الصدمة المربكة
لقد كانت مداهمة الجائحة بمثابة الصدمة المربكة، على الأقل بالنسبة إليّ شخصيا، فأنا بعد سنين إحساس باللاجدوى بدأت أجد معنى لوجودي منذ بداية الحراك منذ ثلاثة عشر شهرا. الجائحة أعادت خلط الأوراق والبحث عن صيغ للتعايش مع وضع حجر صحي ولنا كجزائريين تجربة قاسية مع جائحة أخرى استمرت عقدا، أعني سنوات المحنة الدموية.
“الخوف السائل” بتعبير عالم الاجتماع البولندي الشهير زيغمونت باومان، الذي حلل آلية من آليات مجتمعات عصرنا وهي المتصلة بالخوف فقال “آلية تحاول أن تجعل حياة مليئة بالخوف قابلة للعيش”.، وكآلية مقاومة هناك استمرار مكثف في القراءة والكتابة، ومتابعة حصص وأفلام، ومتابعة لما يتم تداوله في مواقع التواصل الاجتماعي.. ولكن تأثير الحجر يربك ولا يتيح ما تتطلبه القراءة والكتابة من تركيز.
ربما لأن الحجر عزل وليس عزلة، العزل إجبار والعزلة اختيار.
كنت أعيد النظر منذ شهور في نصوص مخطوطة لي وأحاول تحضيرها للنشر، ومن بينها نصّ سردي أعدت كتابته بعد ضياع الأصل، وهو نص كتبته عقب اغتيال بختي بن عودة وفي الإعادة قمت بمزج بين سيرتين، سيرة بختي ورفاقه وسيرة شباب مثقف تواصلت معهم في عام الحراك، وبمداهمة الجائحة أحاول كتابتها سرديا كمقاومة، كتابة تستعيد مرجعيات كـ “كشف الغمة” للمقريزي.
مع الكتابة أحاول قراءة ما أمكن من كتب متصلة بالمشاريع التي أفكر فيها، وأقرأ بعض الأعمال الإبداعية.
يكتسح الاضطراب يومياتي، فلحظات ينتابني الملل والقنوط، وأستدرك بمواصلة القراءة والكتابة ومشاهدة الأفلام ومتابعة الفايسبوك.. لكن مع الوقت صارت أخبار الجائحة تثير الضجر فأحاول تقليص متابعة النشرات الإخبارية.
نظرا لتراكمات ظروف خاصة، لم يحدث تغير كبير فإحساس الغربة والعزل لازمني منذ سنوات، ولكن العزل الإجباري يضاعف الإحساس لأن العزل قهر والعزلة خيار.
فضائي الشخصي بسيط جدا وليس فيه ما يشحن بالحيوية ولا ما يحقق التعويض، ولكن بالتعود تآلفت مع وضعي.
أتمرّن يوميا على استرجاع الذاكرة وإعادة تمثلها لتجاوز عقدها، ولتحيين الصلة بمن عرفت، ولقد بدأت منذ فترة كتابة شذرات عن كل من عرفت في حياتي وهذا ما يسعف على التحمل.
العزل يشعرني بالضعف والهشاشة، ولكنه شعور رغم تراجيديته رائع لأنه تشكيل لمرآة التآلف مع الذات وإدراكها، وهو ما يقلب الضعف قوة، لأن الضعف نقصان والنقصان مؤشر حياة، لأن تمام القوة اكتمال وتحقق الاكتمال هو الموت.
العزل يحرّك جمر الذاكرة، ويتيح إمكانية رؤية أفضل بتوفيره مسافة التحرر من الالتباس.
التجربة حلقة أخرى من حلقات صاغت سيرتي، وكل حلقة تشعرني بالتهديد المصيري، وكل مرة أواجه التلاشي.. وعقبه أتشكل.
العزل هو تهديد وجودي، لأنه خلخلة وهدم لمعيارية سلوكية، لمنظومة تواصلية.. والتهديد يستفز غريزة البقاء الكامنة ويكون محك اختبار أهلية الوجود.
الخوف رافقني باستمرار من الغد، خوف مزمن، لكن الجائحة علّمتني درسا جوهريا هو استثمار اللحظة وعيشها فالآتي لا يمكن مهما كانت دقة الاستشراف والإعداد تمام التأمين.
ما يحدث ملتبس، والأهم البحث عن خلاص بدل الاستغراق في إعادة سرديات المؤامرة، لأن المؤامرة دوما مصاحبة للتاريخ، والجائحة هي تصريف لعبث المخابر وللتلاعب بالتوازن الحيوي المتمادي منذ عقود، وقد تكون إنذار الطبيعة الثائرة على المدمرين.. وربما عبّر المخرج الكندي جامس كامرون عن ذلك في فيلمه الرائع “أفاتار”.
الجائحة أعادت إلى البال كتاب المقريزي “كشف الغمة” وما كتبه بعض المؤرخين عن أهوال الاجتياح المغولي لبغداد، ومشاهد الموتى بالوباء في ثلاثية محمد ديب، وفي “الطاعون” لكامي، وما كتبه شكري في “الخبز الحافي” عن البؤس الفظيع.
كما حضرت في البال أفلام صوّرت بروعة مشاهد قيامية كفيلم “حماية كتاب” (The book of Eli)، من بطولة داينزل واشنطن، وفيلم “حرب الزومبي” العالمية بطولة براد بيت، وفيلم “أنا أسطورة” بطولة ويل سميت.
الجائحة كابوس سينتهي كما انتهت كوابيس قبله، لكنه سيكون فاتحة لمرحلة أخرى وربما سيتجاوز تأثيره على وجهة الأمور ما ترتب عن أحداث الـ11 من سبتمبر 2001، وهناك تفاؤل بقدرة العلماء والأطباء للتوصل إلى لقاح، ولكن المخيف فايروسات متوقعة مستقبلا.. وأعتقد أن الجائحة كانت هزة أو صدمة جاءت بعد أن تجاوزت المنظومات المهيمنة الحدود، وبعد أن تم تجريد السياسة والاقتصاد والعلم من الاعتبارات الإنسانية والأخلاقية.
أعتقد أن التغيّر سيكون كبيرا وشاملا، تغيرا في الصياغات الجيو ـ استراتيجية، تغيرا في السلوكيات الفردية وإعادة الاعتبار لقواعد الوقاية والطب الاجتماعي.. وربما الأساسي هو إعادة الصياغة لنظرتنا للزمن.
بعد حوالي ربع قرن تمكنت في بداية السنة من استعادة التآلف مع جماعة أعادت وصلي بالجماعة التي تبددت عقب اغتيال بختي بن عودة، وأخشى أن يتبدد التآلف مع الحجر، أخاف أن يؤثّر العزل على ما بدأ يتشكل.. أخشى أن تؤثر يوميات العزل على ما بعدها.. ولكن المرعب في الجائحة أنها حولت كل واحد منا إلى مصدر تهديد لغيره، كل منا صار قابيلا، وفي كل قابيل يكمن هابيل.. أخشى كل ما يدمر ما تشكل من إرهاصات عام الحراك.
هو صراع بين القنوط والأمل، قنوط تضاعفه رتابة العزل وأمل تبثه بعض منشورات الفايسبوكيين الذين يحثون على الصبر والصمود، ويعيدون بالافتراضي الوصل بما فصله العزل.