العنونة المكانية في روايات المنفى السوري
يستطيع القارئ لعناوين الأعمال الروائية التي نشرت خلال سنوات الانتفاضة السورية الماضية أن يتوقف عند ظاهرة طغيان العنوان المكاني على هذه العنونة. والسؤال الذي يتبادر إلى ذهن القارئ فورا لماذا هذا الحضور المكثف للعنوان المكاني في هذه الروايات، وأيّ دلالات ينطوي عليه ذلك؟ لكن هذا السؤال يقود إلى سؤال آخر يتمثل في القيمة الجمالية والفكرية الخاصة للعنوان في ضوء الوظائف التي يؤديها حتى تنشغل القراءة به، وتحاول أن تستكشف المضمر والكامن خلف هذه الاستراتيجية في العنونة من دواعٍ ورغبات ودوافع تخص هذه التجارب التي تتقاطع في هذه الاستراتيجية الخاصة للعنونة. لذلك سنحاول تجاوز دلالات هذه الاستراتيجية إلى محاولة الكشف من خلال علاقة الإحالة المتبادلة بين العنوان الرئيس والنص السردي في هذه الأعمال عن الدور المحوري الدال للمكان في هذه العنونة والذي يجعل المكان يتصدر واجهة هذه الأعمال باعتباره البؤرة التي تتولد منها سائر البؤر السردية الأخرى في هذه الأعمال التي يؤسس المكان فيها فضاء الرواية بالكامل.
ينطوي اختيار العنوان الذي يتم غالبا بعد الانتهاء من كتابة العمل على مقاصد دلالية تتصل اتصالا مباشرا بفكرة العمل ما يجعله تكثيفا واختزالا لما يريد العمل أن يقوله. وتتعزز هذه الأهمية من خلال الوظائف التي يقوم بها العنوان على مستوى التلقي إذ يتولى مهمة إكساب القارئ معرفة بالعمل وتنظيم هذه المعرفة وتأويلها بالصورة التي تجعل منه مفتاحا لدخول عالم الرواية السردي وخلق أفق التوقع.
من هنا تكتسب دراسة العنونة في هذه الأعمال دلالاتها الخاصة نظرا لما أصبح المكان يحمله من معان كبيرة وأساسية في حياة السوري ووجوده المهدد بالضياع والموت الذي لم ينته بعد.
العنوان والمكان.. علاقة اختزال
إن العنوان بوصفه علامة دالة هو جزء من مجموع العلامات التي تشكل النص السردي، لكن أهميته تنبع من أنه يتقدم عليها جميعا، من خلال كونه صلة الوصل الأولى مع القارئ.
لذلك فإن قراءة بنية هذه العناوين الدلالية من خلال شعرية العنوان تتيح لنا استجلاء أفق هذه التجارب في ما تحاول أن تقوله وتكشف عنه من دوافع قوية تجعل المكان يختزل أفق هذه التجربة ويكثف معانيها ودلالاتها الواسعة والكبيرة.
إن هذا الحضور المكثف والدال للمكان في هذه العناوين يجعله يتجاوز كونه بؤرة سردية وتخييلية للعمل السردي إلى ما يمثله في هذه التجربة السردية من قيمة دلالية نفسية ووجودية وإنسانية كبيرة تجعل المكان بؤرة العالم السردي وفضاءه الذي تتشكل فيه حيوات شخصياته الروائية وأحداثها.
إن استعادة هذا المكان المفقود هو تعبير عن علاقة ارتباط عميقة الجذور وجوديا وروحيا وعاطفيا بهذه الأرض، وإصرار على استعادته عبر المخيلة الثرية لاختراق المسافة بين المنافي السورية الواسعة والوطن المستباح.
لذلك فإن الإلحاح على استحضار المكان السوري بكل دلالاته المعبرة والموحية المختلفة هو تعبير عن رغبة عميقة في وصل ما انقطع في هذه العلاقة التي لم تستطع سنوات المنفى القسري والتشرد أن تحد من قوة هذا الحضور وعمقه في العقل والوجدان السوريين.
من هنا يمكننا إدراك معنى أن يتحول المكان في هذه العنونة المكانية كما في المتن السردي إلى بطل الرواية الحقيقي وعنوانها الدال والموحي، كما يمكننا معرفة الحوافز الواقعية والإدراكية، الشعورية واللاشعورية التي تفرض حضورها على هذه التجارب عند بناء عالمها السردي وشخصياتها الروائية، وهو ما يظهر واضحا في تداخل السيري الذاتي الخاص بالتخييلي وإحالاته الواقعية في أغلب هذه الأعمال السردية.
إن دراسة هذه المهيمنات المكانية على عناوين هذه الأعمال الرئيسة تضعنا أمام الأهمية الخاصة التي تمثلها قراءة هذه العناوين باعتبارها رموزا تنطوي على دلالات بديلة للعمل السردي أو مفتاحا تأويليا وفق تعبير أمبرتو إيكو يهدف إلى ربط القارئ بنسيج النص.
إن هذا الحضور المكثف للمكان هو المعادل الموضوعي لغيابه والتعويض الجمالي والدلالي عن هذا الغياب الذي يراد له أن يستمر كأحد أهداف هذا التشريد المليوني في شتى بقاع الأرض. من هنا تأتي أهمية الحضور الخاص للذاكرة المكانية في تداعياتها وتفاصيلها خلال وصف المكان بكل أبعاده.
إنه الحضور الذي يلغي الغياب عندما تتحول لغة السرد إلى جسر تعبر عليه أشواق الكاتب/الكاتبة وحنينه/ها لاستعادة وجوده دلالة على ما يمثله من قيمة وجودية وإنسانية وروحية يصعب التعويض عنها. لقد تحول المكان في هذه التجربة المفتوحة على شرطها الإنساني والوجودي والروحي المأساوي إلى شكل من أشكال الدفاع عن هويتها وتاريخها وعن وجودها المتعين هناك، الأمر الذي يجعل المكان في هذه الأعمال يشكل نوعا من مقاومة لعمليات الاستلاب والتشريد والمصادرة.
البنية الدلالية واللغوية للعنوان
حاولت الرواية الواقعية عبر تحولات تاريخها الطويل أن تجعل وظيفة المكان هي الإيحاء بواقعية العمل السردي خاصة مع التركيز على استحضار تفاصيله وكل ما يوحي بهذه الواقعية. وعلى الرغم من أن هذا الجانب يحضر بقوة في بنية هذه الأعمال الروائية السورية إلا أنه يتجاوز هذه الوظيفة بما يحمله من دلالات سياسية وثقافية وإنسانية ونفسية يعبر عنها هذا الحضور المكثف للمكان في عناوين هذه الأعمال الرئيسة.
تكتسب دراسة المكان في هذه التّجربة أهمّيتها من كونه بؤرة السرد وفضائه الذي تتكثف فيه معاني التجربة وحمولاتها الروحية والإنسانية والعاطفية، الأمر الذي يجعل العنوان الرئيس في هذه التجربة يشكّل المدخل إلى عوالمها السردية والعلامة الدالة التي تتعين بها.
لذلك فإن قراءة هذه البنية المكانية للعنونة أو بما تحيل عليه تمثل محاولة لاكتناه أبعاد هذه التجربة الإنسانية المروعة وما يتولد عنها ومعها من دلالات تتعدّد بتعدّد التجارب التي يقدمها كل كاتب وكاتبة في هذه الأعمال.
وإذا كان هذا الحضور المكثف للمكان في العنونة يؤسس لهذه العلاقة المتجددة، فإن حضور السيري فيها يعزز عمقها ودلالاتها الوجودية والإنسانية والعاطفية حيث يصبح من المتعذر في كتابة كهذه أن يجري الفصل بين الذاتي الخاص والعام الجمعي من خلال التداخل الحاصل داخل هذه التجربة بين الذاتي الخاص والعام الجمعي. ولمّا كان لا جود للمكان خارج الزمن أو العكس فإن قراءة هذه العنونة المكانية ودلالاتها في بنية السرد الروائي لا يمكن عزلها دلاليا عن زمنها الخاص، سواء ما كان يحيل على الماضي أو الحاضر المستمر طالما أنه يشكل امتدادا لزمن التجربة في تمثلاتها وأشكال تعينها المختلفة كما تفصح عن ذلك مصائر أبطالها المهددين بهذا الوجود والضائعين في متاهات التشرد وأشواقه.
لا تدّعي هذه المقالة أنها تحيط بكل عناوين الأعمال التي صدرت خلال هذا العقد من الزمن والتي أصبح عددها بالمئات، ولذلك ستتوقف عند عدد من هذه العناوين يمكن أن تشكل مدخلا لهذه القراءة بحمولاتها الدلالية الهامة، لاسيما ما يتعلق منها بالدوافع العميقة التي تتولد عنها هذه الدلالات والمعاني على المستويات الوجودية والإنسانية والسياسية أيضا.
إن المعاني التي تنطوي عليها هذه العناوين يمكن أن نختزلها في مستويين اثنين، يتمثل المستوى الأول في محاولة استعادة هذا المكان من خلال المجازفة بالعودة إليه وما تحمله هذه المغامرة من مخاطر كبيرة تتكشف أبعادها المأساوية مع اختراقه حدود هذا المكان وتوغّلها بعيدا فيه، وكأنها في هذه المغامرة تتوغل في عمق المأساة السورية وما تكشف عنه من جرائم يصعب وصفها من قبل سلطة القتل والإجرام المستبدة.
يتّضح كل هذا عبر ما تتعرض له شخصيات الرواية من قهر وتعذيب وقتل يكشف عن حقيقة ما يحدث على هذه الأرض من عنف مهول وجرائم يراد منها أن يفقد المكان في حياة الإنسان السوري تلك القيمة الخاصة من الألفة والشعور بالأمن والطمأنينة تمهيدا ليتحول إلى مكان طارد يعبر عنه الشتات السوري الذي يمتد في الجهات الأربع للعالم.
وفي هذا السياق يمكن اعتبار عنواني روايتي عبدالله مكسور “أيام في بابا عمرو” و”عائد إلى حلب”، ومن ثم عنوان روايته “أبناء البحر” علامات دالة وموحية على هذا الواقع التراجيدي الحزين. كذلك تعد روايات مها حسن “حي الدهشة” و”طبول الحرب” و”مترو حلب” صورة أخرى عن العلاقة بين الهنا والهناك، أو بين زمني التجربة الماضي والحاضر في اشتباكهما وما يحمل ذلك من دلالات تكشف عن صورة الواقع في تحولات زمن التجربة السورية العاصف.
في حين تمثل روايتا شهلا العجيلي “سماء قريبة من بيتي” و”صيف مع العدو” ورواية “مدن اليمام” لابتسام تريسي و”تل الورد” لأسماء معيكل و”خمارة جبرا” لنبيل ملحم و”لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” لخالد خليفة و”زئير الظلال في حدائق زنوبيا” لسليم بركات وأعمال أخرى لنفس الكاتب، ورواية “لا ماء يرويها” لنجاة عبدالصمد ورواية “قميص الليل” لسوسن حسن ورواية “وادي قنديل” لنسرين خوري أمثلة متعددة المعاني تختلف باختلاف زاوية الرؤية في الطرح والمعالجة السورية، لكنها جميعا تظل تهجس بأسئلة ما يحدث على أرض سوريا وما يتولد عن ذلك من عذابات وموت وتحطيم للوجود السوري وتاريخه ماضيا وحاضرا، إضافة إلى ما يشكله ذلك من إدراك حزين لهذه المأساة التي تنفتح على اتساعها وهي تعصف بكل في هذا الوجود.
إن بعض هذه الأعمال وبغية الإيحاء بواقعية السرد تحاول من خلال عناوينها وفضائها المكاني أن تستخدم أسماء واقعية تحيل على أمكنة محددة مثل عنوان رواية مها حسن “مترو حلب” و”رواية المطبخ” لغسان لجباعي و”أيام في باب عمرو” لعبدالله مكسور، في حين تتميز بعض العناوين الأخرى بطابعها الرمزي الموحي. ولما كانت التجربة مفتوحة على منافي العالم الواسعة فإن حركة شخوص الرواية في المكان تظل تتحرك بين أمكنة مختلفة من هذه المنافي وبين الأمكنة السورية التي تنتمي إليها هذه الشخوص في ماضيها الحاضر المستمر.
إن الوقوف عند دلالات هذه العنونة هي محاولة للبحث في التجربة السردية والحكائية السورية الراهنة عن محدداتها ودوافع تكوينها وما تهجس به وتحاول أن تقوله نظرا لما يشكله ذلك من أهمية في فهم دوافعها وقيمها الجمالية والفكرية التي تحاول أن تتمثلها في هذه التجربة، لكن هذه القراءة للمكان في هذه الرواية يحتاج إلى مغامرة أكبر تتناوله في صورته الأوسع بوصفه أحد العناصر الأساسية الفاعلة في هذه التجربة السردية إضافة إلى علاقته العميقة والدالة بشخصيات هذه الروايات وهو ما يجعله خالقا للمعنى داخل الرواية.