العدوّ العميق للمسرح العربي
الثابت حتى الآن في حياتنا الاجتماعية أنَّنا نجيد استخدام العنف الجسدي والعنف اللغوي في خطاباتنا اليومية: في المنزل، في الشارع، في العمل، في المدرسة، في دار القضاء، في المصحات الجسدية والنفسية، في مخافر الشرطة، في أقبية المخابرات، وفي.. وفي. ونعتدي به على بعضنا، فنشِلّ قدرات عقلنا كي لا يفكِّر، كأنَّنا أشبه أو إنَّنا عصابات تعتدي وتعتدي على عقلها. هل نحن مراهقون عنفيا ومسرحيا، وهو ما يدفعنا لنخلق تلك القطيعة مع الفرجة التي تحرِّضنا على التفكير. ما هذا النمط الاستهلاكي للثقافة والثقافة المسرحية الذي نعيشه. لماذا لا نحقِّق الاندماج مع المجتمعات الإنسانية بدل التفاخر بعنفنا- بالعنف الذي يمزِّق ويفرّق ويهرق الدماء؟
المسرح العربي لَمْ يقُم إلى الآن باستقطاب ثقافي لـ”الجماهير” رغم سحره- سحر المسرح، وهو “أبو” والدُ ومولّد الحركة الاجتماعية الثقافية. كأنّنا نضطهد المسرح، وبالتالي نضطهد الجماهير التي من المفترض أن نقيم معها علاقات اجتماعية، باعتبار أنَ المسرح -الفرجة المسرحية- هي كنز الأفكار الإنسانية العقلانية. بل منها نغترف أحلامنا باعتبار “الفرجة” مصدراً للجمال والجمال الفلسفي، لأنّ الإنسان أيَاً كان قومه ومذهبه، هو فوق الألم التراجيدي الذي يسبِّبه العوز والفقر أو الاستبداد، فيتحوّل إلى كائن تعس يثير الرثاء وينشر البشاعة. وكأنّنا نقوم بقتل (الرائع) البطل. هناك شخصيات مسرحية استثنائية في الحياة الاجتماعية العربية مثل: أبوذر الغفاري والحلاج وابن رشد والسهروردي والمتنبي… كانوا صرعى أفكارهم وأفعالهم، ولقد عاقبناهم بدل أن نكافئهم. مع أنّهم شخصيات غير ارتكاسية كانت تدافع عن الجمال وبقوّة. فهم ليسوا شريرين، ولم يرتكبوا جرائم ولم ولم. وأفكارهم/ ثقافتهم هي نتيجة تجربة حياتية دافعوا فيها عن “قِيم” أخلاقية وفلسفية كما عن العدالة- خاصة عند أبي ذر الغفاري، ولا يقلّون أهمية تراجيدية عن: أوديب، أغاممنون، آخيل، أو هاملت وماكبث شكسبير الذي لجأ إلى الأبطال التراجيديين في القصص والحكايات التاريخية، واستقى منها شخصيات وصراعات مسرحياته. وهنا يجب أن لا ننكر ولا نقلّل من قيمة ما فعله عربياً: ألفرد فرج، عزالدين المدني، سعد الله ونوس، ممدوح عدوان، عبدالرحمن الشرقاوي، محفوظ عبدالرحمن، يسري الجندي، صلاح عبدالصبور، وآخرين. ذلك لأنَّنا بحاجة إلى الأبطال، إلى عصر الأبطال حتى نقلّل من خطر المجرمين والخونة، ولنحقِّق شيئاً من السموّ. لأنّ المسرح، أو لأنَّنا في المسرح نشعر ونعيش وجودنا الفيزيائي. فنحن في حركة وفي حالة لعب كون جسدنا انخرط في العملية المسرحية، في الفرجة، في عملية الترويح عن النفس وعن الجس، وفي استهلاك الزمان والمكان الذي يمر على الخشبة. لأنّنا فوقها نرى صراعاً للأفكار والمبادئ، لنتاجات الوعي. نرى ذاك الصدام التراجيدي ما بين الأساطير والواقع، وأنّ تاريخنا كان فيه مثل أولئك المفكرين النبلاء والذين شكّلوا الهيكل العظمي لنهضة العقل العربي.
لماذا لم يمر العقل المسرحي العربي في مصادفات انقلابية؟ هل لأنّ عقلنا عنده اكتفاء ذاتي فلا يعيش دورته الحضارية، فيثري الحياة الإنسانية بالإبداع الفلسفي والمسرحي كما فعل الغير، أم لأنَّه كان عقلاً منصرفاً لإنتاج “الخراج” والأتاوات، وليس لإنتاج المعرفة! حتى في لحظات القوَّة لـ”الإمبراطورية” العربية الإسلامية حيث لم نسعَ إلى خلق حالة فكرية في المسرح والفلسفة، بل أقمنا مجازر للمشتغلين في الفلسفة، وهذا ما قتل نواة “التفكير”، وكرّس مفهوم الطاعة لأولي الأمر، فلا نعيش حالة وتفوّقاً ثقافياً في العلوم والمعارف الإنسانية.
حتى الآن، ورغم كثرة المسرحيات والعروض والمهرجانات والندوات المسرحية، فلا مركز ولا رأسمال مسرحي عندنا.. لماذا؟ مسؤولية مَن ونحن نعيش عزلةً مسرحيةً وعزلةً عقليةً؟ لماذا لا ننتمي إلى عقلنا؟ لماذا نتبرّأ منه؟ أين المطبخ المسرحي- الطبخة المسرحية، رغم ما يُصرف من أموال على “المسرحيين”؟ هل ما زلنا قبائل، أو أنّنا نفضّل أن نعيش حياة البداوة رغم مدنية المسرح؟
محيِّر أمر هذه الأمَّة/ الدويلات العربية، فهي رغم تدينها وتمدّنها لا تزال تشتغل بذهنية تاريخية وثنية، الولاء للوثن وليس للعقل. لأنَّنا ما زلنا نأكل بعضنا، وما زلنا نغزو- قبيلة تغزو قبيلة. لم نندمج مع محيطنا الإنساني، خسرنا ولم ننتصر سياسياً ولا ثقافياً. حتى أنّنا لم نستطع أن في الشعر الذي هو كما نتبجّح “ديواننا”، ولا في سائر الفنون والآداب أن نُصيّر عندنا “مركزاً” مسرحياً أو فلسفياً. بل خطوة فخطوة من انهيار تاريخي إلى سقوط حضاري. حتى الصدفة التاريخية لم نستفد منها لمّا جاءت عن طريق “الضرورة” فنحقّق الدولة. أينَ جاذبية المسرح، خصوبته، بريقه؟ لا يكفي أن يكون عندنا بُنى مسرحية كما لو أنّها بُنى صناعية لإنتاج القبّعات والأحذية. نريدُ عقلاً مسرحياً، عقلاً يؤمْن ويؤمّن الحوار بين “رعايا” الدويلات على اختلاف وتنوّع أحلامهم وآمالهم وأعراقهم وعقائدهم ومذاهبهم.
ففي كل ما قرأنا وعشنا لن ترى أُمّة تتزيّن بالجهل والحماقة، بل وتضطهد عقلها مثل أُمتنا/ دويلاتنا. المسرح، والفنون عموماً عند غيرنا من الأمم، هو تجربة وليس حلية. وهنا أذكّر بتجربة المسرحي الجزائري محمد بن قطاف الذي حوّل رعائية الدولة العربية واستعمارها للثقافة عموماً، وللمسرح خاصةً، فترة إدارته لمهرجان المسرح المحترف 2007- 2013 حتى رحيله، إلى ميدان تنافس أفرز العديد من الخمائر النقدية والعقلانية الشبابية في المسرح الجزائري، وخلّصه من سيطرة وهيمنة السحرة والكهنة، نحو تحقيق عمومية إنسانية للمسرح. هؤلاء الكهنة الذين “يتعنكبون” ويخرقون القوانين والمحرّمات وينشرون الخراب والرعب، ولا يزالون يتحكّمون ويحكمون بصفتهم زعماء وشيوخ قبائل المسرح العربي، متجاهلين أنّ المسرح يعمل في عروضه على نشر الحركية النفسية بين المتفرجين، وقد يصير قائد رأي، لا ينشر، ولكن يُنمّي الجدل، لنشتبك مع الدولة/ القبيلة، العدوّ العميق للإنسان الذي تمتلكه بصكّ عبودية، أو تستلبه. المسرح هو شكل من أشكال القوّة يقوّى بـ”الجدل” على القوّة مهما كانت قويّةً حتى لو كانت تتحصّن بالاستبداد. لأنّه مختلف، يختلف حتى لا يتغلّب ردّ الفعل على الفعل. المسرح فعل والعدوّ العميق هو أبو ردود الأفعال، وهذه التي قبض عليها المسرح اليوناني خاصة يوربيدس. فيعيش ونعيش مع فعله “المُبدع″ حيث يختبئ “العبد” العدوّ العميق ومعه شيخ العشيرة بثياب”السيّد”. إنّه المسرح الذي يُسائل الحياة: من أين تجيئين بالألم؟ وتجيب: من العدوّ العميق لكي أُثبت أنّي حياة.