، ومُحَفِّزَاتِهَا، ومُكَوِّنَاتِهَا، وغَايَاتِهَا، وأَحْوَالِ صَيْرُوْرَتِهَا، ولا سِيَّمَا عَمَّا تُوَفِّرهُ المَعْرِفَةُ الشِّعْرِيَّةُ اللُّغَوِيَّةُ الْجَمَالِيَّةُ النَّقْدِيَّةُ، الْمُتِشَابِكِةُ والْعَمِيْقَةُ والْمُؤَصَّلَةُ، والَّتي يَنْبَغِي لِلشَّاعِرِ أَنْ يَتَوافَرَ عَلَى قَدْرٍ غَيْرِ يَسِيْرٍ مِنْهَا أو عَلَى أُسُسِهَا الْجَوْهَرِيَّةِ عَلى أَقَلِّ تَقْدِيرٍ، مِنْ مُكَوِّنَاتٍ ومُمْكِنَاتٍ، ومَا تُكْسِبُهُ مِنْ مَهَاراتٍ، ومَا تَفْتَحُهُ فِي مُخَيِّلَةِ الشَّاعِرِ الطَّلِيْقَةِ، وفِي عَقْلِهِ المُبْدِعِ، مِنْ آفَاقٍ تَمُورُ بَتَنَوُّعِ البدَائِلِ اللُغَوِيَّةِ، وتَعَدُّدِ الخِيَاراتِ الْجَمَاليَّةِ ، وثَراءِ الأَسَالِيبِ، والتَّراكيبِ، والتَّكْوِيْنَاتِ، والرُّؤَى.
وإذْ نَرى، خِلَافَاً لإطْلاقِيَّة الْحُكْمِ الَّذِي يُطْلِقُهُ أَيْمَن حَسَنْ، واسْتِنَاداً إلى حِرْصِنَا عَلى عَدمِ إغُفالِ مَا نُدْركِهُ مِنْ مُكَوِّنَاتِ العَملِيَّةِ الإبداعِيَّةِ، وإلَى إِدراكِنَا حَقِيقَةَ المَوَرانِ التَّفَاعُلِيِّ لِهَذِهِ الْمُكَوِّنَاتِ، قَبْلَ الشُّروعِ فِي الكتابَةِ وأثَنَائِهَا وعَلى توالي بُرْهَاتِهَا، فِي وِجْدانِ الشَّاعِرِ فَحَسْبُ، أَنْ لا دَوْرَ مُبَاشِراً، مَرْئِيَّاً أوْ مُدْرَكَاً مِنْ قِبَلِ الشَّاعِرِ، للنَّقْدِ والنًّقَادِ فِي إبْدَاعِ القَصَيْدةِ أَثْنَاءَ إبْداعِهَا؛ فَإِنَّنَا نَحْسبُ أَنَّ لَهُمَا دوراً مُهِمَّا وذَا قِيْمَةٍ جَوهَرِيَّةٍ فِيْهَا، مِنْ بَدْئِهَا حَتَّى مُنْتِهَاهَا، غَيْرَ أَنَّهُ دَورٌ مُضْمَرٌ وغَيْرُ مُبَاشِرٍ، ولا يُؤَدَّى أَو يُمَارَسُ، في سِيَاقِ صِيْرُورة العَمَلِيَّة الإبداعِيَّة، إلَّا عَبْرَ الشَّاعِرِ الَّذي “جَلَسَ لِيَكْتُب”، واعِيَاً، بِدَرجَةٍ أو بِأُخْرى، أَنَّهُ يَكْتُبُ قَصِيْدَةً، أو نَصَّاً شِعْرِيَّاً، قَدْ أَسْهَمَ النَّقْدُ والنُّقَادُ، عَبْرَ الثَّقَافَات والأزْمِنَة، فِي اكْتِشَافِ جَمَاليَّاتِهِمَا، وفِي بَلْورَتِهَا عَلى نَحْوٍ يَفْتَحُهَا عَلى مُمْكنَاتٍ جَمَالِيَّةٍ لَمُ تَجْرِ تَجْلِيَتُهَا في نُصُوصٍ وقَصَائِدَ، ولَكنَّهَا تَظلُّ، بِطَرِيْقَةٍ أَو بِأُخْرى، قَابِلَةً لِلْوُجُودِ، وقَادرَةً عَلى تَجْلِيَةِ وُجُودِهَا إنْ هِيَ أُخْرِجَتْ مِنْ خَفَاءٍ، أو نُزِعَتْ عَنْهَا أَحْجِبَةُ التَّخَفِّي!
يُعَرِّفُ الشَّاعِرُ أَيْمَن حَسَن "التَّجْرِبَةَ النَّقْدِيَّة" بِأنَّهَا "قِراءَةٌ ذَاتِيَّةٌ"، نَافِيَاً عَنْهَا مَا تَدَّعِيْهِ لِنَفْسِهَا مِنَ "المَوْضُوْعِيَّةِ والْمَنْهَجِيَّةِ"، وخَالِصَاً إلِى أنَّهَا تبْقَى، فِي خَاتِمَةِ الْمَطَافِ، "كَلَمَاً عَلَى الْكَلَمِ"
ومَا كَلامُ الشَّاعِرِ، أيِّ شَاعِرٍ، عَنْ “تَمَيُّزِ نُصُوصِه”، وعَنْ “فَرادَاتِهَا”، و”جِدَّتِهَا”، و”انْقِطَاعِ نَظَائرهَا”، إلَّا تَعْبِيْراً عَنْ سَعْيِه اللَّاهِبِ لالْتِقَاطِ الْجَمَالِيَّاتِ الشِّعْرِيَّةِ الغَائِبَةِ، أَوْ لابْتِكارِهَا وتَجْلِيَةِ وُجُوْدِهَا فِي نَصِّهِ الشِّعْرِيِّ، أَوْ فِي قَصِيْدَتِه، لِتَتَراءى، جَلِيَّةً، أَمَامَ أَعْيُنِ النُّقَادِ العَارِفِينَ اللَّمَّاحِينَ، الْمُؤَهَّلِينَ لِإمْعَانِ التَّبَصُّرَ فِيْهَا لِلْكَشْفِ عَمَّا أظُهَرَتْهُ، أو اكْتَنَزَتْهُ، مِنْ مُكَوِّنَاتٍ وخَصَائِصَ جَمالِيَّةٍ ومِيْزاتٍ فَرِيْدةٍ، وجَديْدةٍ، ومُنْقَطِعَةِ النَّظِيرِ، أَيْ لافِتَةً فِي كَونِهَا لَمْ تَكُنْ قَدْ وُجِدَتْ فِي نَصٍّ شِعْريٍّ مُتَحَقِّقٍ مِنْ قَبْلُ.
ولَستُ أحْسَبُ، فِي هَذَا السِّيَاقِ الَّذي أحْسبَهُ قَدْ حَفَّزَ إطْلاقَ مِثلِ هَذِهِ الأحْكَامِ، أَنَّ لِشَاعِرٍ يَكْتُبُ باللَّغَةِ الفَرَنْسِيَّةِ الَّتي صَارتْ “بِمُرورِ الزَّمَنِ لُغَتَـ(ـه) وأُفُقَـ(ـه) وعَالِمـ(ـه)”، كَمَا يُفْصِحُ أيْمَنْ حَسن، أو لِأيِّ شَاعِرٍ يَكْتُبُ بِلُغَةٍ غَيْرِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّة، أَنْ يَنْتَظْرُ مِن النُّقَادِ العَربِ المَعْنِيينَ، أَسَاسَاً لا حَصْرَاً، بالشِّعْرِ الْعَرَبيِّ، أنْ يَنْكَبُّوا عَلى نُصُوصِهِ وقَصَائِده: قِراءةً، وتَحْلِيْلاً نَصِّيَّاً، ونَقْداً، لِيكُونَ كَلامُهُمْ “كلامَاً عَلى الْكَلامِ” مَعْزُولاً عَنْ تَأْوِيْلِهِم المُتَعَدِّدِ للنُّصُوصِ التَّي قَاربُوهَا: قِراءَةَ، وتَأويْلاً، ونَقْدَاً، فِي ضَوءِ مَعَارِفِهِمْ ومَنَاهِجِهم النَّقْدِيَّة الَّتي تُحَاذِي الفَّنَّ وتُجَاوِرُ الْعِلْمَ، فِي سَعْيِهَا لِأنْ تَكُونَ “مَنْهَجِيَّةً ومَوضُوعِيَّةٍ” دُوْنِ إِغْفَالِ حَقِيْقَةِ أَنَّ كِلَا النَّعْتَيْنِ، وبِحَسَبِ خِبراتِ النَّاقِدِ ومَعَارِفِهِ ومَنْهَجِه النَّقْدِيِّ، إنِّمَا يُسْهِمَانِ فِي إبْعَادِ التَّجْرِبَة النَّقْدِيَّةِ عَنْ أنْ تَكُونَ مَحْضَ تَجْرِبَةٍ ذَاتِيَّة، أو “قِراءَةِ ذَاتِيَّةٍ” مَحضٍ، للنَّصِّ الشِّعْريِّ الْمَقْروءِ بِغَايَةِ التَّأوِيلِ والنَّقْدِ، وكِتَابَةِ نَصٍّ نَقْديٍّ يُبْحِرُ فِي رِحَابِه، ويَجُوسُ أَعْمَاقَه، ويُحَاوِره.
كَمَا لا أحْسَبُ أنَّ شَاعِراً قَدْ قَرأَ، بالْفَرَنْسِيَّةَ، “أدونيسَ … كَشَاعِرٍ ونَاقِدٍ ومُفَكِّرٍ فَرَنْسِيٍّ وكَونِيٍّ لا عَرَبيٍّ”، ورآهُ “فَلْتَةً”، (أيْ) حَالةً مُتَمَيّزة “لا تقعُ إلاّ مرّةً أو أَقلَّ كُلَّ قرنٍ أو أَكْثَرَ”، سَيَكُونُ بِمَنْأَىً عَنِ التَّأَثُّرِ الْعَمِيْقِ ليْسَ بِهِ وَحْدَهُ، كَشَاَعِرٍ، وكَنَاقِدٍ، وكَمُفَكِّرٍ، فَحَسْبُ، وإنِّمَا أَيْضَاً بِمَنْ اسْتَلْهَمَ كَتَابَاتِهِمْ، أَو تَناصَّ، بِكَثَافَةٍ، مَعَهَا، مِنْ شُعَراءَ ونُقَّادَ ومُفَكِّريْنَ عَرَبَاً وفَرَنْسِيِّيْنَ ومِنْ ثَقافَاتٍ أُخْرى، ولا سِيَّمَا أنَّهُ حِيْنَ يُفَكِّرُ في “أَدُونِيْسَ” يَفْرِضُ “بُودْلِير” نَفْسَهُ، فَيَتَنَاظَرَ الاثْنَانِ، ولَعَلَّ واحِدَهُمَا يَصِيرُ آخَرَهُ الْمُنْعَكِسَ فِي مِرْآتِهِ، إِذْ كَانَ للأَوَّلِ: “أدُونِيس”، فِي وعْيِّ الشَّاعِر، كَمَا كَانَ للثَّاني: “بُودْلِيْر”، أَنْ يَقُومَ “بثورةٍ فكريَّةٍ في الشِّعْرِ، وفي اللُّغَةِ، وفي علاقةِ النّاسِ بالأدب”.
وإِلى ذَلِكَ، سَيَكُونُ مِنَ الْمُرَجَّحِ، بَلِ مِنَ الْحَتْمِيِّ احْتِمَالاً، أَنْ يِبْدُوَ التَّأَثُّرُ بالشُّعْراء الآخَرِيْنَ، وبالنَّقْد والنُّقَّادِ، تَاَثُّرَاً غَيْرَ مُدْركٍ مِنْ قِبَلِ الشَّاعِرِ أثْنَاءَ صَيْرورة الْكِتَابَةِ، لِكَوْنِهِ، فِي الأصْلِ، تَأثُّراً ضِمْنِيَّاً مُضْمَرَاً، وغَيْرَ مُبَاشِرٍ، ولا يَتَحَقُّقُ إلَّا عَبْرَ الشَّاعِرِ الْمِسْكَوْنِ بِلُغَتِهِ الشَّاعِرةِ وقَامُوسِهِ اللُّغَوِيِّ الْخَاصِّ، والْمُسْتَغْرِقِ فِي كَتَابَةٍ إبْداعِيَّةٍ تَنْتِجُهَا عَمَلِيَّةٌ إبْدَاعِيَّةٌ مُتَعَدِّدةُ الأَقْطَابِ والْمُكَوِّنَاتِ، ولا تَكُفُّ، ورُبَّمَا بِتَنَاوبٍ قَابِلٍ للإِدْراكِ مِنْ قِبَلِ الشَّاعِرِ، عَنِ الْمُراوَحَةِ بَيْنَ الوعْيِّ والَّلاوَعْيِّ، ولَكنَّهَا ليْسَتْ أَيَّاً مِنْهُمَا بِمُفْردهِ أَبَداً، ولَيْسَ لَهَا، بِطَبْيْعَتِهَا الْجَوْهَرِيَّة، أَنْ تَكُونَ كَذَلِكَ؛ إذْ سَتَتَكَفَّلُ اللُّغَةُ، الَّتي هِي بَحْرٌ ومَنَارةٌ، بِتَسْرِيْبِ مَا تَكْتَنِزُهُ مِنْ مُمْكِنَاتِ التَّأثِيْرِ المَعْرِفِيِّ والْجَمَالِيِّ والرُّؤْيَوِيِّ إلى النَّصِّ الَّذي يَتَخَلَّقُ، كَمَا أنَّهَا سَتَتَكَفَّلُ، فِي لَحَظَاتٍ بِعَيْنِهَا مِنْ لَحَظَاتِ صَيْرورةِ العَمَلِيَّةِ الإبْداعِيَّةِ، بِالْإيْمَاضِ بِمَا يُمَكِّنُ الشَّاعِرَ منْ وعْيِ لا وعْيِهِ، بَلْ ومِنْ إدْرَاكِهِ إدراكَاً مَعْرِفِيَّاً جَمَالِيَّاً يَتَواشَجُ ولا يَنْقِسِمُ، ولا يَبْقَى مُتَوارِيَاً خَلْفَ غَبَشِ اللَّاوَعْيِّ الْمُراوِغِ الَّذي خَلْفَهُ يَتَوارى الزَّعْمُ الْغَيْبِيُّ الْقَائِلُ بـ”انْعِدَامِ التَّأثِيرِ والتَّأثُّر”؛ وكَأنَّمَا النُّصُوصُ والقَصَائِدُ تُخْلَقُ مِنْ عَدَمٍ، وبِمَشِيْئَةِ الشَّاعِرِ، “الطَّالِعِ مِنَ الْحَائِطِ”، بِمُفْرَدِه.
ومَا لتَأكيدِ احْتِمَالِ التَّأثُّرِ عَلى النَّحْوِ الذَي بَيَّنَّاهُ، والَّذي تَجْعَلُهُ البراهِينُ والأدَلَّةُ، ولا سِيَّما تِلكَ الَّتي تُجَسِّدُهَا الوقَائِعُ والنُّصُوصُ والقَصَائِدُ والتَّجارِبُ والْخِبْراتُ، احْتِمالاً مُؤكَّداً تَمَامَاً، إِلَّا أَنْ يَنْفيَ مَا نَفَاهُ أَيْمَنُ حَسَن بِتِأكِيْدِهِ القَطْعِيِّ الْحَاسِمِ أَنْ لا دورَ للنَّقْدِ والنُّقَادِ فِي إبْداعِ القَصِيْدةِ، وأَنْ لا تَأثِيْرَ سَالِبَاً، أو مُوجَبَاً، لأَيِّ مِنْهُمَا عَلِيْهَا، وأَنَّ قُوَّتَهَا أَو ضَعْفَهَا، هَزلِيِّتِهَا أو مَأْسَاويَّتَهَا، هَجَائِيَّتَهَا أو بُكَائِيَّتِهَا، ونَجَاحَهَا أو فَشِلِهَا، لا يَتَعَلَّقَانِ بِهِمَا مِنْ قَريْبٍ أو بَعِيْدٍ!
***
ولِتَأكُّدِ حَتْمِيَّةِ احْتِمَالِ التَّأثُرِ، هَذَا الّذِي نَفَى أيمن حَسَن إمْكانِيَّةَ حُدوثِهِ حَتَّى كَإمْكَانِيَّةٍ مُجَرَّدةٍ، أَنْ يُدْرِجَ حِرْصَهُ عَلَى سَحْبَ حُكْمِهِ الْمُزدَوجِ عَلى النَّقْدِ والنَّقَادِ “مِن سانت بوف (1804 – 1869) إلى رولان بارت (1915 – 1980)”، فِي سِيَاقٍ لا يَعْدو أنْ يَكونَ إلَّا “رَدَّه فِعْلٍ انْفعَالِيَّةٍ” قَد تَكُونُ مُنْطَويَةً عَلى يَأْسٍ وإحْبَاطٍ مِنْ عَدمِ تَحَقُّقِ “انْتظاراتٍ” ظَلَّتْ مَنشُودةً إلى أَمَدٍ بَعِيْدٍ مِنَ النَّقْدِ والنُّقَادِ، ولَكِنَّهَا لَمْ تَتَحَقَّقَ عَلَى نَحْو ما قَدْ نشَدَهَا أَصْحَابُهَا، ولا سِيَّمَا شَاعِرُنَا صَاحِبُ هَذَا الْحُكْمِ الإطْلَاقِيِّ، أو مُكَرِّرهُ نَقْلاً عَنْ آخَرينَ مِن الشُّعَراءِ الَّذِيْنَ مَرُّوا بِتَجَارِبَ مُمَاثِلَةٍ، وعَنْ سِوَاهُمْ مِنْ مُطْلِقِيْهَا ومُرَدِّدِيْهَا! وكَأَنِّي بِهِ، عَبْرَ هَذَا التَّعْبيرِ الاسْتِنْكاريِّ النَّاجِمِ عَنْ يَأْسٍ مِنْ تَحَقُّقِ انْتِظَارٍ طَالَ أَمَدهُ، يُطْلِقُ، بِأَعْلَى صَوتٍ، مُنَاشَدةً أخِيْرةً تَنْشُدُ نُهُوْضَ النُّقُدِ الأدبِيِّ الْعَرَبِيِّ، والشِّعْرِيِّ مِنْهُ عَلى وجْهِ الْخُصُوصِ، مِنْ تَقَاعُسٍ وسَبَاتٍ وتخَبُّطٍ وتَخْلِيْطٍ طَالتْ آمَادُهَا، فَأفْقَدتُهُ إبْداعِيَّتَهُ، وعِلْمِيَّتَهُ، وقِيْمَتَهُ الْمَعْرِفِيَّة والْعَمَلِيَّة، وجَدْواهُ، أو لَعَلَّهَا تَكُونُ قَدْ أَعْدَمَتْهُ الْوجُودَ.
ولستُ أحْسَبُ، فِي هَذَا السِّيَاقِ وفِي سِوَاهُ مِنَ السِّيَاقَاتِ ذَاتِ الصِّلَةِ، أَنْ يَكُونَ الاكتِفَاءُ بالفَرنْسِيَّة: لُغَةً؛ وأُفُقَاً؛ وعَالَمَاً، خِيَارَاً حَقِيْقِيَّاً سَويَّاً، وجَدِيْراً بالتَّقْدِيْرِ، بالنِّسْبَةِ لِشِاعِرٍ عَرَبِيِّ يَنْشُدُ ذَاتَهُ الْجَوهَرِيَّةِ العَمِيْقَةِ فِي تَضَافُرٍ مَع سَعْيِهِ اللَّاهِبِ لإنْهَاضِ شَعْبِهِ، وأُمَّتِهِ، مِنْ سُكونٍ وتَكَلُّسٍ وثِبَاتٍ وعَجْزٍ وقُعُودٍ، بَلْ وإنْهَاضِ البشَريَّةِ بَأَسْرهَا مِنْ إيْغَالٍ مُتَسَارِعٍ فِي دَيَامِيسِ مَا يَأخُذُهَا بِعِيْدَاً عنْ السَّعْيِّ لِإدْراكِ إِنسانِيَّتِهَا الْمُمْكِنَة.
ولَعلَّ فِي الانفتاحِ عَلى اللُّغَةِ العَربيَّة وإعادة قِراءَةِ تُراثِهَا الشِّعْريِّ والنَّقْديِّ قِراءَةً نَقْدِيَّةً جَذْرِيَّةً، ومِنْ منْظوراتٍ جَديدةٍ ومُنْفِتِحَةٍ عَلى بِناءِ مُستقْبَلٍ مَنْشُودٍ، ورُبَّمَا اقْتِداءً فِي ذَلِكَ بأَدونيسَ نَفْسِهِ، وهُوَ الأثَيْرُ لَدى أَيْمَنْ حَسَن، وسَعْيَاً إلى تَجَاوُزهِ وتَجَاوُزِ جَمِيْعِ نُظَرائِهِ مِنَ الشُّعَراءِ والنُّقَّادِ والْمُفَكِّرِيْنَ العَربِ الَّذيْنَ رآهُ خُلاصَةَ خُلاصَاتِهم، وأعْلَاهُمْ قِيْمَةً، وفَاعِلِيَّةً، وتَأْثِيراً، وشَأْنَاً، أنْ يُؤسِّسَ للشَّاعرِ نَفْسِهِ، مَا يَجعَلهُ شَاعِراً أَثْرى لُغَةً، وأَغْنَى مَعْرِفَةً، وأكْثَرَ تَآُهُّلاً لِصَوْغِ أَسْمَى الرُّؤَى واقْتنَاصِ أَجْمَلِ مُمْكَنَاتِ الْجَمَالِ، وأَعَمَقَ صِلَةٍ بأُفُقِهِ الْحَيَاتيِ الْوجُوديِّ الَّذي تَتَواشَجُ الرَّؤى والجماليَّاتِ الشَّعْرِيَّة فِي تَجْلِيَةِ وُجُوده.
***
أَّمَّا تَآْكِيْدُهُ النَّابِعُ مِنْ تَأْكِيْدَاتِهِ وخُلاصَاتِ تَبَصُّراتِهِ السَّابِقَةِ، والَّذي يُلَخِّصُهُ قَولُهُ إِنَّ “أفْضَلَ نَاقِدٍ للشَّاعِر هُو الشَّاعِر نَفْسَهُ”، وهُوَ الْقَولُ الُمَعَزَّزُ بِقَولٍ آخَرَ يُقَرِّرُ، بِحَسْمٍ قَاطِعٍ، أَنَّ “النًقَادَ هُمْ فِي أَغْلَبِ الأَحْيَانِ شُعَراءٌ وكُتَّابٌ فَاشِلُونَ”، فَإنَّمَا يُحِيْلُنَا، إنْ أُخِذَ عَلَى عَواهِنِهِ وظَاهِرِ دلالَاتِهِ، إلى مَقُولَتَيْنِ مَكْرورَتِيْنِ ومُعَادَتِيْنِ بِإسْرافٍ وبِلا تَوقُّفٍ مُذْ قِيْلَتَا لِأوَّلِ مَرَّةٍ عَلَى أَلْسِنَةِ الشُّعَراءِ الرُّومَانْسيينَ، وعَلى امتدادِ أَزْمِنَةِ استعَادَتِهِمَا وترويْجِهِمَا الْمُكَثَّفِ عَلَى ألسِنَةِ شُعَراءَ آخَرِيْنَ لَمْ “ينْتبِهِ” نُقَّادٌ “حَقِيْقِيُّون” إلى كَلامِهِم، أو إلى إنْتَاجِهِم الشِّعْرِيِّ، فَلَمْ يُقَارِبُوهُ، أو انْتَبَهُوا إِلِيْهِ، فَأَزاحُوهُ وأغْفَلُوهُ، أَوْ قَاربُوهُ بِجَدِّيَّةٍ ورَصَانَةٍ، فَلَمُ يَرَقْ لِهَؤُلاءِ الشُّعَراءِ مَا قَالُوهُ مِنْ “كلامٍ عَلَى كَلامِهِم”، أو مَا كَتبُوهُ مِنْ نَقْدٍ تَفَحَّصَ نُصُوصَهُم وقَيَّمَهَا، فَاعْتبَروهُم نُقَاداً مُخْطِئِيْنَ، وغَيْرَ “حَقِيْقِيِّنَ”، وجَرَّدُوهُم مِنَ أَدنى مَعْرِفَةٍ بِجَمالِيَّاتِ الشِّعْرِيَّةِ وخَصَائِص الشِّعْرِ، بَلْ ومِنْ أَدْنى مَعْرفَةٍ بِلَوازمِ نَقْدِ الشِّعْرِ ومَنْهِجِيَّاتِهِ، لِكَونِهِمْ فِي الأَصْلِ “شُعَراءَ فَاشِلِيْن” غَيْرَ مُؤَهَّلِيْنَ، بالضَّرورةِ أو بالحِسْبَةِ المنْطِقِيَّةِ، أَنْ يَكُونُوا إلَّا “نُقَّاداً فَاشِلِيْن” لا يَجْدُرُ بـ”شَاعِر حَقِيْقيٍّ” أنْ ينْتَبِهَ إلى كَلامِهِمْ.
وكَأَنِّي بِهِ، عَبْرَ هَذَا التَّعْبيرِ الاسْتِنْكاريِّ النَّاجِمِ عَنْ يَأْسٍ مِنْ تَحَقُّقِ انْتِظَارٍ طَالَ أَمَدهُ، يُطْلِقُ، بِأَعْلَى صَوتٍ، مُنَاشَدةً أخِيْرةً تَنْشُدُ نُهُوْضَ النُّقُدِ الأدبِيِّ
ومَعْلُومٌ تَمامَاً أَنَّ تَلْكُمَا المَقَوْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تُؤَسِّسَانِ قَوْلَيِّ الشَّاعِرِ أَيْمنْ حَسَنْ وتُمْلِيَانِ صَوْغَهُمَا اللَّفْظِيَّ والدَّلالِيَّ الْمُتَطَابِقَيْنِ عَلَيْه، قَدْ بَلَغَتَا حَدَّاً قَصِيَّاً مِنَ الابْتِذَالِ والإسْرافِ فِي الْوجُودِ أَفْقَدَهُمَا الْجَدِّيَّةَ والْقِيْمَةَ والْجَدْوي، وحَالَ دونَ اسْتِمْرارِهِمَا فِي الْوجودِ ذِي الْمَغْزَى، فَأَفْقَدَهُمُا الْقُدْرَةَ عَلَى تَأْكِيْدِ أيِّ شِيْءٍ، أوْ عَلَى نَفْيِّ أيِّ شَيْءٍ، لأنَّهُمَا غَيرَ مُؤَكَّدَتَيْنِ، بَلْ زَائِفَتَيْنِ، وغَيْرِ قَابِلَتِيْنِ للتَّصْدِيقِ، أَوْ حَتَّى للنَّظَرِ فِي مَدى جَدِّيْتِهِمَا، أَصْلاً.
أَمَّا إِنْ نَحْنُ تَبَصَّرْنَا فِي قَوْلَيِّ الشَّاعِرِ مِنْ مَنْظُوراتٍ شِعْرِيَّةٍ، إبْداعِيَّةٍ وجَمالِيَّةِ، تُغَايِرُ أُسُسَ الْمَنْطِقِ الِقَدِيْمِ الَّتي حَكَمَتْ فَهْمَهُ، وتَأْويْلَهُ، وصَوْغَهُ لَهُمَا، فَسَنِجِدُنَا إزاءَ كُشُوفٍ تُغَايِرُ كِلا الْقَوْلَيْنِ الْمَحْكَومَيْنِ بِمَنْطِقٍ لَمْ يَعُدْ مَنْطِقِيَّاً؛ فَقدْ كَانَ لإعْمالِ هَذهِ الأُسُسِ، ولإدراجِ الِقَولَيْنِ فِي السِّيَاقِ الَّذي أَدْرَجَهُمَا الشَّاعِرُ فِيه، ولِلْمُحَفِّزاتِ الَّتي حَرَّضَتْهُ عَلَى اسْتِعَادَتْهِمَا، ولِلْمُسَوِّغَاتِ الَّتِي أَنْهَضَ اسْتِخْلَاصِهِمَا مِنْ ثَنَايَا ذَاكِرتِهِ الْمَعْرِفِيَّة عَلِيهَا، أنْ تَأَخُذُهُ لِلْخُلُوصِ إلى مَقُوْلَةٍ إطْلاقِيَّة ثَالِثَةٍ تُخْبِرُنَا، بِإدْهَاشٍ مُنْقَطِعِ النَّظِيْرِ، أنَّ “الشَّاعِرَ الحَقِيْقِيِّ لا ينتبهُ لِكَلامِ النَّقْدِ والنُّقَّاد”! فَهَلْ لِمثْلِ هَذِهِ الْمَقُولاتِ الْمُقنَّعَةِ بِمَنْطِقٍ صُوَريٍّ زَائِفٍ أنْ تَنْدَرجِ ضِمْنَ أيِّ شَيْءٍ يَعْدو ذَلَكَ الشَّيءِ المُسَمَّى “مُغَالَطَاتٍ مَعْرِفِيَّةٍ وجَمَالِيَّةٍ”؟ وهَلْ لَنَا، ولِصَاحِبِ القَولَيْنِ الأوَّلَيْنِ وثالِثْهُما المُستَنْبَطِ، مَنْطِقِيَّاً، مِنْهُمَا، أَنْ نُغْفِلَ إلْحاحَ الْحَاجَةِ إلى إعَادةُ التَّفْكِيرِ فِي هَذِهِ الأقْوالِ، لِتَخَطِّئَتِهَا تَمَامَاً، أو لاقْتراحِ بَدائِلَ لَهَا تَخْلُو مِنَ الاسْتِعْجَالِ، والنَّزَقِ، وانْعِدَامِ التَّأَصُّلِ.
ولَستُ أحسبُ أَنَّ التَّخْطِيء، أَو اقْتِراحَ فَهْمٍ عَقْلِيٍّ بَدِيْلٍ؛ أيْ فَهْمٍ مُتَبَصِّرٍ بِعُمْقٍ نَقْدِيٍّ مَعْرِفِيٍّ وجَمَالِيٍّ فِيْه، لِهَذِهِ الْمسْألَةِ، سِيَأْتِيَ مُعَزَّزاً بمُعْطَيَاتِ المنْظُورَيْنِ الجَمَالِيِّ والْمَعْرفِي فَحَسْبُ، بَلْ سَيكُونُ مُؤَكَدَاً بِمُعْطَيَاتِ المَنْظُورِ الواقِعِيِّ الْعَمَلِيِّ الَّذي لا تَعُوزهُ الأَدلَّةُ والبراهِيْنُ النَّابِعَةُ مِنْ تَجاربَ وخِبْراتٍ رَاكَمَهَا الشُّعَراءُ النُّقَّادُ والنُّقَّادُ الشُّعَراءُ، ومِنْ تَجَلِّيَاتٍ نَصِّيَّةٍ شِعْرِيَّةٍ ونَقْدِيَّةٍ أَبْدَعَهَا شُعَراءٌ نُقَادٌ ونُقَّادٌ شُعَراءٌ (لاحِظ تَراتُبِ النُّعُوتِ فِي العِبَارَتِيْنِ)، وهِي تَجاربٌ وخِبْراتٌ وتَجَلِّيَاتٌ نَصِّيَّةٌ تُؤَكِّدُ الْحَاجَةَ إلى إعَادة التَّفْكِيْرِ مَلِيَّاً فِي مَا قَدْ أكَّدَّتْهُ تِلْكُمَا المَقُولَتِينِ الزَّائِفَتَيْنِ، وثَالِثَتُهُمَا، ولاسِيَّمَا لِجِهَةِ تَرْكِيزِ أولاهُمَا وُقُوعَ فِعْلِ النَّقْدِ عَلَى “الشَّاعِرِ” لَا عَلَى نُصُوصِهِ وقَصَائِده! ولِجِهَةِ وَسْمِ ثَانِيَتِهِمَا النُّقَادَ بِالْفَشَلِ كَشُعَراءَ وكُتَّابَ دُوْنَ تَفَحُّصِ أَسْبَابِ تَحَوُّلِ الْخِيَاراتِ المُتَعَلِّقَةِ بإحَالَةِ الذَاتِ، إحَالَةً مُوضُوعِيَّةً، فِي الْوُجُودِ، ومِنْ دونِ إدراكِ انْطْواءِ هَذِهِ الْكلِمَة – الْحُكْمِ “الْفَشَلِ” عَلَى إطْلَاقِيَّةٍ غَيْرِ سَوِيَّةٍ مِنْ أَكْثَرِ مِنْ مَنْظُورٍ وَوجْهَةٍ! وكَذا لجِهَةِ الاسْتِنْباطِ الْمُتَعَجِّلِ النَّاجِمِ عَنْهُمَا والقَاضِي، وِفْقَ ثَالِثَةِ الْمَقُولات، بِنَفْيِ صَفَةِ الحقِيْقِيَّةِ؛ أَيْ الأصَالَةِ الإبْدَاعِيَّةِ، عَنْ أيِّ شَاعِرٍ يُوْلي أَدْنَى دَرَجَةٍ مِنَ الانتباهِ “لِكَلامِ النَّقْدِ والنُّقَّاد”.
قَدْ نَفْهَمُ ابْتِداءً، أَوْ نَتَفَهَّمُ إلى حَدٍّ مَا، مَسْألَةَ وسْمَ مُقَاربَةٍ نَقْدِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ بالْخَطَأَ، أو بِمَا مَاثَلَهُ، لِكنَّنَا غَيَر مُؤَهَّلين، مَهْمَا بَلَغَ بِنَا حَالُ الرُّكُونِ إلَى اسْتِسْهَالٍ، أَو اسْتِعْجَالٍ، أو انْفِعَالٍ، أَو نَزَقٍ، فِي إطْلاقِ الْمَقُولاتِ والأحْكَامِ، لِلْقَبُولِ بِسَحْبِ الْحُكْمِ عَلى النَّاقِدِ بِكُلِّيَّتِه وعَلَى كُلِّ نُصُوصِهِ، أو أقْوالِهِ، النَّقْدِيَّة، ومِنْ ثَمَّ جَعْلِهِ نَاقِدَاً فاشِلاً بِإطْلاقٍ، لِكَونِهِ، فِي الأصْلِ، شَاعِراً، وكَاتِبَاً، فَاشِلَاً. وكَأنَّمَا هُوَ، مُذْ بَدْءِ الْبَدْءِ، مَحْضُ “كَائِنٍ بَشَريٍّ” خَاوِيَ الْوِفَاضِ، لِأنَّهُ لَمْ يُدْركْ بِذْرَةَ إنْسَانِيَّتَهِ بِوعْيٍ يَحُولُ دُوْنَهُ والإمعَانِ فِي الْفَشَلِ، نَاهِيْكَ عَنْ أَنَّهُ لَمْ يَتَوَافَر عَلى مُقْتَضَيَاتِ الإبْداعِ وأُسِسِهِ الْمَعْرِفِيَّةِ وجَمَالِيَّاتِهِ النَّاجِمَةِ: شِعْراً، وكِتَابَةً فِي أيِّ جنسٍ أَدَبِيٍّ، ونَقْدَاً، عَنِ وعْيٍ عَمِيْقٍ بِمَفْهُوم “الشِّعْرِيَّة” بِشَتَّى مُكَوِّنَاتِهِ الْمَعْرِفِيَّة والْجَمالِيَّةِ الْمُتَفَاعِلَةِ، وبِلَوازمِ تَجْلِيَةِ وُجُودِه، كَمَفْهُومٍ تَأْسِيْسيٍّ، فِي كُلِّ إبْدَاعٍ أَدَبِيٍّ وَفَنِّيٍّ ذِيْ قِيمَةٍ، ولا سِيَّمَا فِي الِّشعْرِ الَّذي هُو لُبُّ لُبَابِ الشُّعْرِيَّةُ، ومُجَلِّي مُكَوِّنَاتِ جَوْهَرَهَا الْجَمَاليِّ، والْمَعْرِفِيِّ، والْوُجُودِيِّ الأَسْمَى.
ولْنَعُدْ إلى التَّبَصُّرِ، قَلِيْلاً، فِي الْخُلاصَةِ الَّتي تَقُولُ إِنَّ “أَفْضَلَ نَاقِدٍ للشَّاعِر هُوَ الشَّاعِرُ نَفْسَهُ”، ولنَقُلْ بِدايَةً إنِّهَا قَوْلٌ يَظَلُّ، مَعِ انْطْوائِهِ عَلَى الْخَلَلَ المُرْتَبِطِ بِمسْأَلة نُهُوضِ الشَّاعِرِ بِنَقْدِ نَفْسِهِ، بِكُلِّيَّتِه، لا نَقْدَ نَصٍّ مِنْ نُصُوصِهِ أو حَتَّى طَائِفَةً مِنْ نُصُوصِهِ، أو كُلَّ نُصُوصِهِ، قَوْلاً مَفْتُوحَاً، بِدَوْرِهِ، وِوِفْقَ مَنْظُورٍ لَيْسَ بِمقْدورِ الْوعْيِّ النَّقْدِيِّ الْحقِيقيِّ المُدْركِ مَاهِيَّةَ النَّقْدِ، ووظَائِفَهُ، وغَايَاتِهِ، أَنْ يَتَبَنَّاهُ إلَّا مَشْروطَاً ومُتَعَيَّنَاً بحَالاتٍ يَغْلُبُ أنْ تَكونَ نَادِرةَ الْوجُودِ، عَلَى احْتِمَالِ أنْ يَكونَ هَذَا الشَّاعِرِ أو ذَاكَ، نَاقِدَاً فَاشِلاً لِأنَّهُ، فِي الأصِلِ، شَاعِرٌ فَاشِلٌ ذَهَبَ إلى مُمَارسَةِ النَّقْدِ مُحَفَّزاً بالْفَشَلِ، ومُعَوِّضَاً لَهُ عَلَى نَحْوٍ لنْ يُفْضيَ إلَّا شِيْءٍ سِوى دَفْعِهِ لِلإيْغَالِ فِيْهِ، كَمَا هِيَ حَالُ جَمِيْعِ النُّقَادِ، فِي تَصَوُّرِ الْمَقُولَةِ الَّتي يْؤَكِّدُهَا أيْمنُ حَسن باطْمئنانٍ وثِقَةٍ مُبالَغٍ فِيْهِمَا!
ومَعْ إِمْكَانِيَّةِ وُجُودِ هَذَا الاحْتِمالِ، قَدْ يَكُونُ لِكِلْتَا المَقُولَتيْنِ أَنْ تَسْتَدعِيَا انْبثَاقَ المَقُولَةَ الزَّائِفَةَ النَّقِيْضَ، وهِيَ القَائِمَةُ، بِدَوْرِهَا، عَلَى رَدَّةَ فِعْلٍ غَيرِ سَويٍّ، إذْ تَقُولُ “إنَّ الشُّعَراءَ نُقَّادٌ فَاشِلُون”، بِحِيثُ لا يَجْدُر بِشَاعِرٍ “حَقَيقِيٍّ!” أَنْ يَنْقُدَ ما يُنتِجُهُ هُوَ، أو مَا يُنْتِجُهُ غَيْرهُ مِن الشُّعَراءِ، مِنْ شِعْرٍ، كَمَا لا يَجْدُر بِنَاقِدٍ حَقِيْقيٍّ أنْ يُولِى نُصُوصَ الشُّعْراءِ وقَصَائِدِهِم أَدْنَى اهتمامٍ لِأنَّهُم “فَاشِلُونَ”، أَسَاسَاً، كَنُقَّادٍ لِلشِّعْرِ يَجُرُّوْنَ فَشَلَهُمْ، أو يَجْرُوْنَ خَلْفَهُ عَلى نَحْوٍ تَعْوِيْضِيٍّ يُعْجِزُهُم عَنْ أَنْ يَكُونُوا “شُعَراءَ حَقِيْقِيِّينَ!”.
ومَعْ ذِلكَ، وأَخْذَاً مِنْ جَانِبِنَا بالاحْتَمالاتِ الأخُرى، ولاسَيَّمَا مِنْهَا الاحْتِمَالَيْنِ المَنْطِقِييَّنِ، اللَّذَيْنِ يَذْهَبْ أَوَّلُهُمَا إِلى افْتِراضِ كُمُونِ “نَاقِدٍ أَصِيْلٍ ومُجَرِّبٍ” فِي إِهَابِ “شَاعِرٍ أَصِيْلٍ وَمُجَرِّبٍ”، أو شَاعِرٍ أَصِيْلٍ ومُجَرِّبٍ فِي إِهَابِ نَاقِدٍ أَصِيْلٍ ومُجَرِّبٍ”، فِيْمَا يَذْهَبُ ثَانِيْهُمَا إلى افْتراضِ أنْ يَكونَ الشَّاعِرُ “مُبْتَدِئاً” فِي كَتَابَةِ الشِّعْرِ ولَيْسَ مُجَرِّبَاً، ولا يَتَواَفَرُ عَلى مَعْرِفَةٍ جَمَاليَّةٍ كَافِيِةٍ بِشَأْنِ مَفُهُومِ الشِّعرِ وكَيْفِيَّاتِ تَجْلِيَتِهِ، نَصِّيِّاً، عَبْرَ الكَتابِة الإبْدَاعِيَّة، ولَكِنَّهُ مُنْفَتِحٍ، فِي الآنِ نِفْسِهِ، وعَبْرَ القِراءةِ الْمُعَمَّقَة والتَّجْريْبِ المَفْتُوح، عَلَى تَفْعِيْلِ الْمَلَكَاتِ، واجِتِيَافٍ الْمَعَارِفِ، واكْتِسَابِ المَهَاراتِ، وتَنْمِيَةِ الْخِبْراتِ.
مَعِ الاحْتِمَالِ الأوَّلِ، أو مَعِ الْحَالَةِ الأُوْلَى، سَنَكُونُ أَمَّا إِزاءَ شَاعِرٍ نَاقِدٍ، أو نَاقِدٍ شَاعِرٍ، هُوَ، فِي الْحَالَيْنِ، عَارِفٍ، عَلى نَحوٍ كَافٍ، بِلَوَازمِ الشِّعْرِ ومُقْتَضَيَاتِهِ، وبِأُصُولِ النَّقْدِ الأدبِيِّ، والشِّعْرِيِّ مِنْهُ عَلى وجْهِ الْخُصُوصِ، وبلَوازِمِهِ المَعْرِفِيَّةِ والجَمَاليَّةِ، وأسُسِهِ النَّظَرِيَّة، ومَنْهَجِيَّاتِه، وإجْرِاءَاتِه، وكَيْفِيَّاتِ مُمَارسَتِه تَطْبِيْقِيَّاً لإنْتَاجِ نُصُوصٍ نَقْدِيَّةٍ تَنْهَضُ، أسَاسَاً، عَلى مُقَارَبَةِ النُّصُوصِ الشِّعْرِيَّةِ والقَصَائِدِ وِفْقَ مَنَاهِجَ تَفَحُّصٍ وآلِيَّاتٍ إدْراكٍ مُتَنَوَّعَةٍ، ومُتَغَايَرةِ الإجْراءاتِ والْغَايَات، ولا شَرطَ لإعْمالِهَا سِوى اسْتِجَابَتِهَا الْحَيَوِيَّة للنُّصُوصِ الشِّعْرِيَّةِ والقَصَائِدِ المُرادِ إخْضَاعُهَا للتَّفَحُّصِ الشُّمُوْلِيِّ الْمُعَمَّقِ، والدِّراسَةِ الْوافِيَةِ، والنَّقْدِ الْمَنْهَجِيِّ التَّكامُلِيِّ الرَّصِيْنِ.
لَعَلَّ فِي تَوضِيْحِ أَيمَن حسَن أنَّهُ “أكَادِيْمِيٌّ ومُطَّلِعٌ على نَظَريِّاتِ القِراءَةِ والْكِتَابَةِ النَّقْديّة”، أَنْ يُعَزَّزَ صِدْقِيَّةَ مَا ذَهَبْنَا إلِيْهِ فِي الفَقَراتِ السَّابِقَاتِ
وهُنَا لَنْ يَكُونَ مُمَارسُ النَّقْدِ هُوَ الشَّاعِرُ الَّذيِ كَتَبَ الْنَّصَّ الشِّعْريَّ؛ أيْ لَنْ يَكونَ هُوَ الشَّاعِرُ الَّذي “جلَسَ لِيكْتُبَ” فَكَتَبَ نَصَّاً أَرْضَاهُ، فَاغْتَبطَ بِهِ، فَأَطْلَقَهُ فِي مَجَالٍ قِرائِيٍّ يَضُمُّ قَارِئَاتِ وقَارئيْنَ سَيَكُونُ هُو نَفْسُهُ واحِداً مِنْهِم، ورُبَّمَا أَوَّلَهُم، فَيَقْرأُ النَّصَّ بِوصْفِهِ قَارئَاً لا بِوصْفِه “الشَّاعِرَ الَّذي كَتَب”. ومِنْ هُنَا يَكونُ نَقْدُ الشَّاعِرِ للنِّصِّ الَّذي كَتَبَ قَرِيْنَاً لِنَقْدَ أيِّ قَارئٍ، أوْ أّيِّ نَاقِدٍ، حَصِيْفٍ يَتَفَاعَلُ، نَقْدِيَّاً، مَعِ النَّصِّ الَّذي يَقْرأُ، فَالنَّاقِدُ، ابْتِداءً، هُوَ هَذَا القَارئُ الْمُبْدِعُ، الْمَسْكُونُ بالشِّعْرِيَّةِ، والْمُتَوَافِرُ عَلَى مَا يَتَوجَّبُ أنْ يَتَوافَرَ عَلَيْهِ مِنْ مَعَارفَ مُتَنَوِّعَةٍ، ومَهَاراتٍ، ومَنَاهِجَ، وتَجَارِبَ وخِبْراتٍ، لِمُمَارِسَةِ النَّقْدِ الأدَبيِّ والشِّعْرِيِّ الرَّصِيْنِ، وذِي القِيْمَةِ المَعْرِفِيَّةِ، والفَائِدةِ الْعَمَلِيَّة، والْجَدْوى.
ومَا لِهَذا الْقَوْلِ أَنْ يَتَبدَّلَ جَرَّاءَ مَعْرِفَتِنَا حَقِيْقَةَ تَوافُرِ الشَّاعِرِ الَّذي سَيُمَارِسُ نَقْدَ نَصِّهِ عَلَى إدراكٍ مُزَامِنٍ، أو لاحِقٍ، بَكِيْفِيَّاتِ كِتَابَتِهِ النَّصِّ الَّذي يَقْرَأُهُ لِيُؤَوِّلَهُ ويَنْقُدهُ، وبِخَفَايَا عَملِيَّة كتابَتِهِ الَّتي لا يَعْرِفُهَا أَحَدٌ سِواهُ، وبِدَرَجَاتِ مَوَرَانِ جَمِيْعِ أَقْطابِ العَملِيَّةِ الإبْداعِيَّة دَاخِلَ وجدانِهِ الْكُلِّيِّ أثْنَاء الكتَابَةِ، سَواءٌ أَجَاءتْ هَذِهِ الكتَابَةُ فِي دَفْقَةٍ واحِدةٍ تَوَزَّعَتْ عَلَى دفَقَاتٍ مُتَوالِيَةٍ وشِبْهِ مُتَزَامِنِةٍ، أَمْ كَانَتْ دَفَقَاتُهَا مُتَقَارِبِةً زَمَنِيَّاً، أَوْ حَتَّىَ مُتَبَاعِدَةَ الْبُرْهَاتِ؛ فَمَا لهَذِهِ الْمُعْطَيَاتِ أَنْ تَكُونَ ذَاتَ شَاْنٍ عَظِيْمٍ فِي نَقْدِ النَّصِّ النَّاجِزِ الَّذي أُنْجِزَتْ كِتَابَتُهُ، والَّذِي تَمَّ نَشْرهُ مِنْ قِبَل مُبْدِعِهِ، أو بِمَشِيْئَتِهِ، فِي النَّاسِ.
بِيْدَ أنَّ لِهَذِهِ الْمُعْطَيَاتِ أنْ تَكُونَ ذَاتَ شَأْنٍ عَظِيْمٍ فِي كِتَابَةِ النَّصِّ الشِّعْرِيٍّ اللَّاحِقِ مِنْ قِبَلِ الشَّاعِرِ نَفْسِهِ، ولا سِيَّمَا إنْ أدْرَكَهَا هَذَا الشَّاعِرُ بِعُمْقٍ وسِعَةٍ، وإنْ رُوْجِعِتْ مِنْ قِبَلِهِ بِحَصَافَةٍ تُضِيْئُهَا وتُعَزِّزُهَا خُلاصَاتُ مُقَارَباتٍ نَقْدِيَّةٍ عَمِيْقَةٍ أنْجَزَهَا نُقَّادٌ لَيْسُوا هُمُ هَذَا الشَّاعِرُ الَّذي كَتبَ النَّصَّ، ثُمَّ أحَالَ نُفْسَهُ قارِئَاً أَوَّلَ، أَو “قَارِئَاً نَمُوْذَجِيَّاً” لَهُ، ومِنْ ثَمَّ نَاقِدَاً أوَّلَ، أو حَتَّى “نَاقِدَاً أَمْثَلَ”، جَاعِلاً مِنْ نَفْسِهِ “شَاعِرَاً تَجْرِيْبِيَّا”، ومِنْ نَصِّهِ “تجْرِبَةً إبْدَاعِيَّةً”، و”مُقْتَرَحَاً جَمَالِيَّاً. وإنِّي لَأحْسَبُ أَنَّ لإدْرَاكِ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ، إدراكاً مَعْرِفيَّاً وجَمَالِيَّاً مُتَواشِجَاً، أَنْ يُؤَسِّسَ لِأخْذِ النَّصِّ الشِّعْرِيِّ الآتِي مِنْ الْعُمْقِ المَعْرِفيِّ الْجَماليِّ الَّذِي أَدْرَكَهُ سَابِقُهُ إلى عُلُوٍّ رُؤْيَويٍّ، ورُؤيَاوِيٍّ، وَجَمَالِيٍّ، أَبْهَى وأَسْمَى، وأَجَلَّ وأَجْمَلَ.
ولَعَلَّ فِي تَوضِيْحِ أَيمَن حسَن أنَّهُ “أكَادِيْمِيٌّ ومُطَّلِعٌ على نَظَريِّاتِ القِراءَةِ والْكِتَابَةِ النَّقْديّة”، أَنْ يُعَزَّزَ صِدْقِيَّةَ مَا ذَهَبْنَا إلِيْهِ فِي الفَقَراتِ السَّابِقَاتِ، وأنْ يَفْتَحَهُ عَلَى مَا يُوَسِّعَ الْحِوارَ التَّفَاعُلِيَّ حَولَهُ ويُعَمِّقُهُ، وعَلَى مَا يُؤَكِّدُ صَوابِيَّةَ المَنْظُورِ التَّأَمُّلِيِّ الَّذِي أَضَاءَ تَبَصُّراتِنَا فِي الفَرْضِ الرِّجْرَاجِ، ولا نَقُولُ الْخُلاصَةَ الْمُؤَصَّلَةً، القَائِلِ إِنَّ أَفْضَلِ نَاقِدٍ للِشَّاعِرِ (لِنُصُوصِ الشَّاعِرٍ) “هُوَ الشَّاعِرُ نَفْسُهُ”! وإلى ذَلِك، بَلْ وتَأَسِيْساً عَلَى مَا تَنْطَوي تَبَصُّراتِنَا عَلَيْهِ، مِنْ تَلاقٍ مَع جَوهَرِ الرُؤُيَةِ الَّتِي يَتبَنَّاهَا أيْمَن حَسن للشِّعْرِ والشِّعْرِيَّةِ، والَّتِي حَفَّزتْ، وحَدَّدَّتِ اتِّجَاهَ، الأعَمَّ الأَغْلَبَ مِن إجَابَاتِهِ عَلى أسْئِلةِ، فَإنَّنَا لَنُؤَكِّدَ حَقِيْقَةَ أنَّ النَّصَّ الشَّعْريَّ الأصيْلَ فِي إبْداعِيَّتَه وجَماليَّاتِهِ، يَظَلُّ هُوَ، وحْدَهُ، المرآةَ المُعَرَّفَةَ، الكَانِزةَ فِي أَعْمَاقِهَا البُؤَرِيَّة الشَّاسِعَةِ بُؤَراً مُشِعَّةً تُؤَهِّلِهَا للِوقُوفِ، بِجَلالٍ وجَمَالٍ وثَراءٍ تَأْوِيْلِيٍّ، إِزاءَ مَا يَربُو عَلَى الْحَصِرِ مِنَ المَرايَا الْمُتَنَاظِرةِ مَعَهَا، والْمُتَجَاوِرةِ مَعْ بَعْضِهَا بَعْضَاً، والتَّي تَتَجَلَّى فِي نُصُوصٍ نَقْدِيَّةٍ رَصِيْنَةٍ، لِكَونِهَا نُصُوصَاً مُفْعَمَةً بِتَعَدُّدِ مُسْتَوَيَاتِ القِراءَةِ والتَّفَحُّصِ الاسْتبْصَاريِّ، وبالتَّأْويْلِ الْمَفْتُوحِ عَلَى مُمْكِنَاتِ إعَادةِ التَّأْويْلِ، وهُمَا السِّمَتَانِ النَّاهِضَتَانِ، دائِماً وأبَداً، عَلَى إدْراكِ التَّواشُجِ الوَثِيْقِ بِيْنَ الرَّؤَى الشِّعْرِيَّةِ والْجَمَاليَّاتِ الَّتي تَصُوْغُ كَيْفِيَّاتِ قَوْلِهَا بِجَمَالٍ شِعْرِيٍّ فَاتِنٍ، وأَخَّاذٍ!
أَمَّا مَعِ الاحْتَمال الثَّانِي، أو مَعِ الْحَالَةِ الثَّانِيَة، فَسَنَكُونَ إِزاءَ وضَعٍ أَبْسَطَ بِكَثِيرٍ مِنْ الْوَضِعِ السَّابِقِ بالِغِ التَّعقِيْدِ والتَّركِيْبِ، والَّذي يَتَطَلَّبُ الْمزِيْدَ مِنَ الإفْصَاحِ الْمُفْضِي إلى تَوضِيْحِ مَا قَدْ خَلُصَتْ مُقَاربتُنَا التَّأْسِيْسِيَّةُ السَّابِقَةُ إلِيْهِ، بِرَغْمِ كَثَافَتِهَا الإيْحَائْيَّةِ وتَركُّزِهَا. ولَعَلْنَا نُشِيْرُ، ابْتِدَاءً، إلى مُعْطىً أَوَّلِيَّاً يَقُولُ إنَّهُ مَا مِنْ شِيْءٍ يُمَيِّزُ هَذَا الاحْتِمَالِ أَبَلَغُ فِي البَسَاطَةِ، والسَلَاسَةِ، وغِيَابِ التَّعْقِيْدِ، مِنْ حَقِيْقَةِ أَنَّ الشَّاعِرَ المُبْتَدئَ لِيْسَ “أَكادِيْمِيَّاً” مُجَرِّبَاً، ولَيْسَ مُطَّلِعَاً “عَلى نَظَرِيَّاتِ القِراءَةِ والْكِتَابَةِ النَّقْدِيَّة”، ولا يَتَبَنَّى مَنْهَجَاً نَقْدِيَّاً مُسْتَورداً، بِكُلِّيَّتِهِ، مِنْ ثَقافَةٍ أُخْرى، ولا يُحِسِنُ شِيْئَاً بِشَأنِهِ سِوى “إسْقاطِهِ الْحَرْفيِّ الْمُتَعَسِّفِ” عَلَى نُصُوصٍ شِعْرِيَّةٍ عَرَبِيَّةٍ تَتأَبَّى عَلِيْهِ، نَاهِيكَ عَنْ أنَّهُ شَاعِرٌ بَادِئٌ لَيْسَ مُتَقَوقِعَاً عَلَى تَصَوُّرٍ مُكْتَمَلٍ حَولَ مَفْهُومَيِّ الشِّعْرِيَّةِ والشِّعْرِ، ولَيْسَ واعِدَاً نَفْسَةُ بِاقْتِداءِ، أو بِخِلافَةِ أَحَدٍ مِنَ الشُّعَراءِ، ولَمْ يُشَكِّل لِنَفْسِهِ، لأسْبَابَ مُدْرَكَةٍ أَو غَيْرَ مُدْرَكَةٍ مِنْ قِبَلِهِ، مَوقِفَاً سلْبِيَّاً مِنَ النَّقْدِ والنُّقَادِ، ورُبَّمَا مِنَ الثَّقَافَةِ والْمُثَقَّفِينَ!
مَع هَذَا الاحْتِمَال، سَيَتَبدَّى الشَّاعِرُ “ذَاتَاً إنْسَانِيَّةً مُبْدِعَةً”، مُنْفَتِحَةً بَلا قُيُودٍ عَلَى النَّقْدِ والنُّقَّاد، بَلْ وتَنْشُدُهُمَا نَاشِدَةً مِنْهُمَا، بِصِدْقٍ ولَهْفَةٍ، الرَّأيَ والإرشَادَ والنُّصْحَ. ومَا هَذَا إلَّا لِكَونِهَا “ذَاتَاً إنْسَانِيَّةً حَقِيْقِيَّةً” تَسْعَى، بلَهْفَةٍ لَاهِبَةٍ، لِأَنْ تُجَلِّي فِي الْوُجُودِ وُجُودَ “ذَاتِ شَاعِرَةِ” تَتُوْقُ لِتَجْلِيَةِ ذَاتِهَا الإنْسَانيَّة الْكُلِّيَّةِ فِي شَتَّى مَدَاراتِ الْوُجُودِ؛ وهِيَ، إلى ذَلِكَ، تُدْرِكُ، بِعُمْقٍ مَعْرِفِيٍّ وسِعَةِ أُفُقٍ، الأَهَميَّةَ التَّأْسِيْسِيَّةَ الجَوْهَرِيَّةَ الَّتي تَحُوْزُهَا تِلْكُمَا الذَّاتَيْنِ، كَذَاتِيْنِ مُلْتَحِمَتِينِ فِي أصْلَابِ كَيْنُونَةٍ وُجُوْدِيَّة وَاحِدةٍ، لِتَحْفِيزِ إطْلاقِ أيِّ عَمَلِيَّةٍ إبْداعِيَّةِ، بلْ إنْهَا لَتُدْركُ ضَرُوْرةَ وُجْودِهِمَا التَّفَاعُلِيِّ، والمُتَواصِلِ، مَعْ جَمِيْعِ مُكَوِّنَاتِ الْوجْدانِ الْكُلِّيِّ لِأَيِّ “أَنَا شَّاعِرَة”، لإنْهَاضِ صَيْرورَةِ الإبْداعِ الشِّعْرِيِّ وُصُولاً إلى مِيْلادِ نَصٍّ شِعْرِيٍّ مُفْعَمٍ بالصِّحَةِ اللُّغَوِيَّةِ، والتَّدَفُّقِ الرُّؤْيَويِّ، وطَلاقَةِ الْخَيَالِ، كَمُكُوِّنَاتٍ تَأسِيْسِيَّةٍ تُتِيحُ للنَّصِّ الشِّعْرِيِّ الْوَلِيْدِ أَنْ يُجَلِّي وُجُودَ عُنْصُرٍ جَوْهَرِيٍّ مِمَّا خَفِيَ، أو غَمُضَ، مِنْ تَجَلِّيَاتِ الْجَمَالِ الإنْسَانِيِّ الْحَيَاتِيِّ الْوُجُودِيِّ الَّذي لا يُسَلِّمُ إِشَاراتِهِ الْوامِضَةِ إلَّا لإنْسَانٍ شَاعِرٍ “يَحْيَا شِعْرِيَّاً عَلَى الأرضِ”، فَيَلْتَقِطُ مَكْنُوزاتِ تِلْكَ الإشَاراتِ، ويُشَكِّلُ، فِي قَصَائِده، مَداراتِ أَكْوَانِهَا الشَّعْرِيَّةِ الْمُمْكِنَةِ، والْمُومِئَةِ إلى مَدَاراتٍ وأكَوانٍ لَمْ يَكْتَشِفْهَا أَحَدٌ بَعْدُ!
ومَعْ حُضُورِ “الذَّاتِ الشَّاعِرةِ” عَلَى هَذَا النَّحْوِ الإيْجَابِيِّ المُقَدَّرِ عَالِيَاً، والْوَاعِدِ، سَتَتَحَقَّقُ غَايَةُ سَعْيِهَا الْحَيَوِيِّ لبِنَاءِ ذَاتِهَا، عَبْرَ إمْعَانِهَا فِي قِراءَةِ النُّصُوصِ النَّقْدِيَّةِ الْعَامَّةِ، والمُتَخَصِّصَة بِالشِّعْرِيَّةِ وجَمَالِيَّاتِ الشِّعْرِ، وتِلْكَ الَّتي تُقَارِبُ، نَقْدِيَّاً، النُّصَوصَ الشِّعْرِيَّةَ الَّتي تُبْدِعُهَا هِيَ، أو الَّتي يُبْدِعُهَا سِوَاهَا، وكَذَلِكَ عَبْرَ التَّواصُلِ الْمُبَاشِرِ، مِنْ قِبَلِهَا كَـ”ذَاتٍ شَاعِرةٍ”، مَعِ النُّقَّادِ كَـ”ذَوَاتٍ نَاقِدةٍ”، لمُحَاوَرَتِهِم، وللإِفَادةِ مِنْ نُصْحِهِم وتَوْجِيْهَاتِهِمْ ونَقْدِهِم للنُّصُوصِ الْمُقْتَرَحَةِ مِنْ قِبَلِهَا كَذَاتٍ شَاعِرةٍ تَولَّتْ أمْرَ بِنَاءِ نَفْسِهَا بِنَفْسِهَا، وذَلِكَ عَلَى نَحْوٍ يَدْعَمُ حِرْصَهَا عَلَى رَفْدِ هَذَا البِنَاءَ بِكُلِّ مُقْتَضَياتِ تَكَوُّنِهِ الْجَمَاليِّ والمَعْرِفِيِّ الْكَفِيْلِ، وحْدَهُ، بِإكْسَابِهَا مُقَوِّمَاتِ “كَيُونَتِهَا الْوُجُوْدِيَّةِ”، كَذَاتٍ شَاعِرةٍ تُجَلِّي جَوهَرَ “الذَّاتِ الإنْسَانِيَّة الشَّاعِرةِ الْمُبْدِعَةِ الْخَلَّاقَة”؛ أيْ الذَّاتِ الْجَدِيْرَةِ بِوجُودٍ شِعْرِيٍّ جَوْهَرِيٍّ يُسَوِّغُ سَعْيَ “الشَّاعِرِ الْحَقِيْقيِّ عَنْ حَقٍّ” إلى إدراكِ مَكانَةٍ وُجُوْدِيَّةٍ حَقِيْقِيَّةٍ فِي الْوُجُود.
وبِحُصُور “الذَّاتِ الشَّاعِرةِ” عَلى النَّحْوِ المُكَثَّفِ الَّذي سَعَتِ الفَقْرةُ السَّابِقَةُ إِلى جَلائِهِ، تَنْفْتَحُ أَمَامَ “الشَّاعِرِ الْحَقِيْقِيِّ” أَوْسَعُ الإمْكَانِيَّاتِ والآفَاقِ الْكَفِيْلَةِ بِإِشْبَاعِ مَا يِسْكُنُهُ مِنْ صَبْوَاتِ وَلَهٍ لَاهِبٍ لِأَنْ يَكُونَ شَاعِراً مَقْرُوْءَاً، مَرْمُوقَاً، ولا يَكُفُّ النَّاسُ عَنِ انْتِظارِ جَديدِ نُصُوصِهِ الشِّعْرِيَّةِ، وقَصَائِدِهِ، لا لِسَبَبٍ سِوى أنَّهَا مَانِحَةُ آمَالٍ إِنْسَانِيَّةٍ مُؤَصَّلَةٍ، وفَاتِحَةُ آفَاقٍ حَيَاتِيَّةٍ وَوُجُودِيَّةٍ مُمْكِنَةٍ وقَابِلَةٍ لِلاتْسَاعِ والُعُلُوِّ، ومَا ذَاكَ إِلَّا لِعُلُوِّ إبْدَاعِيَّتِهَا الشِّعْرِيَّةِ الإنْسَانِيَّةِ والرُّؤْيَويَّةِ المُتَواشِجَةِ، ولِخُلُوِّهَا مِنَ الأَخْطَاءِ والهَفَواتِ والهِنَاتِ، ولِتَميُّزِهَا بِبلْورةِ رُؤَىً حَيَاتِيَّةٍ وُجُودِيَّةٍ خَلَّاقَةٍ، وبابْتِكَارِ جَمَالِيَّاتِ كِتَابَةٍ شَعْرِيَّةٍ تُكْسِبُهَا مِنَ الْقيْمَةِ الرَّؤْيَويَّة والْجَمَالِ مَا لَنْ يَكونَ لَهَا بِمَعْزَلٍ عَنْهُمَا وقَدْ تَواشَجَتْ عَنَاصِرُهُمَا الْمُلْتَحِمَةُ فِي أَصْلابِ جَمِيْعِ مُكَوِّنَاتِ هَذِه النُّصُوص الشِّعْرِيَّةِ، وفِي تَشَكُّلاتِ بُنَاهَا الصُّغْرى، وفِي شَكْلِ الْبَيْتِ الْكُلِّيِّ الَّذي بَنَتْهُ لِنَفْسِهَا وسَكَنَتْهُ مُنْتَظِرةً قُدُومَ القَارئَاتِ والقَارِئِيْنَ لتَسْتقْبِلِهُم، بِتَرْحَابٍ، فِي رحَابهِ الْمُؤَثَّثَةِ بِالْجَمَالْ.