الظاهرة الترامبية وسؤال الأمة الأميركية

السبت 2017/04/01
لوحة: هندريك هيرتزبريك

بهذا نكون على مقربة كبيرة من حالة التبلّد الكبرى، أو العصر الجليدي الذي بدأ في الزحف نحو عقولنا، لأنّنا هجرنا أوّلاً ما كان يشكّل بالنسبة إلينا مصدرا عظيما للإلهام والتفكير والتمحيص، ونعني به النصوص الكبرى التي أثثت البيت الثقافي البشري، واستسلمنا طواعية لما هو قادم من قنوات الإعلام الهادر، فنحن لا نفكر ولا نخمّن ولا نسأل، ولا ننشغل بما هو خفيّ، لأنّ الإعلام يفكّر ويخمّن ويسأل ويجيب ويجعل من يشاء عزيزا ويذلّ من يريد، فنحن في زمن براديغم الـتأليه الإعلامي، الذي يبشّر بالجهل المقدّس وفق النمط العولمي المخيف.

وبالرجوع ابتداءً إلى المسار التاريخي الذي شكل بنية الشخصية الأميركية، يمكن أن نرصد ذلك الحدث/المنعطف والمتمثل في وصول المهاجرين الأوائل إلى الأرض/الجنة، على متن الباخرة الإنكليزية الشهيرة åMayflowerò، عام 1620، والذي من خلاله نستطيع أنّ نجعل من الذاكرة أفقا مفتوحا في وجه القوى التي لها علاقة عدائية معها، إذ من بين العائلات التي كانت على متن السفينة، وأنجبت شخصيات غدت فيما بعد مؤثرة في المسار التاريخي لأميركا، وأصبحوا فيما بعد رؤساء للولايات المتحدة الأميركية: جون أدامز (1735-1826)، وجوج هاربرت وولكر بوش (1924)، وجورج وولكر بوش (1946)، ومن المعروف أن الرئيس جون أدامس مشهود له بالخطابات الممجدة للأمة الأميركية، ولا يمكن أنّ نتغافل أو ننسى دور عائلة بوش القبيح والمأساوي في محو بلد تاريخي وعظيم مثل العراق من خارطة الموجودات الحضارية الإنسانية، وهي ممارسات جرت بعيدا عن الصخب الإعلامي، وفي صمت قاتل، وعليه تكون "الظاهرة الترامبية" وليدة طبيعية لهذا المسار المرعب.

فهذه الأرض/الجنة، لا تشكل بالنسبة إليه أرضا يعيش عليها فحسب، بل هي من منظوره التفاؤلي، ووفق المأثور الأميركي، "الجنة الموعودة"، ولن يتخلى عنها، ولن يعيد خطأ آدم الذي ارتكب الخطيئة الكبرى وخرج من الجنة، بمعنى أن التاريخ الأميركي سيكون مبنياً على النمط البشري المؤسس على فكرة القوة، ونمط الاقتدار الذي يأخذ كلّ ما هو متاح له في أفق القادم بحزم وشدة، وسينحت مساره بذاته، مطلقاً تلك القراءات اللاهوتية التي تشيد بالقضاء والقدر، مما وطّأ الأرضية لاستقبال الفكر البراغماتي، حيث العبرة بنتائج الفعل، دون الاكتراث بظروف الفعل ومضامينه، ونوايا الفاعل، وقد كانت الذهنية النفعية قريبة جدا من العقل الأداتي الذي يشتغل فقط على الوسيلة، ويقطع نهائياً مع الغايات.

وعلى أساس هذا المنطق، وانسجاما معه، نزل علينا فوز المرشح عن الحزب الجمهوري دونالد ترامب المولود عام 1946، بمدينة نيويورك، لأبوين من أصول ألمانية وأسكتلندية، كالصاعقة التاريخية، ومن صُلب هذا الحدث طفقت التحليلات الإعلامية تطرح نفسها، بحسبانها الرؤية الصائبة، فوصفت الفوز على أنّه كارثة، وهزيمة لأميركا التنوير والتسامح والتنوع الثقافي والتعدّد الإثني، أو هي بصورة أدقّ ارتداد إلى الوراء، فهذا الرئيس سيعود بنا حتما إلى زمن التعالي الأشقر على الآخر، والهيمنة الغربية على "باقي العالم"، وبالفعل نحن نستحقّ هذا الوصف "الباقي"، وإلى تفوّق الرجل الأبيض على باقي الألوان التي تشكّل نادي الإنسانية، وغيرها من الوصفات الجاهزة التي يحركها المخيال الإعلامي، وينشطها الحدث، فنحن لا نفكر وإنّما نواجه ما يجري بعبارات وتيمات معلّبة إعلاميا تنطلق من عقالها بمجرّد إشارات خارجية واخزة، ولقد تناست أنّ الفكر الأميركي، كان على الدوام ممجدا لأميركا ويرى فيها مكسباً تاريخيا يجب أن يصان وأن يطوّر من أجل مصلحة الأميركي، وعلى باقي دول العالم أن تدور في فلكه المثالي، لأنّه النموذج الأسمى الذي صنعه الإنسان، ولم يكن وليد الرؤى الغيبية، بالرغم من انتشار المسحة البروتستانتية في رؤاه.

وبالتالي كيف نستطيع ممارسة التمرد على هذا السقف الإعلامي والعمل قدر الإمكان على اختراقه؟ وهل بالإمكان أنّ نفكّر ونسأل خارج هذا المدار؟.. ربما هي أسئلة لا يمكن لهذا المقال المتواضع أن يستوعبها في بعض فقرات، وإنّما هي مجرد أسئلة نريد لها أن تكون فاتحة لعهد جديد وطريف من التفكّر الذي نبتغي منه وله أن ينفتح على النصوص الكبرى، وأن يعبّد درباً تماسياً مع كلّ ما هو جاهز، ففي عمق الجاهز تسكن وترقد بصورة ذئبية الأيديولوجيات المزيفة، وتتحيّن بكلّ خبث مستتر، الفرصة الملائمة للانقضاض على الفهوم أو تصنعها وتروّجها في ظلّ أجواء تعشق اللافكر وتشد الرحال جهة العفن.

إن التّعاطي مع فوز دونالد ترامب كظاهرة، يقتضي منّا الاستئناس ببعض النصوص الكبرى، وعليه ستسعفنا رؤية الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، في تفعيل فهمنا لما حدث في هذا الغرب التاريخي، إذ أنّ مرحلة الحداثة كانت ثمرة طبيعية لمتتالية الترشيد الأداتي التي انخرط فيها الغرب، بعد أن تخلّى تدريجيا عن العقل النقدي، ونزع عن الكون طابعه السحري، وأصبحت الطبيعة والإنسان والوجود كائنا مصمّتا يُفهم ويُدرك اعتمادا على آلية رياضية خالصة، ومنه يكون العقل الأداتي الترشيدي، في خدمة الحضارة الغربية، التي انفصلت وما زالت تسير في مسار حتمي غايته القطع عن القيمة، وليس من الغريب أن تهيمن مفردات النجاعة والمردودية على باقي الخطابات التي ما زالت غارقة في معجمية القيم، من هنا كان الخطاب الترامبي واضحا وموجّها لنوع مخصوص من الذهنيات التي تعشق الفعل المباشر، والنجاح الفوري، وتحبّ القصص الصغرى الناجحة، والتي تنطلق من المرحلة الصفرية، فقد كان ترامب قاطعا في أحكامه، فهو ضدّ الهجرة، ومع الإعلاء من شأن الاقتصاد الأميركي، وهو كذلك نموذج حي على النجاح الفردي، والقدرة على التغلّب على العقبات التي يهواها الفرد الأميركي، صاحب المرجعية البروتستانتية بمنزعها التقشفي.

أي أنّ الخطاب الترامبي هو سليل الذهنية الغربية التي تتماهى مع فكرة وآلية الترشيد المادي، وتفكّر في النجاح بعيدا عن القيم التي يتمسك به الضعفاء والعبيد، بالمعنى النيتشوي، وكأنّه يمثّل åالدابة الشقراءò التي بشّر بها نيتشه، وتحدّث عنها بصورة تنبؤية زرادشت، فالنزعة البراغماتية واضحة وجلية في سلوكه وفي رؤيته، فهو بالتالي ابن هذا المنجز الغربي، ولم ينزل من السماء فجأة.

لوحة: ريك مكيي

 

إنّ العولمة هي الصورة الأكثر بروزا لحركية المجتمع الأميركي الحيوي باستمرار، وبذلك فقط كان دوما المؤهل تاريخيا لقيادة الغرب، وتوجيهه اقتصاديا وسياسيا وإعلاميا وثقافيا، والتحكّم في مساره وفي مصير "الباقي"، وعليه تكون "الظاهرة الترامبية" إحدى الثمار الطبيعية لعولمة أميركية جارفة، فهو رجل أعمال ناجح، ومنشغل بالإعلام، وبصناعته وبمشتقاته الأخرى، مثل مسلسل زيجاته، ومشاريعه المتعلقة باختيار ملكة الجمال، وحصصه التي تتعلق بتلفزيون الواقع، مما يعزّز لدينا ذلك الحكم الذي يقول إنّه استوعب جيدا وبكفاءة عالية الدرس الأميركي المعولم، فنجد في هذه الظاهرة، قراءة توحي بأنّ العولمة المؤمركة -تطرح سؤال الأمة- خرجت إلى العلن على يد ترامب، حيث يعد من هذا المنظور الكاشف عنها عن طريق رفع النقاب عن وجهها، حتى وإن بدت للكثير غير جميلة وفي غاية القبح.

وقد تعلّمنا من النص الفلسفي لمفكر الغابة السوداء مارتن هيدغر أنّ الحقيقة تنبني على الحرية، أو هي بالتحديد مسكنها، ولها علاقة غليظة مع اللغة التي نفكر بها أو تفكر هي من خلالنا، ومن هنا كانت لغة الخطاب الترامبي هي الأقرب إلى الوضوح البراغماتي، لأنّ المجتمع الأميركي انخرط في مسعى فكري جديد استعمل فيه مفردات طريفة وعلى درجة عالية من الوضوح والدقة، وانطلاقاً من هذا التوجه، بدأ في طرح أسئلة جديدة/تليدة، بعد أن قطع مع سؤال الدولة نهائياً، لأنه تجاوز تلك المحن التي عانت منها كل الدول، مثل بناء المؤسسات المتعددة، والانفتاح القوى، وتأسيس نظام تعليمي متطور وصناعة فضاء إعلامي متميز، ولكن هذه الدولة تريد الآن وبإلحاح تاريخي، أن تطرح سؤالها المؤجل دوماً وهو سؤال الأمة الحارق، بحيث دخلت معه مرحلة نوعية من التطور الاجتماعي، بحيث بدأت في التكون كأمّة أي أنّها انتقلت من مرحلة المجتمع الهجين إلى أفق المجتمع الذي شرع في القبض على مرجعياته المختلفة والعمل على صهرها في بوتقة الهوية الأميركية، فالتنوع الذي يعيشه لا يلغي بالضرورة فكرة الأمل في الوحدة، والأشياء الذي ضاعفت من منسوب الشعور القومي، هي تلك الفوبيا من الآخر، والتي كانت منتشرة همسا وغدت مع كثرة الانتشار الأفقي حديثا بائنا وصادعا، فلفظة "أميركا" لم تعد مكانا لتلاقي الأجناس، بل تحوّلت إلى فضاء ثقافي غربي تماماً.

فالأمر مثلا عند صمويل هنتنغتون (1927-2008)، وبخاصة في مؤلفه "من نحن.. المناظرة الكبرى حول أميركا"، تظهر بصورة واضحة رغبة الأميركي في طرح سؤاله الحارق حول الهوية/الأمة، والعبارة الموجودة في العنوان موحية، بحيث بدأ في مساءلة ذاته، نظر لتواجده وانغماسه في نهر من المتغيرات الداخلية التي تتعلق رأساً بالهجرة وتعدد الإثنيات، وقد تلازم ذلك مع ضمور العدو الشيوعي، وبروز أعداء جدد، لكن وفق مقتضيات ثقافية ودينية فانتصب أمامه العدو الديني الجديد وهو التطرف في صورته الإسلامية.

نحن هنا في هدا المقام التساؤلي، لا نريد أن ندافع عن الظاهرة الترامبية، بالبحث عن مسبّباتها التاريخية والفكرية، بل نبتغي فقط التفكر فلسفيا في هذا التحوّل السياسي بطابعه الاجتماعي، لأنّنا نعتقد أنّ المجتمع الأميركي في مستهل الطريق نحو الدخول في مرحلة جديدة من الحركية الاجتماعية تتمثل في انتقاله من سؤال الدولة إلى طور سؤال الأمة، وما يستلزم ذلك من مفردات تتناغم مع مقتضيات الأفق، وربما تكون هذه الظاهرة الترامبية عابرة في مسار السياسة الأميركية، بالنظر إلى الأصوات الثائرة على الوضع، إلاّ أنّ ما يجري في العمق يشي بانتشار نزعة مؤمركة، تريد أن تقدّم نفسها على أنّها متميزة عن غيرها، وأنّ زمن الهجرة الفوضوية إليها يجب أن ينتهي، وأنّها ليست قدرا مفتوحا على المستقبل، فمن خلال المسار التاريخي لأميركا انتقلت من أقدم دولة في القرن العشرين إلى أحدث أمّة هي في طور التكوّن والنشوء.

إنّ العقلية الغربية وفق المنظور الهيغلي الذي يمجّد انتهاء التاريخ في الدولة البروسية، هي علامة على انتهاء الغرب في الدولة/الأمة الأميركية، وأنّ فكرة الأصل التي تتغنّى بها القوى الهامشية قد غدت أغنية ممجوجة ومهجورة تاريخيا، وعلى هدي هذا التمشّي يمكن أن نتحدث عن نزعة أميركية منكفئة على ذاتها من أجل ترتيب البيت الأميركي وفق معيارية خاصة، ولا يمكن أن نفكّر في هذه الظاهرة بعيدا عن حاجة الغرب إلى زعامات تاريخية تحوز على إمكانية القرار الجريء، وحاجتهم إلى شخصية رعناء مثل ترامب لتنقل هذا السؤال من الهامش المسكوت عنه والمفكر فيه، إلى العلن، فالتاريخ يحتاج في بعض الفترات إلى نسبة عالية من الجنون، لكي يحدث خلخلة بطابع زلزالي في النظام السائد، ويمرّر الخطابات التي طُبخت في بيوت الفكر القادم، الذي يأتي هادئا دوماً، قبل أن يتحول إلى عاصفة، وبعيدا عن الثرثرة الإعلامية المزعجة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.