العودة إلى الإنسان العاري

السبت 2019/06/01
المرأة ليست المثال الوحيد لذلك المستهلك

يقوم السلوك الإنساني الطبيعي على استهلاك ما ينتفع به الإنسان، وما يشعر باحتياجه إليه، حتى لو كان من باب الرفاهية واللعب، لكنَّ الترويج الذي يعتمد على المغالطة يقع في فخه الأغنياء والفقراء معًا. وهو قادر على استنزاف موارد الأفراد والدول، حتى لو كانت البضائع المعروضة لا نفع لها، أو تأتي بنتيجة سلبية على الإنسان المستهلك. فالترويج يقوم على التضخيم أكثر من تلبية الحاجات الإنسانية للبشرية، وصارت تقاليده المبتكرة تقوم على كيفية التأثير على نقاط الضعف الإنساني، حيث يستطيع المُروِّجون إقناع أنواع من البشر بالرجوع إلى عصر الإنسان العاري.

يمكن لعامل الترويج أن يجعل الإنسان يشتري ما يخالف الذوق الرفيع، من خلال تمرير فكرة أنه أعلى من الذوق الشخصي وأعلى من متطلبات المجتمعات التي تبدو ذات اختيارات ضيقة. ويحتفظ تراثنا الأدبي ببعض ما يمكن تلفيقه من أجل المغالطة في بيع سلعة كاسدة، وأقرب ما يمكن انطباقه على ما أريد قوله، على الرغم من طرافته، هو ما رواه الأصفهاني في “كتاب الأغاني” (ج 3) عن الشاعر المَكِّي والمُغنّي الظريف سعيد الدارمي، الذي كان في أيام عمر بن عبدالعزيز، حيث روى الأصفهاني “أن تاجرًا من أهل الكوفة قدم المدينة بخُمُرٍ، فباعها كلَّها وبقيت السُّود منها، فلم تنفُق، وكان صديقًا للدارمي، فشكا ذاك إليه، وقد كان نسك وترك الغناء وقول الشعر، فقال له: لا تهتم بذلك، فإني سأنفقها لك حتى تبيعها أجمع. ثم قال:

قل للمَليحة في الخِمَارِ الأسودِ

ماذا صنعتِ براهبٍ متعبِّدِ

قد كان شَـمَّر للصلاةِ ثيابَـهُ

حتى وقفتِ له ببابِ المسجدِ

وغنَّى فيه، وغنَّى فيه أيضًا سنان الكاتب [المغنِّي المدني]، وشاع في الناس، فقالوا: قد فتك [أيْ: مَجَنَ] الدارميُّ ورجع عن نسكه. فلم تبقَ في المدينة ظريفةٌ إلا ابتاعت خمارًا أسود، حتى نفد ما كان مع العراقي منها. فلما علم بذلك الدارميُّ رجع إلى نسكه ولزم المسجد”.

تمتد تلك الحيل إلى عصرنا، حيث يكفي أن ترتدي إحدى الفنانات شيئًا من الملابس أو المجوهرات، لتنفد الكمية المطلوب نفادها، حيث تقوم الظريفات بإنجاز ذلك. لكنّ فنون الدعاية الجديدة تتعدّى الظريفات وغيرهن، لأن الثمن المدفوع يمكن أن يجبر خواطر آلاف البشر المحيطين بتلك الظريفات، ومع ذلك فإن من حقها أن ترتدي أغلى الملابس وأكثرها إثارةً للبهجة.

لم تكن المرأة وحدها مثالًا لذلك المستهلك، فإن استهلاك الرجال من أجل أن يتخطوا حواجز الفحولة والصلابة يمكن أن يقيم دولاً كاملة أو يُقعدها.

كنتُ في دولة ما، وصار لي فيها بعض الأصدقاء من المثقفين، وذات يوم اتصل بي أحد الأصدقاء لأكون بجانبه في السوق، لأنه يعلم بأن الخضروات تأتي من مصر، فسألته: وهل شراء خضروات أمر يحتاج مساعدتي؟ فعلمت أن شائعة سرت في السوق سريان النار في الهشيم تفيد بأن (الباميا)، التي تُسمى عند أهل المغرب (ملوخية)، مقوية للجنس عند الرجال، فصار الكيلوجرام في يوم هذه الشائعة يساوي أكثر من (42 دولارًا أميركيا)، وكان من المقرر بيعه، قبل الشائعة، بأقل من دولارين، في حين أنه كان في مصر، الدولة المصدِّرة، يباع بحوالي ربع دولار. فحاولتُ إثناء صديقي عن شرائها في ذلك اليوم، لأن هذه الشائعة لم أعلم بها من قبل، فهي مفيدة كأغذية الإنسان الأخرى، كما أنه شاب وينبغي أن يعيش حياته بشكل طبيعي، واطمأننتُ منه أنه لن يذهب، لكني عرفتُ منه بعد ذلك أنه ذهب تحت ضغط بعض كبار السن، فلا ينبغي لمن في أعمارهم أن يعرف السوق كله مشكلاتهم.

ثقافة الاستهلاك
ثقافة الاستهلاك

لقد اختفت الباميا من الأسواق في ذلك اليوم، ولو كان كل صاحب مشكلة صحية قد ذهب إلى الطبيب وأجرى بعض الفحوصات الطبية لعرف أسباب مشكلاته الصحية، وهي أمور ليست مخجلة ولا تقلل من هيبة المصاب بها، فلا بد لكل مرض من علاج يأتي عن طريق الطب، لأن الطبيب قد يكتشف أسبابًا أخرى غير ما ينشغل به المريض. وكل ذلك لا ينطبق على شعوبنا العربية فقط، فإن حلم كل مشتاق إلى تلك القوة الساحرة، سوف يتبدد أمام كثير من الأدوية وكثير من المخدرات، ليصير العالم أمامه أكثر بؤسًا، حيث يتسرب إلى بعض الثقافات الشعبية كثير من الأفكار حول أهمية بعض المخدرات في مساعدة الإنسان على أداء أفضل، بينما يحتاج الإنسان في الأساس إلى الصحة العامة، والصحة النفسية، والرابطة القوية بين الزوجين، قبل أن يلجأ إلى المصير البائس.

تقوم بعض الدول بالسماح ببيع أدوية الضعف الجنسي، مادامت تلك الأدوية آمنة، ومصحوبة بإرشادات طبية، وتباع في صيدليات يملكها صيادلة، بينما لا تسمح دول أخرى بذلك، ولا دخل لنا مع أهل الاختصاص، فهم الذين يقررون ما يرونه صالحًا. أما الاستغلال الممنهج للشائعات وقلب الحقائق وادعاء أن هناك منتجات طبية صارت فوق مستوى الطب، ويدّعي أصحاب رأس المال الطفيلي أن هناك بحوثًا علميةً أجريت على بعض العقاقير وأثبتت كفاءةً ونجاحًا منقطعي النظير، فذلك سلوك مشين، لا يمكن السكوت عليه، ولا على تلك الإعلانات الطفيلية التي تملأ الشبكة الدولية للمعلومات ومواقع التواصل الاجتماعي، فإنها تباع بلا رقابة طبية، ونجدها دائمًا مصحوبةً بصور لأبطال كمال الأجسام والمصارعين العظام، مع أن هذه الصورة الذهنية مخالفة لأبسط قواعد الصحة النفسية، حيث لا يمكن تصور العلاقات الإنسانية على أنها مباراة مصارعة، لكنها تحتاج إلى تفاهم عميق ومحبة وثقة وتلقائية.

لقد صار بيع الوهم من الأمور المعتادة في حياتنا، ليبدو الرجل أكثر جاذبيةً أمام النساء، وتبدو النساء أكثر جاذبيةً في عيون الرجال، بل يبدو أصحاب الإعلانات الطفيلية كأنهم أمناء، حيث ينصحون بعدم استعمال العطر الجذاب إلا بين الزوجين، وهذا كافٍ لنفاد براميل العطر المحملة بالأوهام الكثيرة، واستبدال أموال الشعوب بها.

لا يمكن أن يحكي لك الطفيليون نهايات أبطال الأفلام الجنسية، كيف انتهت أعمارهم النفسية والصحية قبل الأوان، لأنهم أخذوا كميات كبيرةً من المنشطات والمخدرات، حتى لا يحسوا بأي تعب، وصوّروا عشرات الأفلام التي يبدون فيها كأنهم يغزون العالم. والحقيقة المُرة التي لن يذكروها هي أن من يشاهدهم الناس، بكل سهولة وبصورة تبدو براقة، هم الآن على الأرصفة وفي الشوارع، يندمون على نفاد قواهم في أشهر وجيزة، ولن يستطيعوا الظهور في أفلام جديدة، فقد قضى عليهم مصاصو دماء البشر، ليستطيعوا عرض تلك الأفلام، للحصول على نسبة مشاهدة تتخطّى الملايين، وعرض بعض الإعلانات عن أنواع من المنشطات الجديدة التي أثبتوا فاعليتها عنوةً. مع أن الذي قد ثبتت فاعليته بالفعل هو أن أصحاب رأس المال الطفيلي يمارسون التسويق الطفيلي بطرق يقضون بها على رأس المال البشري وثرواته، ليعود الإنسان المستهلك آلاف السنين إلى الوراء، حيث الإنسان العاري.

شاعر وكاتب من مصر

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.