الصول علي

من أهم معالم بلدة سوق الخميس، الشجرة العتيقة على حافة الوادي، الجاف صيفا، السائل شتاء، وقد بلغت هذه الشجرة من الضخامة بحيث يقدر عمرها بقرن من الزمان.
الأربعاء 2018/08/01
لوحة: حسين جمعان

كانت قامات النخيل السامقة المنتصبة على الجانبين هي السمة المميزة والمحددة لمعالم هذا الطريق الزراعي الجميل، والمرصوف بعناية قل مثيلها، وكان اليوم هو يوم خميس، ويوم الخميس هو يوم السوق الأسبوعي في بلدة سوق الخميس* الساحلية، عندما رأيته ذات صباح ندي يقف ببزته العسكرية الغريبة على حافة الطريق الإسفلتي قبيل سوق البلدة بعدة كيلومترات، لم أصدق في البداية ما أرى، أو بعبارة أدق، لم افهم ما أرى، فما كان يلبسه الرجل لم يزد عن كونه خليطا عجيبا من ملابس وأدوات عسكرية منها العصري الحديث و منها ما مضى زمن استعماله مع نهاية الحرب العظمى وبعضها الآخر لا علاقة له بالملابس الرسمية لكنه يدخل في إطار نياشين الزينة المستخدمة في ألعاب الأطفال.

وبرغم قصر قامة الرجل نسبيا وتقدمه في العمر إلا أنه كان يقف منتصبا مستقيم العود، ينتعل حذاء عسكريا إلى منتصف الساقين، يتقدم خطوة إلى الأمام تجاه إسفلت الشارع و يتأخر خطوتين للخلف انزعاجا من السيارات المسرعة والتي يبدو أنها عابرة ولا تقدر قيمة وقفته الثمينة، كان يبدو بعد الأقتراب منه ــ بنياشينه ــ على هيئة جنرال متقاعد من جنرالات الجيش الأحمر السوفييتي عند ظهورهم في احتفالات عيد العمال.

الرجل العجيب كان يحاول في ما يبدو ركوب أي مركبة تسير تجاه السوق الذي ينعقد أسبوعيا في الساحة القديمة وسط البلدة، لم أستطع إيقاف السيارة لأنني غريب عن البلدة أولا، ولأنني كذلك لم أتأكد من سلامة استنتاجاتي برغبة الرجل في الركوب بطريقة الأوتوستوب الشهيرة.

مع اقتراب التاسعة صباحا وصلت مقر المحكمة الجزئية، والذي يقع أيضا وسط ساحة البلدة على حافة مجرى الوادي الجاف المعروف بوادي سوق الخميس، ومبنى المحكمة كما يبدو ضمن مجموعة من بقايا المباني الحكومية المحيطة بساحة السوق بشكل دائري، قد شيد بالطين الأحمر في زمن السلطنة العثمانية.

عند دخولي مقر المحكمة، لم يكن السوق قد بلغ أشده أو اكتمل نصابه، إلا أنه وبعد انتهاء الجلسة القضائية وخروجنا من المبنى العثماني العتيق، كان سوق الخميس قد أصبح اسما على مسمى، وبلغ أوج اتساعه، بانتشار الباعة بمنصاتهم المتنقلة أو بافتراشهم الأرض على بعد أمتار قليلة من الباب الرئيس للمحكمة.

من أهم معالم بلدة سوق الخميس، الشجرة العتيقة على حافة الوادي، الجاف صيفا، السائل شتاء، وقد بلغت هذه الشجرة من الضخامة بحيث يقدر عمرها بقرن من الزمان، لقد استظل بظلها جنود الدولة العلية العثمانية، ثم جنود الغزو الفاشي الإيطالي، كما كان ظلها الكبير مقرا تتجمع تحته قوات الحلفاء وهي تطارد فلول الألمان والطليان الفارين تجاه الغرب بعد الهزيمة القاسية في العلمين، يدمر المهزومون في طريق انسحابهم كل الجسور لتعطيل القوات المنتصرة، ومنها الجسر القديم لوادي سوق الخميس.

تحت هذه الشجرة العتيقة وجدته يقف منتصبا مرة أخرى، يضع يديه على الحزام الجلدي العريض الذي يقسم بطنه إلى نصفين، تتدلى النياشين والقلائد على الجهة اليسرى من الصدر، يقترب بخطوات واثقة، يوزع نظراته بين الباعة والبضائع المعروضة، يراقب كل شيء دون كلمة، يذكرك بصورة المحتسب المكلف بمراقبة الأسواق والغلال في الأزمنة الغابرة.

لقد أنهيت عملي بالمحكمة، ولم يتبق إلا مراقبة هذا الموقف الذي لا تجود الأيام بمثله بسهولة، تقدم الرجل يمارس صلاحياته الواسعة في مراقبة كل شيء، ويبدو أن جميع من في السوق على معرفة تامة به، فقد كانت عبارات الترحيب تسبقه وتتناثر حوله في مرح حيثما اتجه.

ترتفع أصوات الباعة يمتزج فيها الهزل بالتفاؤل:

ـــ  وسع الطريق للصول علي.

ـــ  الصول خش السوق.

ـــ  سوقنا مبروك اليوم.

كانت هذه العبارات المرحبة به، هي وسيلتي لمعرفة الرجل الغريب، (الصول علي) أو هكذا يدعونه، إنه رمز مهم من رموز سوق الخميس، وعلامة بارزة من علامات انعقاد السوق، ولعل لفظة الصول وهي رتبة عسكرية منقرضة، لم تعد مستخدمة هذه الأيام قد التصقت به نتيجة ما يحب أن يرتدي من ملابس.

الجولات التفقدية الأسبوعية للصول علي كانت تغطي في أوقات كثيرة غياب جولات الحرس البلدي لمراقبة نظافة وجودة ما يعرض في الأسواق، إلا أن جولاته كانت تمثل أيضا فقرات من المرح بالنسبة للباعة، المستعدين دوما للدخول معه في مناكفات وحوارات متقطعة كان ينهيها دائما بعبارته الشهيرة.

ـــ مش شغلك هذي خطة حبيلة.

لم يفهم أحد معنى هذه العبارة، لكن العبارة لها ارتباط كبير بملابسه العسكرية، وحالة الشتات النفسي التي يكابدها، وتحيلك العبارة إلى السفاح جراتسياني الذي نصب (الحبيلة) أو الأسلاك الشائكة على حدودنا الشرقية، لكنها عند الصول علي هي الإجابة الدائمة لكل الأسئلة.

في زياراتي التالية للمحكمة علمت من موظفيها أن جولات الصول علي كانت في الكثير من الأحيان تشمل مبنى المحكمة، وأنه يتفقد مكاتبها مكتبا بعد آخر، ويتناول شاي الصباح مع موظفيها.

استمر الصول علي ولسنوات طويلة يقوم بواجباته الوطنية على أكمل وجه، يتفقد أحوال السوق بهمة عالية دون كلل، يعرج على مبنى المحكمة ليطمئن على سير مرفق العدالة، يمر في طريق عودته على المستوصف القريب، يوزع فقرات من المرح بين الجميع، يمثل في بلدة سوق الخميس مع الشجرة العتيقة والوادي الجاف وبعض المباني الطينية العثمانية بقايا زمن أزلي لا يرغب في الزوال.

في زيارتي الأخيرة لبلدة سوق الخميس بعد انقطاع طويل، فوجئت بتغيرات كثيرة، لقد نقل مقر المحكمة لمبنى حديث، وتغير مكان انعقاد السوق، لكن الخبر الأهم هو أن الصول علي قد أصبح نزيل أحد المستشفيات يعاني شيخوخته وحيدا، بعد أن أفنى عمره مدققا ملاحظا متفانيا في خدمة سوق الخميس بلدة وسوقا.

* بلدة ليبية تقع على بعد 120 كلم شرق طرابلس.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.