العملاق الغارق

الأحد 2022/05/01

في صباح اليوم التالي للعاصفة، جرفت المياه جثة العملاق الغارق إلى الشاطئ على بعد زهاء عشرة كيلومترات شمال غرب المدينة. وقد تواترت أخبار الجثة بادئ ذي بدء عبر مزارع كان على مقربة من المكان، وأكّدها تالياً مراسلو الصحيفة المحلية والشرطة. على الرغم من ذلك فإنّ غالبية الناس، وأنا واحد منهم، ظلّوا متشكّكين، لكنّ عدد الشهود الذي أكّدوا بصورة متزايدة الحجم الهائل للعملاق، كان أكثر من أن ننكره. كانت المكتبة التي اعتدت وزملائي أن نجري فيها أبحاثنا شبه مهجورة حين انطلقنا إلى الشاطئ بعيد الثانية عصراً، وطوال اليوم واصل الناس مغادرة مكاتبهم ومتاجرهم والاتجاه إلى الشاطئ مع شيوع أخبار العملاق في أرجاء المدينة.

حين وصلنا إلى الكثبان الرمليّة على الشاطئ، وجدنا حشداً كبيراً من الناس، واستطعنا رؤية الجسد مسجّى في المياه الضحلة على بعد مائتي متر منا. في البداية بدت التخمينات بشأن حجمه مبالغاً بها إلى درجة كبيرة. كان المدّ منخفضاً في حينه، كاشفاً جسد العملاق الذي لم يبد، تحت الشمس، أكبر بكثير من سمكة قرش. وقد استلقى على ظهره وذراعاه ممدودان جانباً، في شبه استرخاء، وكأنّه نائم على مرآة من الرمل المبلل، وكان انعكاس جلده المبيض يخبو عندما ينحسر الماء عنه. تحت الشمس المشرقة، تلألأ جسده مثل ريش طائر بحريّ أبيض.

ذاهلون أمام هذا المشهد، وغير مقتنعين بالتفسيرات المبتذلة التي ساقها جمهور المتفرّجين، هبطت ورفاقي من الكثبان إلى الشاطئ. كان الجميع متردّداً في الاقتراب من العملاق، لكنْ بعد نصف ساعة اقترب منه صيادان ينتعلان جزمتين. وحين اقتربا بقامتيهما الضئيلتين من الجسد المسجّى، ارتفعت الجلبة بين النظّارة. بدا الرجلان قزمين تماماً أمام العملاق. وعلى الرغم من أنّ عقبيه كانا غائرين جزئياً في الرمل، فإنّ قدميه كانتا بضعف قامة الصيادين على الأقلّ، وأدركنا فوراً أنّ هذا اللوياثان [2] الغارق له كتلة ومقاييس أحد أضخم حيتان العنبر الشائعة.

وصلت ثلاثة قوارب صيد شراعية إلى الموقع وظلّت على بعد خمسمائة متر من الشاطئ، بينما تجمّع البحارة في مقدّمها. وقد أثنى تحفّظهم النظّارة على الشاطئ عن الاقتراب أكثر من العملاق. وحين عيل صبرهم نزلوا عن الكثبان ووقفوا ينتظرون على الحصى، توّاقين لمشاهدة العملاق عن كثب. انحسر الرمل وشكّل حفرة حول العملاق، وكأنّه سقط في تلك البقعة من السماء. وقف الصيادان بين قدميه الضخمتين، ملوّحين لنا مثل سيّاح بين أعمدة معبد غارق في الماء على ضفاف النيل. لهنيهة، خشيت أنّه نائم فحسب وأنه قد يتحرّك فجأة ويطبق عقبيه معاً، لكنّ عينيه الزجاجيتين كانتا تحدّقان بالسماء، غير واعيتين للرجلين الصغيرين بين قدميه.

بعد ذلك، أخذ الصيادان يدوران حول الجثة، ماشيين حول رجليه الغليظتين. وبعد أن توقّفا لفحص أصابع اليد الملقاة على الرمل، اختفيا عن الأنظار بين الذراع والصدر، ثم عاودا الظهور لفحص الرأس، مغطّيين عيونهما بينما يحدّقان بجانب وجهه اليوناني الملامح. وقد ذكّرتني جبهته المسطّحة، وأنفه المستقيم وشفتاه المحدّدتان بوضوح بنسخة رومانية من براكسيتيلس [3]، في حين أكّدت فتحتا أنفه التامّتان الشبه بذلك التمثال الضخم.

فجأة صرخ الجمهور، وأشارت مئات الأذرع نحو البحر. مجفلاً، رأيت أحد الصيادين يتسلق صدر العملاق ويمشي عليه مومئاً للجمهور. صاح الجمهور دهشة واستحساناً وانطلق نحو جثة العملاق مثيراً شلالاً من الحصى تحت أقدامه.

حين اقتربنا من الجسد الراقد في بركة ماء بحجم حقل، فإنّ ثرثرتنا الحماسيّة انحسرت مجدّداً أمام الأبعاد الضخمة لهذا العملاق الميت. كان ممدّداً على مقربة من خطّ الشاطئ، ورجلاه أقرب إلى الماء، وهذا أخفى حجمه الحقيقي. على الرغم من وقوف الصيادين على بطنه، فقد تشكّل الحشد في دائرة واسعة من حوله، وراحت مجموعات من ثلاثة أو أربعة أشخاص تقترب بحذر من اليدين والقدمين.

جلت ورفاقي حول الجانب المغمور بالماء منه، فلاح فوقنا جذعه ووركاه مثل بدن سفينة تقطّعت بها السبل. كانت بشرته اللؤلؤيّة منتفخة بفعل الملوحة، مما حجب رسم عضلاته وأوتاره الضخمة. مررنا أسفل ركبته اليسرى التي ارتخت قليلاً، فرأينا خيوطاً من الطحالب الداكنة عالقة بها، وقد ألقي بشكل فضفاض فوق عضوه التناسلي، شال من قماش مخرّم كبير حال لونه بفعل الماء إلى الأصفر الشاحب، لكنّه ظلّ يحفظ شيئاً من حشمة العملاق، وقد فاح عبق ملحيّ حاد من القماش تحت شعاع الشمس، مختلطاً برائحة حلوة إنما نافذة لجلده.

توقّفنا عند كتفه وجعلنا نحدّق بوجهه الساكن. افترّت الشفتان قليلاً، وغامت العين المفتوحة، وكأنّها حُقنت بسائل حليبي أزرق، لكنّ الأقواس الدقيقة للمنخرين والحاجبين أسبغت على الوجه سحراً منمّقاً يتناقض مع القوّة الساحقة للصدر والكتفين.

كانت أذنه معلّقة وسط الهواء فوق رؤوسنا مثل رواق منحوت. وإذ رفعت يدي لألمس شحمة الأذن المتدلّية، ظهر أحدهم من طرف الجبين وصرخ بي من علٍ. فتراجعت إلى الخلف مجفلاً، ثم رأيت مجموعة من الشباب قد تسلّقوا الوجه يدفع بعضهم بعضاً داخل محجري العينين وخارجهما.

أخذ الحشد يتسلق جسده من الجهات كافة، وقد وفّرت ذراعاه سلّماً مزدوجاً. من راحتي اليدين أخذوا يتسلقون الذراعين إلى المرفق ثم يزحفون على عضلات الذراع المنتفخة إلى الممشى المسطّح المكوّن من عضلات الصدر التي غطّت النصف العلوي من الصدر الناعم العديم الشعر، ومن هناك يصعدون إلى الوجه، متسلّقين الشفتين والأنف، ثم يهبطون إلى البطن ليلتقوا آخرين ممن امتطوا الكاحلين وأخذوا يستكشفون عمود الفخذين المزدوج.

واصلنا الجولة بين الحشد، وتوقّفنا لكي نلقي نظرة على اليد اليمنى الممدودة. وقد تكوّنت بركة مياه صغيرة في راحة اليد، مثل بقايا من عالم آخر، وقد جفّف أولئك الذين تسلقوا الذراع تلك البركة. حاولت أن أقرأ خطوط الكفّ، باحثاً عن أيّ دليل على شخصية العملاق، لكنّ تضخم الأنسجة محا تلك الخطوط وحجب كلّ أثر لهويته وآخر محنة مأسوية مرّ بها. بدا أنّ العضلات الضخمة وعظام الرسغ في اليد تنكر أيّ حساسية لصاحبها، لكنّ الجلد الرقيق للأصابع والأظافر المقصوصة بعناية بطول ستّ بوصات، وشت بشخصية مهذّبة، وهو ما تعكسه ملامح الوجه الهلينيّ الذي احتشد سكان المدينة فوقه كالذباب.

وقف شاب يافع على رأس الأنف المستدقّ، ملوّحاً بذراعيه، صارخاً برفاقه، لكنّ وجه العملاق ظلّ محتفظاً بهدوئه الطاغي.

لوحة

عدنا إلى الشاطئ واقتعدنا الحصى وشاهدنا الدفق المتواصل للناس الآتين من أرجاء المدينة. احتشد نحو ستة أو سبعة مراكب صيد قبالة الشاطئ وخاض البحّارة في مياه الشاطئ الضحلة لإلقاء نظرة عن كثب على الكائن الضخم. لاحقاً ظهرت مجموعة من رجال الشرطة الذين قاموا بمحاولة فاترة لضرب طوق على الشاطئ، لكنهم تخلّوا عن هذه الفكرة بعد الاقتراب من العملاق وغادروا المكان وهم ينظرون خلفهم بارتباك.

بعد ساعة، امتلأ الشاطئ بما لا يقلّ عن ألف شخص، وقد وقف مائتان منهم على الأقلّ أو جلسوا على العملاق، متكوّمين حول الذراعين والرجلين الطويلة أو دائرين في حركة دائبة على صدره ومعدته. وقد احتلت عصبة كبيرة من الشباب الرأس، مطيحين بعضهم بعضاً عن الوجنتين ومنحدرين على مسطّحات الفكّ الناعمة. وتمدّد اثنان أو ثلاثة على الأنف، في حين زحف آخر داخل أحد المنخرين، حيث أطلق أصواتاً أشبه بالنباح.

بعد ظهر ذلك اليوم عادت الشرطة وأفسحت طريقاً عبر الحشد لمجموعة من العلماء؛ خبراء في تشريح الكائنات الضخمة والأحياء البحريّة، من الجامعة. نزلت عصبة الشباب ومعظم الناس عن العملاق، تاركين خلفهم حفنة من العنيدين الذين جثموا على رؤوس أصابع القدمين وعلى الجبهة. دار الخبراء حول العملاق، مومئين برؤوسهم وهم يتشاورون بحماسة، يسبقهم رجال الشرطة الذي راحوا يدفعون جمع النظّارة إلى الخلف. وحين وصلوا إلى اليد الممدودة، عرض الضابط الأعلى رتبة مساعدتهم في الصعود إلى الكفّ، لكنّ العلماء سارعوا إلى رفض العرض.

بعد عودة الحشد إلى الشاطئ، قاموا مجدّداً بتسلّق العملاق، وكانوا يغطونه تماماً حين غادرنا المكان عند الساعة الخامسة، مغطّين الذراعين والرجلين مثل قطيع من النوارس فوق سمكة ضخمة نافقة.

عاودت زيارة الشاطئ بعد ثلاثة أيام. استأنف أصدقائي بحثهم في المكتبة، وتركوا لي مهمة مراقبة العملاق وإعداد تقرير. ربما شعروا باهتمامي الخاص بالقضية، لاسيما وأنني كنت توّاقاً للعودة إلى الشاطئ. لم يكن ثمة شيء من نزعة حبّ مشاهدة الأموات في ذلك، ففي نهاية المطاف، كان العملاق ما زال حياً بالنسبة إليّ، وقطعاً أكثر حياة من كثر ممن كانوا يتفرّجون عليه. ما وجدته مذهلاً هو ذلك النطاق الهائل، المساحات الضخمة التي احتلتها ذراعاه ورجلاه، وهو ما بدا تأكيداً لهوية أطرافي الصغيرة عينها، لكنّ الأهم من ذلك كله، هو الحقيقة الصريحة فحسب لوجوده. مهما تنوّعت الشكوك في حياتنا، فقد كان العملاق، حيّاً أم ميتاً، موجوداً بمعنى مطلق، موفّراً لمحة عن عالم من المطلقات المشابهة التي لا نشكّل، نحن النظّارة على الشاطئ، سوى نسخة معيوبة وحقيرة منها.

حين وصلت إلى الشاطئ كان الحشد أقلّ بكثير، وقد اقتعد نحو مئتين إلى ثلاثمئة شخص الحصى، متّخذين المكان موضعاً للنزهة ولمشاهدة مجموعات الزوّار الذين يمشون على الرمل. وقد حمل الموج المتعاقب العملاق أقرب إلى الشاطئ، مائلاً برأسه وكتفيه نحو المياه، بحيث بدا أنه بات مضاعف الحجم، وجسده الضخم يقزّم قوارب الصيد الراسية بجوار قدميه. كان خطّ الشاطئ منحنياً عند قوس ظهره، موسعاً صدره ومميلاً رأسه إلى الخلف، مسبغاً عليه وضعية أكثر قوة. وأسبغت العوامل المجتمعة من مياه البحر وتورّم الأنسجة، على وجهه ملمحاً أكثر نضارة وشباباً. وعلى الرغم من أنّ النسب العريضة لملامحه، جعلت من المستحيل تقييم سنّه وشخصيته، ففي زيارتي السابقة، وشى فمه وأنفه الكلاسيكيان بأنه شاب مهذّب متحفّظ. غير أنه بدا هذه المرّة في بداية منتصف العمر على الأقلّ. وقد أشارت الوجنتان المنتفختان، والأنف والصدغان الأغلظان والعينان الضيّقتان إلى تحلّل مقبل قد يلحق به عمّا قريب.

ما برح هذا التطوّر المتسارع لمرحلة ما بعد الموت في شخصية العملاق – وكأنّ العناصر الكامنة في شخصيته اكتسبت زخماً كافياً خلال حياته لكي تنطلق في اندفاعة أخيرة وجيزة – يسحرني. فقد أشار إلى بداية استسلام العملاق إلى ذلك النظام الزمني المتطلّب للغاية والذي تجد بقية البشرية نفسها فيه، والذي تشكّل حياتنا الفانية، مثل ملايين الفقاعات في دوّامة متشظية، منتجه النهائي. اتخذت موضعي على الحصى مقابل رأس العملاق تماماً، حيث تمكنني رؤية الواصلين الجدد والأطفال الذين يتسلّقون جسده.

بين زوّار الفترة الصباحية، جاءت مجموعة رجال يرتدون سترات جلدية وقبعات من القماش، أخذوا يفحصون العملاق بعناية واحترافية، وقاموا بقياس الأبعاد ووضعوا حسابات تقديرية على الرمل مستعينين بقطع من الأخشاب الطافية. افترضت أنهم من دائرة الأشغال العامة والخدمات البلدية الأخرى، التي لا ريب تتساءل كيف تتخلّص من هذا الحطام الهائل.

ظهر آخرون يرتدون ملابس أكثر أناقة، من أصحاب حلبات السيرك وما شابه ذلك، وداروا ببطء حوله، واضعين أيديهم في جيوب معاطفهم الطويلة، دون أن ينبسوا بكلمة. ومن الجليّ أنّ حجمه كان كبيراً للغاية حتى بالنسبة إلى مؤسساتهم الضخمة. وبعد رحيلهم واصل الأطفال تسلّق الرجلين والذراعين وهبوطها، وصارع الشباب بعضهم البعض فوق وجهه، والرمل الرطب من أقدامهم يغطّي جلده الأبيض.

في اليوم التالي تعمّدت تأجيل زيارتي حتى وقت متأخر من بعد الظهر، وحين وصلت وجدت العدد لا يزيد عن خمسين إلى ستين شخصاً افترشوا الحصى. وقد حملت المياه العملاق أقرب إلى الشاطئ فبات بعيداً بمسافة تقلّ عن خمسة وسبعين متراً، وقدماه تسحقان حاجز الماء القديم. وقد أمال الرمل المنحدر جسده نحو البحر، والتوت قسمات وجهه بما يشبه إيماءه واعية. جلست على رافعة معدنيّة ضخمة ثُبتت بصندوق إسمنتيّ فوق الحصى، وجعلت أتأمّل الجسد الراقد.

كان جلده الأبيض قد فقد الآن شفافيته اللؤلؤية ولوّثه الرمل المتّسخ الذي حلّ محلّ الرمل الذي جرفه المدّ الليليّ. وملأت الطحالب الفجوات ما بين أصابعه، في حين احتلت المخلّفات وعظام الحبار الشقوق تحت الوركين والركبتين. إلا أنه، وعلى الرغم من ذلك، ومن التغلّظ المستمر لقسماته، ظلّ محتفظاً بمظهره الهوميريّ المهيب. فعرض منكبيه المهول، ويداه وذراعاه الضخمة كالأعمدة، ما انفكّت تحمل شخصيته إلى بعد آخر، وبدا العملاق صورة أصدق عن البحارة الأرغوناوتيين [4] الغارقين أو أبطال الأوديسة، من الصورة التقليدية المرسومة في الذهن التي تستحضرهم بأحجام بشرية.

هبطت إلى الرمل وسرت بين برك الماء نحو العملاق. كان ثمة صبيان جالسين في تجويف الأذن، وفي الطرف البعيد وقف شاب وحيد على أحد أصابع الأقدام، شاخصاً نحوي بنظرات فاحصة خلال اقترابي من العملاق. ومثلما أملت حين أخّرت زيارتي، لم يعرني أحد آخر أيّ اهتمام، وظلّ مرتادو الشاطئ مكوّمين داخل معاطفهم.

اكتست يد العملاق اليمنى بالأصداف المكسورة والرمال التي انطبعت عليها عشرات آثار الأقدام. وقد ارتفع الورك المستدير فوقي، حاجباً منظر البحر عني. أما العبق الحلو المالح الذي شممته سابقاً فقد غدا حرّيفاً أكثر من ذي قبل، وعبر الجلد القاتم رأيت اللفائف المعوجة للشرايين التي تخثّر الدم فيها. ومهما بدا المنظر كريهاً، فإنّ التحوّل المتواصل، تلك الحياة المتجلية في الموت، هو ما أتاح لي أن أضع موطئ قدم على الجثة.

استعنت بإبهامه الناتئ، وتسلّقت صعوداً عبر راحة اليد. كان الجلد أغلظ مما توقّعت، بالكاد يلين تحت ثقل وزني. مشيت مسرعاً على الذراع المنحدر والعضلات المنتفخة. وكان وجه العملاق الغارق إلى يميني، فبدا بمنخريه الغائرين ووجنتيه الضخمتين، مثل فوهة بركان غريب الشكل.

التففت بحذر حول الكتف، وخرجت إلى ساحة الصدر الواسعة، حيث بدت أضلاع القفص الظهري أشبه بعوارض خشبية ضخمة. وقد امتلأ الجلد الأبيض بالندوب الداكنة الناجمة عن عدد لا يحصى من آثار الأقدام، والتي ظهرت عليها آثار الأعقاب بكلّ وضوح. كان أحدهم قد بنى قصراً رمليّاً صغيراً في وسط القفص الصدري، فتسلقت إلى هذا البناء المتهدّم جزئياً لكي أحصل على رؤية أوضح للوجه.

 

كان الصبيان الصغيران قد تسلقا الأذن واندفعا نحو محجر العين اليمنى التي كان بؤبؤها الأزرق المحتجب بالكامل بسائل حليبي اللون، يحدّق بعماء إلى ما بعد جسديهما الصغيرين. وإذا شوهد جانبياً من الأسفل، فإنّ الوجه يفقد كلّ كبريائه وصفائه، فالفم المشوّه والذقن المرتفع بعضلاته المنتفخة يشبهان حطام سفينة ضخمة. أدركت للمرّة الأولى مدى الألم الجسدي الذي عاناه العملاق في لحظاته الأخيرة، والذي لم يعد العقل موجوداً ليشعر بتحلّله. كانت العزلة المطلقة للجسد المنكوب، مثل سفينة مهجورة على الشاطئ الفارغ، كأنّها نابعة من ارتطام الموج، محوّلة وجهه إلى قناع من الإنهاك واليأس.

حين تقدّمت خطوة إلى الأمام، غارت قدمي في نسيج طريّ، وهبّ غاز منتن من شقّ بين الأضلاع. فتراجعت إلى الوراء هارباً من الهواء الفاسد الذي انتشر مثل غيمة فوق رأسي، عدت إلى البحر لكي أستنشق الهواء النقي. ولمفاجأتي رأيت أنّ يد العملاق اليسرى قد بُترت.

حدّقت بعجب بالرسغ المقطوع المسودّ، بينما الشاب الوحيد المستلقي في مقعده الهوائي على ارتفاع ثلاثين متراً، يحدجني بعينين حمراوين كالدم.

كانت تلك بداية سلسلة من عمليات نهب الجثة. أمضيت اليومين التاليين في المكتبة، متردّداً لسبب ما في زيارة الشاطئ، مدركاً أنني شهدت على الأرجح اقتراب نهاية الوهم العظيم. حين اجتزت بعد ذلك الكثبان الرمليّة ووصلت إلى الحصى، كان العملاق يبعد مسافة تقلّ عن عشرين متراً، ومن هذه المسافة اختفى كلّ السحر الذي أحاط سابقاً بجسده البعيد بجوار الموج. على الرغم من حجمه الهائل، فإنّ الندوب والأوساخ التي غطّت جسده، جعلته إنساناً فحسب، ولم تزده أبعاده الشاسعة إلا هشاشة.

كانت يده وقدمه اليمنى قد بُترتا، وسحبتا إلى أعلى الشاطئ وحملتا على عربة. بعد الاستفسار من المجموعة الصغيرة من الجالسين عند كاسر الموج، فهمت أنّ مصنع أسمدة ومصنع أعلاف، هما المسؤولان عن ذلك.

انتصبت قدمه الباقية في الهواء، وقد ثُبّت كابل فولاذي إلى الإصبع الكبير، استعداداً على ما يبدو لليوم التالي. غصّ الشاطئ بالعمال وملأت حفر عميقة الرمل جرّاء عملية جرّ اليد والقدم. كان سائل كريه داكن ينزّ من الأطراف المبتورة، ملطّخاً الرمل والأقماع البيضاء لعظام الحبار. بينما أمشي على الحصى لاحظت أنّ عدداً من الشعارات المتهكمة والصلبان المعقوفة وغيرها من العلامات حُفرت على جلد العملاق الرماديّ، وكأنّ تشويهه أطلق سيلاً مفاجئاً من الغلّ المكبوت. شحمة إحدى الأذنين غرزت فيها حربة خشبية، وشبّت نار صغيرة في وسط الصدر، مسوّدة الجلد المحيط بها. وأخذ رماد الحطب يتطاير مع الريح.

فاحت من الجثة رائحة حادة؛ التوقيع الذي لا يخطئ للتعفّن، وهو ما أبعد على الأقلّ الحشد الاعتيادي من الفتية. عدت إلى الحصى وتسلّقت الرافعة. ورأيت أنّ وجنتي العملاق انتفختا إلى درجة أنهما حجبتا عينيه ودفعتا الشفتين إلى الخلف كأنّهما تتثاءبان. أما الأنف ذو الملمح الهلينيّ السابق فقد التوى وتسطّح وانبعج داخل الوجه المنتفخ بفعل الدوس عليه وركله بأعقاب الأحذية.

حين زرت الشاطئ في اليوم التالي، شعرت بنوع من الراحة، حين وجدت أنّ الرأس قد أزيل.

مضت بضعة أسابيع قبل أن أقوم برحلتي التالية إلى الشاطئ، وبحلول ذلك الوقت فإنّ الملمح البشري الذي لاحظته سابقاً كان قد اختفى. ففي نظرة عن كثب، بدا الصدر والبطن إنسانيين تماماً، بيد أنّ الجثّة، بعد قطع كلّ من الأطراف، أولاً عند الركبة والمرفق، ثم الكتف والفخذ، صارت شبيهة بجيفة أيّ حيوان بحريّ – الحوت أو القرش – بلا رأس. مع فقدان الهوية، والآثار القليلة المتبقية للشخصية التي تشبّثت بوهن بالعملاق، فإنّ اهتمام النظّارة انحسر، وهُجر الشاطئ إلا من متشرّد مسنّ ظلّ يتردّد على الشاطئ، ومن الحارس الجالس عند مدخل كوخ المقاول.

بوكس

ارتفعت سقالة خشبية متهالكة حول الجثة، ومنها تأرجحت عشرات السلالم التي تمايلت في الريح، وانتشرت على الرمال الحبال والسكاكين الطويلة ذات المقابض المعدنيّة والخطافات، وتلطّخ الحصى بالدم وبقطع من العظم والجلد.

أومأت للحارس، الذي راح يحملق بي من فوق موقد النار. كانت المنطقة برمّتها تعمّها الرائحة العطنة لقطع كبيرة من الدهن التي تغلي في برميل خلف الكوخ.

كلا عظمتي الفخذ انتزعتا، ووضعتا بمساعدة رافعة صغيرة فوق القماش الشبيه بالشاش الذي كان يغطّي سابقاً خاصرة العملاق، وبدت الجيوب المفتوحة مثل أبواب حظيرة. أما الذراعان العلويان، وعظام الترقوة والأعضاء التناسلية فقد أزيلت هي الأخرى. وما بقي من الجلد فوق الصدر والبطن عُلّم بأشرطة متوازية مطلية بالقطران، وكشفت أوّل خمسة أو ستة شرائط مفصولة من القفص الصدري عن قوس ضخم من الأضلاع.

في أثناء مغادرتي، انقضّ سرب من النوارس من السماء وحطّ على الشاطئ، وأخذ ينقر الرمل الملطّخ بصرخات عنيفة.

بعدها ببضعة أشهر حين نُسيت أخبار العملاق، بدأت أجزاء عديدة من جسده تعاود الظهور في أرجاء المدينة. معظم تلك القطع كان عظاماً وجدت مصانع الأسمدة صعوبة في طحنها، لكنّ حجمها الضخم والأوتار والغضاريف الكبيرة الملتصقة بالمفاصل، دلّت عليها بسهولة. لسبب ما، بدت تلك الأشلاء أفضل في تجسيد جوهر عظام العملاق الأصلية مما فعلت الزوائد المتضخّمة التي بُترت لاحقاً. حين نظرت إلى مباني أكبر تجار الجملة في سوق اللحوم في الطرف المقابل من الطريق، أدركت أنّ قطعتين ضخمتين من عظام الفخذ، نُصبتا على جانبي البوابة. وقد لاحت فوق رؤوس العتّالين مثل الألواح الضخمة في ديانة بدائية ما، ورادوتني رؤية مفاجئة للعملاق يقف على ركبتيه على تلك العظام العارية ويمشي في شوارع المدينة، ملتقطاً الأشلاء المبعثرة من ذاته في رحلة عودته إلى البحر.

بعد ذلك ببضعة أيام رأيت عظم العضد الأيسر على مدخل أحد أحواض بناء السفن (ظلّ توأم تلك العظمة ممدّداً في الطين بين الأكوام أسفل الرصيف التجاري الرئيسي في الميناء). في الأسبوع ذاته، عُرضت اليد اليمنى المحنّطة في الكرنفال السنوي لنقابة الصيادين.

أما الفكّ الأسفل، فشقّ طريقه بصورة نموذجية، إلى متحف التاريخ الطبيعيّ. بقية الجمجمة اختفت، لكنها ما زالت على الأرجح في الأرض القاحلة أو في حدائق خاصة في المدينة؛ في الفترة الأخيرة، خلال إبحاري في النهر، لاحظت اثنين من أضلاع العملاق يشكّلان قوساً تزيينياً في الحديقة المائية، وربما جرى الخلط بينها وبين عظام فكّ سمكة قرش. وكانت قطعة كبيرة من الجلد المدبوغ والموشوم، بحجم بطانية هندية، تشكّل قماشاً خلفياً للدمى والأقنعة في متاجر الهدايا بجوار حديقة الملاهي، ولا ريب عندي أنه في أماكن أخرى من المدينة، في الفنادق أو أندية الغولف، فإنّ أنف العملاق أو أذنيه المحنطتين كانتا معلّقتين على جدار فوق المدفئة. أما بالنسبة إلى العضو التناسلي الضخم، فإنه ينهي أيامه في متحف العجائب ضمن سيرك يسافر شمال غرب البلاد. هذا الجهاز الضخم، المذهّب في نسبه وأحياناً في فعاليته، يحتلّ حجيرة في حدّ ذاته. المفارقة أنه يخلط بينه وبين عضو الحوت، وبالتأكيد معظم الناس، حتى أولئك الذين رأوه ينجرف إلى الشاطئ أوّل مرّة بعد العاصفة، يتذكّرون الآن العملاق، إن كانوا يتذكّرونه، بصفته وحشاً بحريّاً ضخماً.

ما زالت بقية الهيكل العظمي، وقد جرّدت من اللحم، على شاطئ البحر، كومة الأضلاع المبيضة مثل أخشاب سفينة مهجورة. كوخ المقاول، الرافعة والسقالة قد أزيلت كلها، والرمل الذي جُرف إلى الخليج على طول الشاطئ دفن الحوض والعمود الفقري. في الشتاء، ترتطم الأمواج المتكسرة بهذه البقايا، أما في الصيف فتوفّر مجاثم مثالية للنوارس.

1964

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.