العبور الأجناسي
إن انفتاح بنيات النص الداخلية يعني تشكيل عالمه الخارجي موضوعيا وقصديا بعيدا عن أيّ اعتبار للزمان الفيزيقي الذي لا دور له في حل التباسات الانغلاق على البنية من جهة، ولا أثر يتركه على طبيعة هذا الانفتاح من جهة أخرى. لتكون البنيات الداخلية النصية شعرية في جمالياتها المطلقة، ولا زمانية في لا نهائيتها المنفتحة تائهة بلا حدود وبالالتباسات عينها حتى تنغلق في إطار خارجي يحدها ويحددها معا.
أولا: العبور الأجناسي تعييناً
ليس العبور سوى عملية إعادة تعيين حدود النصوص التي تلاشت في انفتاحيتها ما وراء النصية، لتكون مؤطرة بالعبور ومنغلقة عليه. وبإعادة التعيين تغدو لكل نص ثلاث حركات بنائية: الحركة الأولى تبدأ بالانغلاق لتنتقل بعدها إلى الحركة الثانية التي هي انفتاحية ثم تعود بالحركة الثالثة إلى ما ابتدأت به وهو الانغلاق. وأيّ من الحركات الثلاث لا تكون إلا متصلة انفتاحا وانغلاقا ثم انغلاقا وانفتاحا وهكذا يبقى النص منفتحا وفي الوقت نفسه يكون منغلقا محافظا على حديته ومصنفا ضمن جنس من أجناس الأدب.
وبهذا التوصيف العابري لا يعود التداخل أو التعالق النصي مُلقيا بالنص في دوامة اللانهائية مسيّبا إطاره الأجناسي كما لن يعود هناك احتكام إلى أسلوبية النص الداخلية وحدها أو تركها والاهتمام بدلها بخارجيات النص السياقية.
إن التحديد الإطاري الذي يحققه افتراض وجود عبور أجناسي الذي فيه يصنف النص إما معبورا عليه أو عابرا هو الذي يحفظ للتجنيس قوالبه كما يمنحه دينامية محددة في تشكلها وامتدادها.
وليس العبور كعملية تصنيفية جمعا للنصوص على نية إفادة سابقها من لاحقها حسب، وإنما أيضا إعطاء الكتابة صورة إبداعية بأجناسية محددة فيها النص أوسع من مجرد تداخل شكل بشكل وتماثل مضمون بشكل، بل العبور الأجناسي أعمق من أن يتموضع في جدلية من الجدليات المفروغ منها كجدلية شعرية/بنيوية أو كانفتاح/انغلاق أو كنمط/صيغة أو كنص/خطاب أو كصوت/صورة.
ولا غرو أن هذا التشكل الاستعادي للتجنيس هو في حديته لا يلغي التناص أو التطريس ولا يعارض التفاعلات النصية بين مختلف صنوف الكتابة الأدبية.
وليس مفهوم العبور مقطوع الصلة مع الإرث المفاهيمي الشكلاني لإيخنباوم وشكلوفسكي والبنيوي لجاكبسون وهيمسلاف وما بعد البنيوي لكرستيفا وتودوروف وجينيت، بل هو موصول بها جميعا من خلال التجنيس الذي هو بغية العبور وبه تحافظ الكتابة الأدبية على قوالبها بعيدا عن أيّ انتهاك أو تسيب يغيب صنف إنتاجها.
ولقد أفاض منظّرو النقد في التفكير في الأجناس الأدبية مبلورين تصوراتهم منذ عشرينات القرن الماضي منتهين في ستيناته إلى رؤيتين اثنتين لا ثالثة لهما، فإما انغلاقية تمثلها تنظيرات البنيويين وغايتها الابتعاد بالنصوص عن حاكمية السياقات الخارجية الاجتماعية والتاريخية والدينية. وإما انفتاحية وتمثلها التنظيرات ما بعد البنيوية التي بانفتاحها على ثنائيات وعلاقات لها صلة بالدال والمدلول أو اللفظ والملفوظ كانت قد اعتنت بالأسلوب والسياق والتداول لكنها تركت أمر التجنيس على ما هو عليه.
وما يبغي العبور بلوغه هو أن تكون هناك رؤية ثالثة تهتم بأسلوبية النص وتتجاوزها إلى التداخل النصي والأجناسي موجهة عنايتها نحو ضبط فاعلية تجنيس النص من خلال تجسير الصلة بين كتابتين إحداهما ذات قالب والأخرى مغايرة سواء بقالب أو دونه. وبالعبور تتمكن واحدة منهما من مواجهة التعميم بالتحديد واللاتقولب بالقالب. وهو ما تريده نظريات الأجناس بغض النظر عن طبيعة تعاملها النقدي.
وعندما نقف عند واحدة من نظريات الأجناس في هذا الصدد وهي نظرية ميخائيل باخيتن للرواية وفيها نجده قد عالج التجنيس من خلال رؤية انفتاحية تنظر إلى الرواية بظواهرها الأسلوبية والتداولية المتعلقة بمفاهيم التعدد اللساني والحوارية من دون اعتبار إلى البعدين التاريخي والأيديولوجي. وبالشكل الذي يمركز القارئ ويجعله في حالة تماس مع خارجيات النص الروائي وما على القارئ سوى أن يلمح معانيها لمحا ويستدل عليها بحسب ما لديه من مرجعيات وما اختزنه ذهنه من خبرات.
ويعد مفهوم التعدد اللساني أصواتا ولهجات ومتعلقاته من التهجين والأسلبة بمثابة إضافة مهمة إلى المدرسة البنيوية فاتحا في الآن نفسه مجالا مهما لما بعدها من خلال نظرية باختين الحوارية في كتابيه “نظرية الرواية” و”شعرية دوستويفسكي” لكنه في كليهما لا يقف عند الأجناس وقوالبها الكتابية بقدر اهتمامه بالبنية الداخلية في تقنياتها الأسلوبية، إلى جانب اهتمامه بالإطار الخارجي في تعالقاته المفتوحة على مصاريعها والتي بسببها وجد باختين في الروائي الكبير دوستويفسكي أنه “خالق الرواية متعددة الأصوات polyphone لقد أوجد صنفا روائيا بصورة جوهرية ولهذا السبب بالذات فإن أعماله الإبداعية لا يمكن حشرها داخل أطر محددة من أيّ نوع وهي لا تذعن لأيّ من تلك القوالب الأدبية التي وجدت عبر التاريخ والتي اعتدنا تطبيقها على مختلف ظواهر الرواية الأوربية” (شعرية دوستويفسكي ميخائيل باختين ترجمة د. جميل نصيف التكريتي مراجعة د. حياة شرارة، دار الشؤون الثقافية العامة، بغدادـ، ط1، 1986، ص11).
ويبدو تأثر باختين في نظريته هذه بالرومانسيين ومفهومهم لـ”المطلق الأدبي” الذي رسّخ الصلة بين الفكر والإبداع وجعل تعبيرية الأشكال الكتابية أكبر من أن تضمها قوالب أجناسية. ويعد فردريك شليغل من أهم هؤلاء الرومانسيين وهو القائل إن” كل نظرية للرواية يجب أن تكون هي نفسها رواية مشتملة على النبرات الخالدة للنزوة وعلى فوضى سديم الفرسان.. إن الرواية لا يمكن أن تستحق اسمها إذا لم تكن خليطا من المحكي والنشيد ومن أشكال أخرى” (الخطاب الروائي، ميخائيل باختين، ترجمة محمد برادة، دار الفكر للدراسات والنشر، القاهرة، ط1، 1987، ص8) نافيا بذلك التجنيس عنها.
وعملا بهذا التصور اتخذ باختين موقفا وسطا ما بين التجنيس واللاتجنيس، لتكون الرواية عنده التقاء عدة أجناس وتداخل عدة لغات وأصوات، فـ”كل ما يدخل في العمل الشعري عليه أن يغرق في مياه نهر ليتي وأن ينسى حياته السابقة داخل سياقات الآخرين يجب على اللغة أن تتذكر فقط حياتها ضمن السياقات الشعرية” (المصدر السابق، ص66. نهر ليتي نهر أغريقي يعني النسيان).
وإذا كان جورج لوكاش قد وضع نظرية في الرواية بيد أن الفارق كبير بينه وبين باختين، فلوكاش تحدث عن مفاهيم الوحدة العضوية والعلاقة والجوهر والكلية المحايثة وبمحمولات فلسفية تجعل الرواية “ملحمة عالم دون آلهة” في حين تبنى باختين رؤية لا تولي التطور التاريخي اهتماما محاولا رأب الصدع الذي تركته المنهجية الواقعية في تحليل البنية الداخلية للرواية موجها تفكيره لا نحو التجنيس الأدبي وإنما نحو أسلوبية التجنيس ووحداته المتمثلة بـ”سرد مباش/أسلبة أشكال السرد الشفوي/أسلبة أشكال السرد المكتوب/أشكال أدبية متنوعة من خطاب الكاتب/خطابات الشخوص الروائية أسلوبيا/كتابات أخلاقية وفلسفية/استطرادات خطب بلاغية، أوصاف إثنوغرافية).. ولكن هل يكون لهذه الوحدات انعكاس بنائي على القالب الاجناسي لنص ما؟
الجواب يتضح في قول باختين “هذه الوحدات الأسلوبية اللامتجانسة تتمازج عند دخولها إلى الرواية لتكون ‘نسقا أدبيا منسجما’ ولتخضع لوحدة أسلوبية عليا تتحكم في الكل ولا تستطيع أن تطابق بينها وبين أيّ وحدة من الوحدات التابعة لها” (المصدر السابق، ص38)
فباختين يؤكد بشكل حثيث مسائل النسق واللاتطابق مقتصرا على الرواية وحدها ناظرا برؤية بنيوية وما بعد بنيوية إلى الرواية بوصفها تجميعا للأساليب ونسقا من اللغات. فالرواية هي “المتنوع الاجتماعي للغات.. ورطانات… ولغات للأجناس وتعدد لساني يقدم الأصداء المتعددة للأصوات الاجتماعية” (المصدر السابق، ص38ـ39) وهو ما أفادت منه جوليا كرستيفا فأسست مصطلحها “التناص” وبالطبع ليس الطرح الانفتاحي الذي قدمه باختين للرواية بمنقطع الجذور عن منظرين أدبيين اثنين هما سبيت وفينوكرادوف اللذان وجدا في الرواية من الاتساع ما يجعلها شكلا تلفيقيا مختلطا وتشكيلا هجينا يقبل أن تتواجد فيه عناصر شعرية محضة إلى جانب عناصر بلاغية (ينظر: المصدر السابق، ص42.) وبسبب هذه الاتساعية لم يحدد باختين للرواية موقعا في الأجناس الملحمية والدرامية والغنائية معتبرا أن الرواية دخلت في تفاعل عميق مع هذه الأجناس ومع غيرها من الأصناف البلاغية الحية الصحفية والأخلاقية والفلسفية التي برأيه تضاهي في حجم تفاعلها الأجناس الأرسطية الثلاثة سواء أكان التفاعل سلميا أم كان التفاعل عدائيا، لكنه استدرك أن الخطاب الروائي وإن كان غير قابل لأن يختزل إلى خطاب بلاغي، فإنه يظل محتفظا بأصالته النوعية وسط تلك العلائق المتبادلة المستمرة.
بمعنى أن باختين يقر بأن الرواية جنس أدبي، والفن الروائي خطاب شعري، لكنه يرى هذا الخطاب عمليا لا يندرج ضمن التصور الراهن للخطاب الشعري القائم على بعض المسلمات المتحققة عبر تطوره التاريخي من أرسطو إلى اليوم ضمن أجناس محددة وصفها بـ”الرسمية”. لذاك وجّه جل اهتمامه نحو الخروج بالأجناس من هذا التطور التاريخي تخلصا مما ينطوي عليه من معضلة مصيرية أيديولوجية واجتماعية تولدت وتكونت من شعرية أرسطو وأوغسطين وليبنتز وهامبولدت وجعلت للأجناس مركزية في الحياة الاجتماعية واللسانية والأيديولوجية، تخدم المركزية اللغوية الأوروبية.
ومن ثم يتوجب على الأجناس الأدبية أن تخرج من تيار القوى الجاذبة نحو المركز لتنضوي مع تيار القوى النابذة المعاكسة للمركز (ينظر: المصدر السابق، ص43ـ 45) وهنا يأتي “التعدد والتحاور” اللذان بهما تتفكك تلك المركزية.
وعلى الرغم من أن باختين ينحاز إلى القول بلا جدوى التجنيس فإنه لم يصرّح بذلك مباشرة وإنما جاء انحيازه بشكل ضمني من خلال توكيده أمرين:
1ـ أهمية تعميق الحوارية في الخطاب الروائي التي تجعل الأجناس “متخللة” أي أنها تسمح بأن تنضم إلى كيانها أنواع الكتابة الأدبية كالقصص والأشعار والمقاطع الكوميدية أو الأنواع الكتابية خارج الأدبية كدراسات عن السلوكيات والنصوص العلمية والدينية.. الخ. وعن ذلك يقول باختين “إن أيّ جنس تعبيري يمكن أن يدخل إلى بنية الرواية وليس من السهل العثور على جنس تعبيري واحد لم يسبق له في يوم ما أن ألحقه كاتب أو آخر بالرواية وتحتفظ تلك الأجناس عادة بمرونتها واستقلالها وأصالتها اللسانية والأسلوبية” (المصدر السابق، ص88)
2ـ وهذه المرونة يحققها مفهوم “الصوغ الحواري” الذي يجعل البنية الداخلية للخطاب سلسلة ألسنية وأسلوبية من خصائص الدلالة والتركيب والتأليف.
وتظل نظرية ميخائيل باختين في الرواية هي الأكثر تأثيرا في تاريخ النظرية الأدبية بسبب ما فيها من اهتمام بظواهر أسلوبية وتداولية في مقدمتها موقفها المتصادي مع التاريخ والأيديولوجيا ومناهضتها للمركزية فضلا عن تعددها اللساني وحواريتها.
ثانيا: العبور الأجناسي تماهياً
للعبور الأجناسي مقتضيات بها يتمم النص وجوده وفاعليته بعمليات بنائية سابقة على تشكله، منتهيا إلى أجناسية محددة، فيها تتضح ماهيته وتتبين هويته بواحد من القوالب المتعارف عليها متموضعا في جنس أدبي بعينه وبلا أدنى شك في طبيعة هذا التموضع بعد أن اتصف النص بمواصفات محسوبة وموزونة حتى لا حاجة إلى إعادة اختبار انتماءاته البنائية والموضوعية من جديد.
ولأن لكل كتابة أدبية إمكانياتها المستمدة من طبيعة القالب الأدبي الذي صُبّت فيه يصبح أمر التفاوت بين الكتابات أكيدا من الناحيتين النظرية والعملية. فإذا كان القالب ممتلكا ممكنات العابرية سيطر على حدوده إلى درجة أنه يجذب كتابات مغايرة له لكي تتجاذب معه ثم تتماهى مندمجة ببنيته متخلية غير محتفظة بأيّ خصوصية، لأنها ستتطبع بما للكتابة الجاذبة من سمات تكتسبها فتوسم بميسمها وتتحدد بحدودها مؤكدة بذلك قدرتها على الانجذاب التلقائي والتواشج الطوعي المرن وهي تتجاوز التشارك والتجاذب إلى الذوبان والتماهي.
ويُظهر هذا التصور النظري الفارق بين مفهوم العبور ومفهوم التداخل الأجناسي الذي يقوم على فكرة التشارك التي تجعل الأجناس بعد تداخلها تتناص وتتعالق لكن بالاحتفاظ بمرونة خصائصها غير متنازلة عن استقلالها ولا متحولة إلى التماهي على اعتبار أنها نصوص ذات أشكال مشيدة من الواقع.
وبناء على فكرة الاحتفاظ بخصائص كلّ من النصين أو الجنسين المتداخلين طرح باختين مفهوم “الأجناس المتخللة” الذي يعني أن ما في التداخل من تعالق لن يؤدي سوى إلى التآلف والتنافذ والتناص والتهجين بين ما هو كبير وصغير أو أولي وثانوي وبغض النظر عن عددية المتداخلين أو المتعالقين لأن المهم هو عدم فقدان أيّ أطر نوعية خاصة تتعلق بالماهية والهوية. ومثّل على ذلك بالرواية، مؤكدا “أن دور تلك الأجناس المتخللة جد كبير لدرجة أن الرواية يمكن أن تبدو كأنها مجردة من إمكانياتها الأولى في المقارنة اللفظية للواقع ومتطلبة لتشييد أولي لذلك الواقع بواسطة أجناس تعبيرية أخرى ما دامت الرواية نفسها لا تعدو كونها توحيدا تأليفيا من الدرجة الثانية لتلك الأجناس اللفظية الأولى” (الخطاب الروائي، ص89).
وما طرحه باختين حول الأجناس المتخللة يظل في حدود التداخل مزجا بين بنيتين أسلوبيتين لغة وحوارات، فتحدث عن استعمال مزدوج للأشكال الحوارية وقسّم صورة اللغة في الرواية الخالصة إلى: التهجين وتعالق اللغات القائم على الحوارات. وحدد التهجين بأنه “مزج لغتين اجتماعيتين داخل ملفوظ واحد وهو أيضا التقاء وعيين لسانيين مفصولين بحقبة زمنية وبفارق اجتماعي أو بهما معا داخل ساحة ذلك الملفوظ” (المصدر السابق، ص120).
وليس قصد باختين من التهجين الإذابة والتماهي كبناء وكأشكال، ولا نيته إثبات الجنس الروائي وإنما قصده تفكيك مركزية العالم الأيديولوجي من خلال خلخلة مركزية الجنس الأدبي نفسه.
ومعلوم أن الروايات الكلاسيكية لم تستقر مركزية قالبها وقت ظهورها آنذاك فكانت ذات تفريعات كتابية كالرواية الرعوية والباروكية وهي رواية اختبارات بطولة البطل وروايات عصر الأنوار وروايات السفسطائيين ورواية الفروسية والرواية الفرنسية الوصولية خلال عهد نابليون بيد أن الذي قصده باختين من وراء مفهوم التهجين هو تدعيم فكرة الأجناس المتخللة من خلال جعل “عالم الروايات كأنه عالم واحد على شاكلة العالم الملحمي.. وإن النثر الروائي ولد وتشيد داخل سيرورة ترجمة حرة محولة لأعمال الآخرين الأدبية” (المصدر السابق، ص136 وعد أكثر النماذج عمقا واكتمالا نص “بارزفال” للألماني ولفرام).
لكننا نرى أن هذا التداخل التأليفي بين الأجناس المتخللة الذي هو نتيجة حتمية للتعالق النصي لن يعطي للرواية صورتها الحقيقية كجنس قادر على جذب غيره بقوة قالبه ومرونته كما أنه لا يميزها عمّا فيها من أنماط روائية هي ذات مرتبة أقل منها ان تكون أجناسا.
وإذا عددنا الأجناس المتخللة متداخلة في الرواية بمباشرة قصدية وموضعة كلية فإن نوايا الكاتب لها أهمية أيضا في جعل التداخل طريقا لغاية أهم هي الوصول بالكتابة الروائية الى مرتبة فيها يستثمر الروائي كل إمكانيات القالب، مدللا على سعة معرفته به ومبرهنا على أنه يملك من المقومات ما يجعله قادرا على الإفادة مما في هذا القالب من جذب وتماه وعلى المستويين البنائي والدلالي.
ولن نغالي إذا قلنا إن أصالة العمل الفني تكمن في مدى إجادة صب المحتوى السردي ـ بكل ما فيه من أساليب وتقانات وثيمات ووحدات ـ في المظهر الأجناسي الذي يلائمه. وإجادة الصب هي التي تجعل الجنس عابرا على أجناس أخرى ليس لها أن تقاوم جاذبية قالبه ومن ثم لا بد لتلك المتداخلة أن تطاوعه، متماهية معه وموجهة بموجهاته وذائبة في بنياته ومجنسة بجنسه.
وعلى الرغم مما يحققه التداخل الأجناسي من ميزات جمالية، فإن ما يحققه العبور من جماليات يعد مضاعفا كونه لا يقف عند المنطقة الداخلية، بل يتعداها إلى الحدود الخارجية لكلا المتداخلين فيجعل المتضعضع منهما متماهيا في الراسخ الجاذب ومن دون أن يُبدي تجاهه أيّ مقاومة أو عصيان.
وهذه هي المماهاة التي تجعل الجنس ذا القالب الجاذب عابرا بوصف العبور ضرورة جمالية بسببها تحتفظ الرواية برسوخها قالبا وبناء. ولا عجب أن تقترب المماهاة من معنى الكلية التي عبّر عنها إدوين موير بعمومية بناء الحبكات والمفارقات التي تحدد للرواية وظائفها وتضع لبناء قالبها شروطا تجعل منها “صورة للحياة لا مجرد تسجيل حرفي للتجربة ولمّا كانت صورة فقد كان عليها أن تراعي الشروط التي يتم للصورة عن طريقها وحدها كما لها وعموميتها وهذه الشروط تنتهي إلى أن تكون عرضاً للأحداث في الزمان والمكان” (بناء الرواية، إدوين موير، دار الجيل للطباعة، ترجمة إبراهيم الصيرفي، القاهرة، د. ت، ص147ـ 148). وما صنع لقالب الرواية هذه القوة الجاذبة هي التجارب السردية الكبيرة والجريئة التي تطورت حتى ترسخت عبر تاريخ الإبداع الأدبي وصارت تقاليد تمنح الرواية هذه القوة وتجعلها متصفة بالعبور الأجناسي ومصنفة ضمن الأجناس الأرسطية نظرا لسعة متاحات قالبها في الضم والصهر ثم مرونة حدوده وهي تعبر على المستويين الباطني المتمثل بالأساليب الداخلية والظاهري المتمثل بالأطر الخارجية.
وهذا يعني أن العبور اشتغال دوري. وهذه الدورية هي التي تجعل الرواية مستوعبة اشتراطات الفهم الأرسطي للتقولب كوحدة واتحاد وكاحتواء ومحتويات وكحدود وإطارات.
ولولا العبور الأجناسي لما امتلكت الرواية إمكانيات هائلة دفعت ميشيل بوتور إلى أن يصفها بالبحث تدليلا على تجريبية كتابتها وتأكيدا لمقومات البناء الأدبي فيها المتسع كفاية لإدراك حقيقة الحياة التي فيها البشر محاطون بالقصص دون انقطاع (ينظر: بحوث في الرواية الجديدة، ميشيل بوتور، ترجمة فريد انطونيوس، منشورات عويد، بيروت ـ باريس، ط3، 1986، ص5) وليكون الروائي “ذلك الشخص الذي يلاحظ أن بناء يرتفع في ما يحيط به فينبري إلى إتمام هذا البناء يتخيله ينمو ويحسنه ويشبعه درسا إلى اللحظة التي يصبح فيها جديرا بأن يقرأه الجميع” (المصدر السابق، ص39).
ولقد وصف لوكاش الرواية بالملحمة لأنها تجعلنا نشكك في ما نعتقد أنه حسن ومنظم، فيعترينا الارتياب وتداهمنا الظنون لنعيد ترتيب عالمنا من جديد. وهذه هي مفارقة العبور الأجناسي إذ كلما كان الجنس مستقرا في قالبه وكانت قابلياته على العبور أكثر، ازدادت فاعليته في قلب استقرارية العالم وخلخلة ثوابته.
وهذه الملحمية هي التي تجعل الرواية تغوص في الحياة متبنية تصورا مغايرا يكشف عن خفايا ظواهرها وبواطنها وبما يجعل الحيوات والأشياء جديدة لا على عادتنا في رؤيتها حتى كأن الجنس العابر في سعته ومرونته هو العالم المتحرك في حدود زمكانية متخيلة وواقعية.
وإذ يتجه التداخل الأجناسي بالكتابة الأدبية إلى اللاتقولب، فإن العبور يمنح الجنس الأدبي مزيدا من الاستقرار تموضعا وتقانات وأدوارا.
ومهما كان التداخل متنوعا ومتغايرا تحقق العبور تماهيا، فيغدو الجنس الأدبي محتويا لمعبور عليه ليس له الاستقلال الذي كان عليه عند التداخل. وهذا لأن التماهي خطوة إتمامية لخطوة التداخل الذي فيه يتهجن المعبور عليه، فينجذب إلى الجنس العابر.
وليس للرواية أن تكون عابرة لولا ميزاتها التي بها تحافظ على قالبها وفي الوقت نفسه تنساح ملحميا في كل الاتجاهات والثيمات والموضوعات مقدمة لنا رؤيا للعالم خاصة. ويمثل ميشيل بوتور على هذا التضاد بين الحفاظ والانسياح، قائلا “فإذا أردنا أن تشرح لبطرس من هو بولس فإننا نقص عليه قصته: فنختار من بين ذكرياتنا ومعرفتنا عدداً من المواد ونرتبها لنؤلف منها صورة.. قد يصلنا فجأة خبر مذهل يتعلق ببولس فنصرخ ولكن كيف يمكن حدوث ذلك؟ ثم نعود إلى التذكر.. كم من الأشباح تعترض بيننا وبين العالم وبيننا وبين الآخرين وبيننا وبين أنفسنا وإنه ليستحيل علينا أن نسمي هذه الأشباح أو أن نتبعها إذ أننا نعلم جيدا أن في ما ينقلونه إلينا أشياء كاذبة ليست أخطاء وحسب بل خرافات” (المصدر السابق، ص95).
ومثل الرواية أجناس السرد العابرة التي من خلالها يمكن لنا أن نرى الواقع جديدا وغريبا فالقصة القصيرة العابرة مثلا تملك قالبا صغيرا في حدوده لكنه قادر على أن يُماهي في داخل حدوده كل الحكايات والأشخاص وقد يعالج معاجم وموسوعات وكاتالوجات ومختصرات أو يحوي نسيج قصص قصيرة جدا أيضا.
وما كان للعبور الأجناسي أن يكون منغلقا في حدوده الإطارية ومنفتحا في مساحاته الداخلية لولا أنه يتعدى التداخل تهجينا وتنافذا وتعالقا وانصهارا بالتماهي الذي معه لا يعود للمتداخل أيّ خصوصية ويصبح المهجن والمتنافذ والمتعالق مع الجنس العابر مجرد بنيات شكلية يمكن التدليل عليها نظريا بيد أن من المحال إيجاد تموضع تطبيقي لها في الجنس الذي تماهت معه فعبر عليها ومن دون أدنى وجود لفجوات في الجنس العابر يحتاج فيها إلى التدارك بالرتق أو المحو. والسبب أن التماهي حقيقي وليس ادعائيا لأنه يقوم على التوافق بين العابر والمعبور عليه. ونعني بالتوافق الصيغة العملية التي بها ينفذ الجنس العابر إلى المعبور عليه فيتماس معه تماسا صميميا، سطحا وعمقا.