الطاووس الأبيض
كان المهندس عماد – برتبة نائب وزير – مسؤولا في إحدى الوزارات عن إدارة القروض الدولية. منحت له هذه الدرجة على السلم الوظيفي ليس بسبب كفاحه العملي، بل بسبب تغلغل عائلته في نظام الوساطات – الحكم المؤسسي الحقيقي للبلاد. ومع أن عماد كان رجلاً ذكياً وخريجا بامتياز من جامعة بريطانية، إلا أنه كان فخوراً برتبته الوظيفية أكثر من شهادته العلمية التي نالها بعرق جبينه.
كان لعماد مكتب كبير. وكان يحرص على أن يكون مكتبه فخما ولائقا بمنصبه. وكون أن الوزارة لم تتكفل بنفقات ترميم المكاتب، اضطر عماد أن ينفق على ترميم مكتبه من ماله الخاص، إذ لم يكن له أي دخل من أي رشاوى أو أي عمولات من صفقات. من حيث المبدأ كان عماد يمتنع عن تقاضي الرشاوى والعمولات. هذا ليس لكونه إنساناً شريفاً، بل بسبب عدم ثقته بأحد، وخوفه من أن تتاح الفرصة لأحد بالوشاية به، التي قد تؤدي إلى خسارته لمنصبه وسلطته.
كان عماد كثير الحضور، متواجداً دائماً في عمله يراقب كل الموظفين محاولاً أن يمسك عليهم أخطاءهم ويجمعها، كي يستفيد مما جمع في يوم من الأيام. وبسبب تصرفاته هذه كان مكروهاً ومهاباً في الوقت ذاته، يزداد حذراً كل يوم، ويراقب الموظفين أكثر وأكثر. وبسبب خوفه من المسؤولية وعدم إعطائه الصلاحيات الضرورية لموظفيه لم يُتخذ أيّ قرار أو يُنجز أيّ عمل في الوزارة التي كانت قليلة الإنتاج أصلاً.
وفي شهر نيسان، بعد نزول أمطار كثيرة، حدثت كارثة: انفجر أحد السدود وغرقت نتيجة ذلك ثلاث قرى ومات الكثير من سكانها غرقاً. كان الإهمال الإداري في التشغيل والصيانة لمحابس السد هو سبب هذا الانفجار. ومع أن السد كان على نفقة كاملة من الجهة الخارجية الممولة، بحيث لم تكمن المشكلة في عدم توفر النقود، إلا أن قرار شراء قطع الغيار كان يخضع لإدارة تحت سيطرة عماد، الذي تأخر في الموافقة على الشراء. بذل عماد وعائلته كل جهودهم في أن يبعدوا التهمة عن ابن عشيرتهم “نائب الوزير”. وبعد ولائم كثيرة ورشاوى عديدة تمكن عماد من البقاء في منصبه. أثّر ذلك بالطبع في شخصية عماد، إذ صار أكثر حذراً وخوفاً من الآخرين.
في يوم من الأيام وجد عماد امرأة عجوزا في مكتبه، كانت في انتظاره جالسة على الأريكة المخصصة للزوار المهمين. لم يعرف كيف دخلت ومن أدخلها. أمرها بالخروج فوراً والالتزام بمراسيم الزيارة التي تقتضي موعداً مسبقاً. حاولت المرأة أن تفصح عن سبب مجيئها، إذ كانت من المتضررين من انهيار السد. لم يصغِ عماد إليها، بل أمر مدير مكتبه أن يخرجها فوراً من المكتب. قبل خروجها التفتت إليه المرأة وقالت له: “أنت مجرد طاووس! طاووس أبيض…”. اختفت المرأة بنفس الغموض الذي دخلت به. بعد خروجها انتبه عماد إلى وجود شق على رخام البلاط. كان الشق الغامض مستقيما تماماً لا يتجاوز عرضه ميليمترا وكأنه حفر على البلاط بدقة ليفصل مكتبه عن بقية الغرفة. لم يشغل عماد ذهنه أكثر بموضوع المرأة والشق وواصل عمله.
وبعد عدة ساعات، أحس عماد بحكّة غريبة عند عصعصه. تحسسها بيده وأدرك أن شيئا ما ينمو هناك وكأنه شعر كثيف. ذهب فوراً إلى البيت ليتفحص الأمر. وبعد وصوله وخلع ثيابه، أحس أن ما كان شعيرات أصبحت حزمة كثيفة. اتصل فوراً بزوجته، لكن هاتفها المتنقل كان مغلقاً. عادت زوجته إلى البيت بعد وهلة قصيرة بدت لعماد ساعات طويلة. فتحت زوجته الباب ودخلت والحارس وراءها يحمل أكياس مشترياتها. وبعد أن وصلت إلى غرفة الصالون وجدت زوجها جالساً على الأريكة بملابسه الداخلية شاحب الوجه صامتاً يتصبب منه العرق. طلبت من الحارس أن يضع الأكياس على الأرض وأن يغادر فوراً.
سألت زوجها: “ما بك يا عماد؟ لماذا عدت مبكراً؟”. استدار عماد وقال: “انظري”. لم تصدق زوجته ما رأت. فقد خرجت من عصعصه حزمة ريش أبيض بطول عشرة سنتيمترات تقريباً. صرخت: “ما هذا يا عماد؟”. أجابها: “لا أدرى. جاءت اليوم امرأة مجنونة إلى المكتب ولقبتني بالطاووس الأبيض. ومن ذلك الوقت والريش يظهر في عصعصي”. قالت زوجته: “دعني أرى عن قرب… يا ويلاه… هذا فعلاً ريش. هيا بنا لنذهب إلى المستشفى”. أجاب عماد: “لن أذهب إلى أي مكان وأنا على هذا الحال. ماذا سنقول في المستشفى؟ نائب الوزير في طريقه أن يتحول إلى طير؟ سأصبح أضحوكة العالم. يجب أن نجد حلاً آخر”. قالت زوجته: “أقترح إذاً أن نسافر فوراً إلى بريطانيا ونجد هناك أخصائيا كتوما يعالجك دون أي شهرة إعلامية”. أردف عماد “هذا غير ممكن اليوم إذ لديّ التزام مهم هذا المساء لا أستطيع الغياب عنه”. “في هذه الحالة سأحضر مقصاً كي أقص الريش حتى تتمكن من حضور المراسيم اليوم ونسافر غداً” أجابت زوجته، وقلّمت الريش حتى استطاع عماد أن يخفي عصعصه المنتفخ في ثيابه.
خرج عماد من البيت في سيارته متجهاً إلى أحد الفنادق الفاخرة في المدينة. كان مدعواً من أحد المانحين في ندوة ليلقى كلمة افتتاحية. ومع أن الوقت بات مساء، لم تخف زحمة السيارات في المدينة. جلس عماد على الكرسي قلقاً، إذ كان يشعر بنمو الريش في عصعصه. تمنى أن يصل إلى الفندق قبل نمو الريش مرة أخرى. لكن الزحمة كانت أكثر من العادة بسبب مهرجان ما أغلقت بسببه الطرق. سيصل عماد إثر ذلك متأخراً. لن تتاح له الفرصة أن يهرب قبل الافتتاح إلى دورة المياه ويقلم ريشه. “اللعنة. ما العمل؟” فكر في نفسه. طلب من السائق أن يقف السيارة بجانب المسجد على اليمين. دخل عماد على عجل الي دورة مياه المسجد. أخرج مقصه، قلم ريشه، وركض عائداً إلى السيارة.
وصل عماد إلى الفندق متأخراً قليلاً. هرول إلى القاعة المخصصة للندوة وفتح بابها. التفت كل الجالسين عند دخوله، إذ رحب منظم الندوة به علناً. عادة كان عماد يحب هذا النوع من الترحيب والاحترام الزائد لمكانته ومنصبه. لكن اليوم وهو يحمل همّ ريشه على عصعصه كان يتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعه.
أخبره منظم الندوة بتغيير مراسيم الافتتاح وتأخير بداية الندوة. كان ذلك بسبب تأخير أحد الشخصيات المهمة، التي وافقت أن تلقي كلمتها كضيف شرف في اللحظة الأخيرة. غضب عماد في داخله أنه لم يكن على علم بذلك مسبقاً، إذ أنه اضطر إلى تقليم ريشه في دورة مياه المسجد القذرة، بدل من حمام الفندق الفاخر. لكنه – وعلى عكس عادته – لم يوبخ أحداً. أحس بنمو ريشه وهو يجلس على المقعد. نهض على الفور ليتوجه إلى دورة المياه مرة أخرى ليقلم ريشه، كي لا ينبت أثناء إلقائه لكلمته. لكن في تلك اللحظة دخل ضيف الشرف – أحد سفراء الدول المانحة. وبسبب خوف هذه الدولة المانحة من أيّ اعتداء على رعيتها، اُغلقت – بعد دخول السفير والحشد الذي معه – أبواب القاعة بأحكام على المشتركين في الندوة. ما أربك عماد أيضاً هو دخول الوزير مرافقاً للسفير. هذا يعني أن ترتيب إلقاء الكلمات سيتغير وأنه، كنائب الوزير، لن يتحدث أولاً. ومع أن عماد كان يكره أن تؤخذ منه الأضواء، غير أن أيّ تغيير في ترتيب القاء الكلمات، اليوم بالذات، سيشكل كارثة له إن طال الوقت ونبت ريشه أثناء ذلك. ومن سوء حظ عماد، طال وقت إلقاء الكلمات فعلاً، أكثر من العادة. كانت الأجواء مرحة والوزير والسفير يتبادلان الفكاهات أثناء إلقاء الكلمات، وريش عماد ينمو وينمو حتى وصل إلى حجم من الصعب تجاهله. وإن دقق أحد بإمعان إلى ظهر عماد لوجد قميصه منتفخاً من الخلف وكأنه يخفى طائرة ورقية كبيرة خلف ظهره. عندما جاء دوره ليلقى كلمته، ذهب إلى المنصة ماشياً إلى الخلف لكيلا يرى أحد ظهره. كان العرق يتصبب من جبينه وقد تكونت تحت إبطه بقع عرق عريضة. قال له الوزير: “اخلع سترتك يا رجل، ستذوب كالبوظة في الشمس”. عندما سمع عماد ذلك، كره اليوم الذي ولدته فيه أمه. لعن في سره الوزير وخلع سترته مرغما بابتسامةٍ بلهاء. بعد وقوفه على المنصة، حدق بعينيه في الحاضرين. تجمدت أنفاسه عندما رأى المرأة العجوز واقفة عند باب القاعة المغلق. غمزته عندما التقت أعينهما. في تلك اللحظة تمزق قميص عماد وظهر ريش أبيض منشوراً إلى الخلف في شكل مروحة جميلة طولها نحو خمس مرات طول جسمه.