الطّاغوتُ والمَلَكوتْ

مقاربة لمفهوم الاستبداد الشرقي
الثلاثاء 2020/09/01
لوحة: اسماعيل الرفاعي

أذكر أنني عندما قرأتُ "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" للمرة الأولى، قبل عقود، أنني كنت منتشياً بفضول حداثة إجرائية نشطة. وأعني بذلك أن التعريفات التي يتضمنها الكتاب كانت تحيلني، تحديداً، إلى مفاهيم قابلة للترجمة بسهولة إلى معادلها الحداثي المعرفي. فالاستبداد بلغة الكواكبي: "هو غرور المرء برأيه والأنفة عن قبول النصيحة أو الاستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة".في هذا التعريف يكمن مفهوم "النرجسية" الفرويدي المنزع. وربما كانت هذه اللحظة اللغوية لحظة المنطلق بامتياز: فبالغرور لا يبرز مفهوم الأنوية المجرد من الإيثار فحسب، بل يتمثل بصيغة النرجسية، أي بكونه غلواء مشبعة بعبادة الذات وتقديسها والإسباغ عليها بما يمليه الشعور بالقوة المنفلتة العقال. ولسنا هنا بصدد تفكيك المفهوم. ولكن ما يهمنا أن نلاحظه الآن هو أن النرجسية طبقاً لسيرورة الخطاب تحيل من المستوى النفسي إلى المستوى الاجتماعي. يقول الكواكبي: "ويراد بالاستبداد عند إطلاقه استبداد الحكومات خاصة لأنها مظاهر أضراره التي جعلت الانسان أشقى ذوي الحياة" (1). هذه التحويلة المعرفية ذات المنزع الإنسانوي تستدعي تأسيساً، براديم السيد والعبد، النموذج المرجعي لعلاقة الاستحواذ بين الحاكم المستبد وبين مملوكيه، بين الطاغوت والملكوت، بين الصنم المعبود وبين مملوكيته للأرض وما عليها.

تتيح لنا هذه العلاقة الملتبسة في جميع الحالات، أن نستحضر في ضوء هذه التحويلة المعرفية، نظرية الخطاب التي قد لا تطابق الحقيقة الماثلة هنا أو هناك، وإنما هي ترتد إلى اللغة نفسها.

وقبل الحفر في تلك النقطة تحديدا، غابة هذه القراءة، أستكمل تعريفات الكواكبي للاستبداد لانها تبحث في الطغيان المجتمعي، أي تحيل إلى دور يلعبه الطغاة الصغار. هنا يمثل الطاغوت لحمة الاستبداد، في ما يمثل طغاة المجتمع الصغار سداته. يقول: "وأما تحكم النفس على العقل، وتحكم الأب والأستاذ والزوج، ورؤساء بعض الأديان، وبعض الشركات، وبعض الطبقات، يوصف بالاستبداد مجازاً أو مع الإضافة".

أعود إلى التحويلة المعرفية، إلى النموذج المرجعي لثنائية السيد والعبد. ما يقوله الكواكبي بطريقته الخاصة، حول هذه العلاقة، قائم تحديداً على فرضية تميز الغرب بالممارسة الديمقراطية. وهو يطرح دون أن يدري، سؤالاً حول مفهوم "الاستبداد الشرقي" الذي أهمله إدوارد سعيد في انتصاره المحق للهوية الثقافية التي يمليها خطابه في الاستشراق. سؤال الاستبداد الشرقي الذي يؤرقني منذ سنوات هو: هل يمكن أن نحمل نحن العرب، هذا المفهوم العرقي المنزع على محمل الجد؟

أعترف أنني كنت أسيراً لمشكلة خطيرة: أن أكون نقدياً مع الذات، وأن أكون خلافا لذلك، اعتذارياً دفاعياً في مواجهة الآخر.

يقول الكواكبي: " لنعترف أن بين الشرقيين والغربيين فروقا كثيرة، قد يفضل في الإفراديات الشرقي على الغربي، وفي الاجتماعيات يفضل الغربي على الشرقي مطلقا. مثال ذلك: الغربيون يستحلفون أميرهم على الصداقة في خدمته لهم والتزام القانون. والسلطان الشرقي يستحلف الرعية على الانقياد والطاعة! الغربيون يمنون على ملوكهم بما يرتزقون من فضلاتهم، والأمراء الشرقيون يتكرمون على من شاؤوا بإجراء أموالهم عليهم صدقات! الغربي يعتبر نفسه مالكا لجزء مشاع من وطنه، والشرقي يعتبر نفسه وأولاده وما في يديه ملكا لأميره! الغربي له على أميره حقوق وليست عليه حقوق، والشرقي عليه لأميره حقوق وليست له حقوق! الغربيون يضعون قانونا لأميرهم يسري عليه، والشرقيون يسيرون على قانون مشيئة أمرائهم!"

هكذا يكون توصيف الكواكبي للاستبداد متأرجحاً. هل كان يكتفي بتعرية الاختلاف، بمعنى التباين والتفاوت، أم يحول الاختلاف إلى خلاف بمعنى النزاع والخصومة؟

ترجع السجلات المعاصرة حول الاستبداد إلى القرن الثامن عشر في فرنسا. مونتسكيو يقسم الأنظمة السياسية إلى أنظمة جمهورية، وملكية، وذلك تبعاً لنظام قيمي من وضعه. وهو يميز بين النظامين الملكي والاستبدادي الشرقي على النحو التالي:

أولا: الملكية تقوم على تراتبية وراثية ثابتة. ولكن الاستبداد ينطوي على نظام تملك عنوانه العبودية المطلقة.

ثانياً: في النظام الملكي يتبع الحاكم العرف والعادة بينما يحكم المستبد بمزاج اعتباطي.

ثالثاً: في نظام الاستبداد لا توجد مؤسسات بين الفرد وبين الحكومة. وبحسب التقليد الإجرائي يتوقع من المستبد المتنور إزالة القيود المعيقة للتقدم والتطور الاقتصادي. وأما في الاستبداد الشرقي فإن المستبد يكون أسير المنزع الاعتباطي.

وفي الماركسية ارتبط مفهوم الاستبداد الشرقي بما تدعوه بنمط الاقتصاد الشرقي.

وأما الخصيصة الاعتباطية للحياة السياسية في المجتمعات الشرقية فتكمن في تحكم الدولة بالأرض وما عليها. وفضلاً عن ذلك فإن الاستبداد الشرقي، وبخاصة في تمثيلاته التي خبرناها هو تحقق هيمنة توتاليتارية بلا صناعة، شمولية تستحوذ على المجتمع المدني وينتفي فيها الفرد وحقه في التمثيل.

في هذه النقطة العليا بالتعبير السوريالي تندمج الديمقراطية المزورة والمستلة من النظام الجمهورين بالتراتبية الوراثية المستلة من النظام الملكي، لتصنع ما يدعى بالجملوكية.

ورغم الاحتجاج الصارخ من قبل الفقهين الديني والدنيوي، عنينا تجربة جيلنا خلال قرن، على ما يحدث للبشر والحجر، فإن نظرية الاستبداد الشرقي تعود الآن في الخطاب الثقافي السائد بقوة. وربما يصح القول أن جيلنا قد يعود ببعض الثأثأة والفأفأة إلى تبنيها ابستمولوجيا. بل ربما يعيد إخراجها. ولكن النظرية تظل معلقة بخيط.

وعلى الصعيد الشخصي، كما أسلفت، أجد نفسي نقدياً في سجال مع الذات، واعتذارياً متردداً في التحديق بنظرية الاستبداد الشرقي. هذه النظرية تجعل من الممكن النظر إلى الآخر من منظور ثنائية ضدية تحيل إلى برزخ الشرق والغرب باسم الخلاف لا الاختلاف. وهذا يعني التأكيد على الاختلاف المفضي إلى خلاف.

في كتابه "لماذا كان ماركس على حق" (2) يرى تيري إيغلتون Eagleton فقيه الماركسية، في تبنيه للتأكيد أن ما يدعى بـ"مابعد الكولونيالية" Postcolonial قد تزامن ظهوره مع كون: "النضالات من أجل التحرر الوطني قد اجتازت، كثيراً أو قليلاً، مجراها الطبيعي".

كما يشدد على أن كتاب إدوارد سعيد "الاستشراق" قد ظهر في منتصف سبعينات القرن الماضي، أي عندما كانت الرأسمالية "تصد الروح الثورية في الغرب" ويستنتج إيغلتون من ذلك أنه "ربما كان مهما القول بهذا الشأن أن كتاب سعيد معاد للماركسية بقوة".

(والمسكوت عنه في هذا السياق، أن الكتاب لأنه "معاد للماركسية" ليس نهضوياً ولا تنويرياً.).

ويضيف إيغلتون "حركة ما بعد الاستعمار في الوقت الذي احتفظت بميراثها الثوري، بمعنى من المعاني، تمثل إعادة موضعة، عملية استبدال لها. إنها بمثابة الخطاب بعد الثوري والمناسب لعالم ما بعد ثوري. لقد أنتجت حركة ما بعد الاستعمار عملاً ينطوي على اصالة واستبصار نادرين، وهي في أقل صورها مصادقية، ليست أكثر من مفوضية الشؤون الخارجية لمابعد الحداثة Postmodernism.".

وهذا النفي للدور الثقافي الأبستمولوجي الذي لعبته حركة ما بعد الاستعمار، يذكرني، من حيث الشكل على الأقل، بنفي أحمد أمين للدور الذي لعبه فلاسفة الحضارة العربية الإسلامية من أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد الذين يصفهم بقوله أنهم كانوا "كالمفوضية اليونانية في البلاد الإسلامية". (3).

والحال أن الوقوف عند هذه النقطة من السجال ضروري. فقد اتخذ الطاغوت الشرقي في علاقته بملكوته، تحديداً، اتخذ الماركسية شعاراً قوامه أمران:

الأول: هو شيطنة الديمقراطية بالتخفي وراء "ديكتاتورية البروليتاريا".

وفي تفنيد هذا الشعار يقول إيغلتون إن الديكتاتورية في إطار ردة الفعل على انهيار الماركسية السوفياتية: "لا تعني بالضرورة في زمن ماركس ما تعنيه اليوم.".

ولكن الديكتاتورية، خلافاً لما يقوله إيغلتون، تعني شيئاً واحدا، كانت دائما نقيض الديمقراطية.

الثاني: هو أن تجربة إدوارد سعيد في الاستشراق بعيدة كل البعد عن الاصوليتين العلمانية والدينية، بعيدة عن الشعارات بعدها عن الشعائر.

يقول سعيد جواباً عن سؤال حول إحياء الماركسية كخطاب معارض، بقوله: "مسألة الماركسية، لا أحب التعرض لها، لأنني لا أريد أن أتورط في إشكاليات اصطلاحية، أي من قبيل ما هي الماركسية؟ وهل أنا ماركسي أم لا؟ المدارس لا تهمني من قبيل الانخراط العضوي فيها. ما أراه هو شيء آخر تماما. وكمثقف مستقل وحر، أنا لا أعطي إلا أهمية دنيا لمسألة الشعار (ماركسي أو غير ماركسي)..". ثم يستطرد: "لكن لا شك أن التحليل الماركسي، أو لنقل المادي يحتوي على عبر وعناصر مفيدة جدا للوضع الذي نعيشه الآن، خصوصاً في ما يخص العلاقات الاقتصادية" (4).

الخلاصة أن الهوية الثقافية العربية المتمثلة في باراديم إدوارد سعيد، النموذج المرجعي لنظرية ما بعد الاستعمار، تنطوي على سيرورة تعددية، إذ يكمن الآخر في محمولها المعرفي بقدر كمونها في المحمول المعرفي للآخر. يفتح سعيد الهامش على المركز، والمركز على الهامش لنقض التنميطات السلبية ضد الهامش بحثاً عن هوية ثقافية موحدة، هوية كونية تستقطب الحقيقة. قوام هذه الهوية، كا يراها سعيد مزيج من البنوة والتبني. البنوة تشمل الموروث الذي تعكسه الحتمية البيولوجية. وأما التبني فيشمل الخيار الحر، ولكن المقيد بنظرة نقدية، لتبني فكرة هي بمثابة الأب الثقافي الرمزي. (5).

ويعلل إدوارد سعيد ذلك كله بنقده ونقضه لفكرة الأصل والأصالة. إذ ليس ثمة من أصل لا يوجد أصل أبعد منه. يقول: "إذا كان من غير الممكن اختزال النقد إلى عقيدة أو مذهب سياسي حول مسألة معينة، وإذا كان حاضراً في العالم ومدركا لذاته في الوقت نفسه فإن هويته تكمن في اختلافه عن الفعاليات الثقافية الأخرى وأنظمة الفكر وطرائقه. إن النقد بريبته إزاء المفاهيم ذات النزوع الشمولي، وقلقه إزاء المواضيع المشيأة، وبرمه بالمصالح والاقطاعيات الخاصة، وبعادات الفكر المتصلبة، يصبح في وفاق مع نفسه.. على الفكر أن يعتبر نفسه فعالية تعزز قيمة الحياة وتناهض في جوهرها جميع أشكال الطغيان والتسلط.". (6).

أشرت قبل قليل إلى أن إدوارد سعيد لم يتعرض لمفهوم الاستبداد الشرقي بشكل مباشر. إلا أن إصراره على رفض جميع أشكال الطغيان والتسلط ينطوي في تقديري على نقض مضمر لهذا المفهوم الذي وضعه عالم الاجتماع الألماني كارل وتفوغل Wittfogel الذي كان عضواً مبكراً في معهد البحث الاجتماعي بفرانكفورت، هاجر إلى الولايات المتحدة ولكنه لم يصبح عضواً بارزاً في المعهد المذكور. وفي عام 1955 كتب مؤلفاً بعنوان "الاستبداد الشرقي: دراسة مقارنية للسلطة" تناول فيه، من بين تجارب أخرى، نظام الحكم في الصين. كما بحث في الطروحات الماركسية حول نمط الإنتاج الآسيوي، إلا أن طروحاته التي وصفت بأنها تفتقر إلى المصداقية التجريبية، ربما تستعيد بعض عنفوانها الآن من منظور معالجة مفهوم التسلط والطغيان والحزب الواحد.

يتضح في ضوء ما تقدم أن الديمقراطية رغم شيطنتها، واهتزاز مصداقيتها، لا تنقض بمقولات شعارية.

ويمكن القول إنه في الوقت الذي تنظر فيه نظريات الحداثة إلى الآخر من منظور المركزية الأوروبية بحيث تختزل الفروق الثقافية لتصل إلى وحدة افتراضية، فإن النظريات التاريخية المنزع تنظر إلى الآخر من منظور قوامها الثقافي المحدد، فتؤكد بذلك على الاختلاف المولِّد للخلاف.

هذه المعرفة قد توصف بأنها غير متحررة كلياً، وأنها ربما لا تخضع لمعيار عقلاني مقنع. ولكن غياب الدمقراطية لا يمكن استنفار ميكانزمات الدفاع عنه باسم الهوية في مواجهة الآخر. كما لا يمكن إغفال القول إن صيرورة الهوية وتحولها إلى مشكلة، شأننا في العالم العربي، إنما يعبر عما يتجاوز الأزمة بكثير: الطاغوت مازال شرقيا بامتياز.

هوامش

: 1- عبد الرحمن الكواكبي، "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، طبعة كولونيا، ألمانيا، 2006.

2- تيري إيغلتون، "لماذا كان ماركس على حق" (بالإنكليزية) نيو هافن ولندن 2011، ص 204.

3- أحمد امين، "ضحى الإسلام"، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ج 3. ص 205.

4- إدوارد سعيد، حوار، نوري الجراح، "بيت بين النهر والبحر"، بيروت 2001، المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ص 119.

5- إدوارد سعيد، "بدايات: القصد والمنهج" عالجنا ذلك في كتابنا "المختلف والمؤتلف" ميلانو 2019 منشورات المتوسط ص 218-219. 6- إدوارد سعيد "العالم والنص والناقد"، المصدر السابق ص 217.

 

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.