العلم لا يدعو إلى الإيمان
اخترت هذا العنوان الصادم للبعض والمناكف لعنوان الكتاب المعروف “العلم يدعو للإيمان” لمؤلفه كريسي موريسون لكي أوضح للشباب العربي مسألة هامة قد تكون ضائعة في الذهن الثقافي العربي وتستغل أحيانا من قبل بعض مدّعي العلم. والمسألة تكمن في أنه ليس من أهداف العلوم الطبيعية الحديثة إثبات أو نفي القضية الإيمانية. فالعلوم الطبيعية لا تدعو للإيمان أو الإلحاد من هذا الجانب، وليست مهتمة أصلا بهذه المسألة. إن تأويل النتائج العلمية لمحاولة إثبات أو نفي قضايا اعتقادية إيمانية هو أمر زائد على العلوم الطبيعية وقد يسبب إفسادا وإشكالات إذا استغل بشكل فاضح غير منضبط.
تطورت العلوم الطبيعية مع بدايات النهضة الأوروبية بسبب انعتاق العقل من منظومة تقديس بعض القضايا الإيمانية والفلسفية التي تحوم حولها، حيث اتخذ المنطق العلمي العقلاني الخاضع لمنهجية البحث والاستقراء والتجربة بعدا مستقلا أدى إلى تطور معلوماتي وتكنولوجي واسع.
إن السبب الحقيقي لتطور العلوم الطبيعية هو اقتصارها على دراسة العالم المادي الحسي باستخدام منهج تجريبي منضبط. فالعلوم الطبيعية لا تنفي الوجود الغيبي وإنما تعترف بعدم قدرتها على إخضاعه لمنهجها الخاص. بهذا المعنى يمكن أن نقول إن العلم الطبيعي علماني بمنهجه، وبالتالي لا يجوز الادّعاء بأن الفهم العلمي للطبيعة قادر على نفي أو إثبات الوجود الغيبي. وكل ما يمكن أن يقوم به الشخص المهتم بالقضايا الإيمانية هو تأويل النتائج العلمية للاستدلال غير المباشر على وجود الخالق وقدراته من ناحية أو للاستدلال على عدم الحاجة لافتراض وجود الخالق في تفسير الظواهر الكونية من ناحية أخرى.
بالطبع قد تنتقد العلوم الطبيعية لكونها منتجا اجتماعيا ثقافيا فلسفيا، وبالتالي ليست منتجا موضوعيا بشكل كامل. بالرغم من هذا الانتقاد الواقعي فإن ما يميز العلوم الطبيعية هو كونها ديناميكية بطبيعتها قادرة على تصحيح مسارها وأفكارها بذاتها، فلا يوجد ما هو مقدّس في بنيتها ومنهجها.
كما أن العلوم الطبيعية تراكمية تتنوع مكوناتها بين ما هو صلب محكم وبين ما هو غير قطعي قابل للنقد والتغير والتطور. بل إنه يمكن في لحظات تاريخية أن تتعرض بعض محكمات العلوم إلى اهتزاز عنيف يطيح ببعض أجزائها ومسلماتها، وهذه سمة قوة وليست ضعفا في بنية هذه العلوم تضمن استمراريتها وتطورها وتراكميتها وإلى حد كبير موضوعيتها.
لا نشير في هذا المقال إلى إهمال القضايا الإيمانية لدى الباحث العلمي أو عموم المنفتحين على المسائل العلمية، ولا نشير إلى أن هناك تناقضا بين النتائج العلمية الراسخة والمسائل الإيمانية المحكمة، ولكننا ندعو إلى احترام المنهج العلمي. لا يوجد ما يمنع الباحث الجديّ من الاشتغال بالعلوم الطبيعية ما دام المعتقد الإيماني لا يقف عقبة أمام منهج البحث العلمي.
ولكن الخطورة تكمن في أن يضع الباحث معتقده الإيماني كمرجع في بحثه العلمي. مما يودي إلي فقدان الموضوعية وربما الانزلاق إلى استنتاجات متسرعة خاطئة تسيء للعلم والإيمان. وكمثال هنا نشير إلى بعض الدراسات العلمية لإثبات فوائد بعض النباتات أو الممارسات المنصوص عليها في ما يطلق عليه بالطب النبوي.
تكمن الخطورة في أن بعض هذه الدراسات تنطلق من تقديس النصوص واليقين بالنتائج مسبقا قبل الشروع في البحث العلمي مما يفقدها رصانتها ومصداقيتها ويسيء إلى المنهج العلمي نفسه. إن هذا التجني على المنهج العلمي يشجعه القبول الأعمى عند العامة بحكم أن هذه النتائج تقطع بصحة المعتقد الديني. ولذلك تتناثر ادّعاءات هنا وهناك تشير إلى استنتاجات علمية بفوائد بعض النباتات أو ممارسات معينة لا تقوم في معظمها على نتائج علمية موثوقة وإنما على خداع أو منهجية علمية فاسدة لا تستطيع أن تدافع عن نفسها أمام أيّ نقد علمي رصين.
نحن لا نهاجم البحث العلمي في هذا المجال ولكن نؤكد أن البحث العلمي عمل مضن وشاق يحتاج إلى دقة ومعايير عالية للوصول إلى استنتاجات تملك قدرا كبيرا من المصداقية، وهذا ما لا نراه عند بعض من يقدم نفسه للناس كباحث علمي في الطب النبوي وليس كطامع في ادّعاء الشهرة والتكسب.
النقطة الأخيرة التي أشير إليها في ما يتعلق ببعض المسائل العلمية التي في ظاهرها تتعارض مع ما نعتقد بأنه واضح في المعتقد الديني مثل نظرية التطور، فالنظرية قد أصبحت راسخة الأركان وقطعت شوطا كبيرا في تفاصيلها واستدلالاتها وحيثياتها. ولم يعد ينفع دفن الرؤوس في الرمال أو مهاجمة النظرية من قبل من لم يتبحر في علومها ودقائقها. فما هو الموقف الإيماني السليم من النظرية؟
إن نظرية التطور كأيّ نظرية علمية أخرى ديناميكية في ذاتها قادرة على نقد وتصويب نفسها، ومتقبلة لأي مستجدات تضيف وتعدل في أركانها وتفاصيلها، ولكنه في الوقت نفسه من المستبعد أن تختفي النظرية من أساسها وتمسح كليا بجرّة قلم.
من ناحية أخرى نعيد القول إن نظرية التطور في ذاتها ليست معنية بنفي وجود الخالق أو إثباته. وإنما تهدف إلى فهم التنوع الحي والتطورات الجينية التي تؤثر في تطور الكائنات الحية والعوامل المحيطة والمؤثرة.
إنه من السذاجة اتهام المشتغلين في علم التطور على أنهم زمرة من الملحدين الأفّاقين الذين يريدون هدم الدين. فالتهجم على النظرية من قبل بعض رافضي فكرة التطور الذي لم يخوضوا في تفاصيل علم البيولوجيا ونظرية التطور هو إساءة للدين والإيمان وللعقل والعلم. ومن المؤسف أن الكثير من الشباب العربي يتقبل مثل هؤلاء الأشخاص كمدافعين عن الإيمان في حين أنهم أول من يسيء إلى القضية الإيمانية.
يجب أن يحترم العلم ومنهجه كطريقة لفهم الطبيعة وعملها، كما يجب أن لا يتقبل من يهاجم العلم وهو ليس ممن مارسه بحق وليس على دراية كافية بتفاصيله ومنهجه. ومن جانب آخر فإنه من الخطأ أن يدّعي ملحد أن نظرية التطور تهدم فكرة الوجود الإلهي، لأن النظرية لا يمكنها أن تدّعي ذلك أصلا ولا أن تصل إلى هذا الاستنتاج. إن الموقف الإيماني أو الإلحادي المترتب على نظرية التطور هو أمر زائد عليها وليس منها.
نحن لا نرى أن هناك حاجة إلى التخوف على الإيمان من قبل العلوم الطبيعية، بل يمكن أن يكون العلم سببا في تطور التفسير الديني وانعتاق الإنسان من بعض التأويلات القديمة التي تتداول في بعض كتب التراث. انظر مثلا إلى تطور علوم الكون والفضاء، فالحقيقة العلمية تقول إن الكرة الأرضية ليست مركز الكون بل مجرد كوكب صغير يدور حول شمس صغيرة وضيعة تتواجد في ذيل مجرة تحوي مليارات النجوم التي تتجاوز حجم شمسنا بمرات عديدة. وهذه المجرة لا تحمل أهمية ضمن مليارات المجرات الأخرى التي تحتوي على أعداد هائلة من النجوم وكل ذلك موجود في كون عظيم الاتساع متمدد يفوق إدراكنا.
على الرغم من أن ظاهر الحقائق العلمية كان ليزعزع إيمان السابقين، إلا أن الواقع يقول إن الإيمان العقائدي استطاع أن يتجاوز التفسير الديني الضيق القديم ويتقبل النتائج العلمية، بل ويفتح أفقا إيمانيا أعمق في إدراك قدرة الخالق وعظمته.