الغائب الأكبر
يطرح علينا عنوان هذا المقال مناقشة التساؤل التالي: كيف نمارس حرفة علم الاجتماع بعد مضي أكثر من قرن يفصلنا عن المحاولات الأولى لتحديد المسار العلمي والاجتماعي لعلم الاجتماع؟ فلا تزال لغاية اليوم تطرح قضية التزام عالِم الاجتماع المثيرة للجدل تساؤلات عديدة حول ممارسته لعلم الاجتماع وغاياتها. فعلى سبيل المثال يقف معظم علماء الاجتماع على تخوم السياسيين، وعلى مقربة أشدّ مما يظنون من أصحاب القرار. أليس ذلك ينذر بوقوع عالِم الاجتماع ذاته في الشَّرَكِ فيجبر على اتخاذ موقف ما؟ وبالتالي تسييس نتائج بحثه وتوصياته حول دراسة الواقع الاجتماعي.
ما من عالِم اجتماع إلا وتساءل ولو لمرة واحدة حول نفع أعماله، وهَمَّ في لحظة ما، ربما، بالتدخل شخصياً في مناقشات عصره الاجتماعية واتخاذ موقف ما. وهذا يعني أنه ليس بمستطاع عالِم الاجتماع في هذا المعنى أن يبقى منحبساً في برجه العاجي والإمساك عن مناقشة المسائل الاجتماعية والسياسية خاصةً إذا ما كانت تتعلق مباشرةً بالأعمال التي أنجزها ( سيرج بوغام: ممارسة علم الاجتماع، ترجمة: منير السعيداني، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2012، ص 186).
إن المدقق لواقع علم الاجتماع المعاصر يجد أن معظم علماء الاجتماع يدفنون أنفسهم في شقوق المعرفة الضيقة، إلا أن علم الاجتماع النقدي (Critical Sociology) يحاول وبكل جرأة وشجاعة أن يتحمل الإجابة عن الأسئلة الكبيرة المسكوت عنها من قبل علماء اجتماع السلطة الذين يحاولون مراراً وتكراراً أن يطفئوا الشعلة النقدية لعلم الاجتماع المدافع عن حقوق السواد الأعظم من أفراد المجتمع ومصالحهم.
والدليل على ذلك أن علم الاجتماع النقدي يقدم الندوات المتعمقة والمقالات الصعبة حول القضايا الراهنة بهدف تقديم إجابة عقلانية عمّا يدور في الواقع السياسي والاقتصادي وآثارهما على الحياة الاجتماعية. كما أنه يقدم البدائل الممكنة للنظام الاجتماعي القائم الذي لا يهتم إلا بإرضاء مصالحه الخاصة حتى لو كانت على حساب مصالح الآخرين.
تدور الأزمة الحالية في مهنة علم الاجتماع، حسب جورج غورفيتش (1894 – 1965) حول العديد من الصعوبات أو العوائق التي ليست كلها معرفية، ولكنها سياسية ومؤسسية بشكل أساسي. يتعلق منها بالأزمة العميقة للمنظورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات المعاصرة ذات الرؤية المحافظة المتحالفة مع كل أشكال السلطة، أي أنهم إصلاحيون بلا إصلاحات. وبالتالي فإن حالة الانسداد الأيديولوجي، والتوافق الواقعي، والفكر المنفرد هي التي تشكل السياق الاجتماعي لجميع النصوص الاجتماعية.
يواجه جميع علماء الاجتماع اليوم، بغض النظر عن النماذج النظرية ومواقفهم السياسية، هذا الوضع. البعض يعتاد عليها بسهولة، والبعض الآخر يستنكرها، لكن الكل يضطر إلى الاندماج في تحليلاتهم في إطار هذه السلعة (أحادية البعد)
ويفسّر هربرت ماركيوز (1898 – 1979) هذا الوضع من خلال ممارسات المجتمع الصناعي المتقدم الذي استطاع وبكل براعة أن يفرّغ المجتمع من كل أشكال النقد، بهدف السيطرة عليه وتطوعيه في خدمة تحقيق أهدافه وغاياته المتمثلة بالسيطرة والتسلط على الإنسان والطبيعة. فوسائل الاتصال الجماهيري المحصنة بالتكنولوجيا التي يمتلكها هذا المجتمع على سبيل المثال لا تجد أيّ عناء يذكر في تحويل المصالح الخاصة إلى مصالح تهمّ كل أفراد المجتمع من ذوي الحس السليم، حيث يبدو كل شيء عقلانيا ولا يشوبه أيّ تناقض أو خلل. بذلك قدم المجتمع الصناعي المتقدم لأفراده مبررات منطقية للقضاء على أشكال النقد، من خلال التقدم التفني الذي يرسخ دعائم كاملة من السيطرة والتنسيق (حسام الدين فياض: تطور الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر، دار كريتار، إسطنبول، ط1، 2020، ص 164).
بذلك تُشكل هذه “المعتقدات الإجبارية” الإطار الفريد والشامل إن لم يكن تجربة استبدادية. إنها بالفعل تجربة لنظام عالمي أناني وفريد من المفترض أن يكون غير قابل للتغيير ليفرض في نهاية المطاف معاييره وقيمه وأطره الواضحة.
في هذا السياق نرى أن تجربة ماركس واضحة من خلال الأيديولوجية الألمانية، التي كانت تعتبر الأيقونة الروحية للواقع الألماني، حيث يمكن للمرء أن يفكّر بشكل أعم أن كل التكوين النظري يقوم على التكوين الاجتماعي وأن تطورات علم الاجتماع لا يمكن فهمها إلا من خلال فهم تطورات وأحداث السياق الاجتماعي وتفاعلاته العالمية. هذا الافتراض، الذي يبدو منطقياً، يعني أن هناك عواقب معرفية مترتبة ذات سمة حاسمة.
إن الصعوبة الرئيسية التي تواجه كل المنطق الاجتماعي الحاسم اليوم – سواء كان عالمياً أو محلياً – هي في واقع الأمر غياب هذا المنظور أو المشروع أو الأفق أو الإسقاط. ومع ذلك، كما أظهر جان بول سارتر (1905 – 1980)، أن الإنسان هو أول كائن يخطط نفسه للمستقبل وأنه صاحب تفكير وحرية إرادة واختيار ولا يحتاج إلى موجه (حسام الدين فياض: رؤية الوجودية المعاصرة للإنسان والواقع الاجتماعي، المجلة العربية للنشر العلمي، عمان، العدد 29، 2021، ص 672)، مما يعد الشرط الأول لاحتمال وجود علم اجتماع نقدي، وهو بالتالي وجود حركات اجتماعية راديكالية، وبدائل سياسية ذات مصداقية، وتدخلات احتجاجية فعالة على الأرض، كما رأينا في احتجاجات اليسار الجديد (الحركة الطلابية عام 1968، والحركات الاجتماعية عام 1995 في فرنسا المناهضة للعولمة، وآخرها احتجاجات السترات الصفراء عام 2018). فإذا كانت الماركسية الرسمية (التقليدية) منذ فترة طويلة مصدر إلهام أو مصاحبة لعلم الاجتماع، فإن تحجرها العقائدي وتشويه سمعتها المرتبط بإفلاس الستالينية والماوية والنقدية قد شكك في جميع القصص الكبيرة ذات الطابع التحرري. الآن، ومع هذه الأطروحة نرى أنها تستحق أن يتم تطويرها بالكامل من حيث طابعها النقدي وليس العقائدي والأيديولوجي.
فقد رافق علم الاجتماع دائماً، بشكل مباشر أو غير مباشر، الاشتراكية أو الليبرالية، والحركات السياسية التقدمية أو المحافظة، أو الفلسفات الاجتماعية الإدارية أو الطوباوية، أو الإصلاحات أو الثورات. لذلك، سيكون من المثير للاهتمام للغاية، في إطار علم الاجتماع، دراسة العلاقات الصريحة أو الضمنية للإنتاج السوسيولوجي مع ذرائعها، وسياقاتها، وأوامرها، وعروضها للاستئناف، وإعاناتها، والحوافز التي تشارك في نهاية المطاف في الوضع السياسي. لذا فإن الشرط الأول لإمكانية علم الاجتماع النقدي هو ببساطة شديدة إمكانية وجود سياسة نقدية لأنه، سواء أحببنا ذلك أم لا، “يتخذ جميع علماء الاجتماع خيارات أخلاقية وسياسية، أو يشيرون إليها ضمنياً” حسب رايت ميلز ( C. Wright Mills1916 – 1962) حتى في احتجاجاتهم غير السياسية. (لمزيد من الاطلاع انظر: سي. رايت ميلز: الخيال السوسيولوجي، ترجمة: صالح جواد الكاظم، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، 1987).
أما الآن إذا أردنا في مجال علم اجتماع رسم نوع من الخرائط للمواقف السياسية العالمية لعلماء الاجتماع المختلفين، وفقاً لتخصصاتهم وأجيالهم والانتماءات المؤسسية وتقاليدهم أو مرجعياتهم المعرفية، يمكن للمرء أن يثبت بلا شك بعض الأنواع المثيرة للاهتمام. يمكننا أولاً التمييز بين علماء الاجتماع الجامعيين (الموظفين المدنيين الدائمين أو غير الدائمين)، وعلماء الاجتماع غير الجامعيين (الشركات، المؤسسات الخاصة أو العامة، المستقلين). ليس لديهم جميعاً نفس الأمن الوظيفي ونفس التزامات النتائج ونفس إجراءات المكافأة والتقييم ونفس موضوعات البحث وطرائقه ونفس الروح ولاسيما نفس الاهتمام بالمعرفة.
يمكننا بعد ذلك التمييز بين علماء الاجتماع في الحقل الأكاديمي وعلماء اجتماع المجتمع. في حين أن علماء الاجتماع في المجتمع يهتمون بشكل خاص بتفردات اللحظة: الأزمات والعنف والأزياء والتغيرات في العادات والظواهر الجماعية والتكنولوجية الجديدة، وما إلى ذلك، فإن علماء الاجتماع الأكاديمي – في كثير من الأحيان – يدرسون تاريخ علم الاجتماع ومنظريه وظروف الاحتمال العلمي ومواضيعه القانونية وحدوده التأديبية ومنهجيّاته وما إلى ذلك.
وقد أكسبنا الحقل السابق، تراثا أكاديميا نظريا وقواميس سوسيولوجية تتصف بأنها مغلقة إلى حد ما أو أكثر أو أقل سكونية، ولكن قبل كل شيء تشكل مجموعة من الملخصات وكتيبات التعميم النظري والميداني للبدء بالعمل من خلال دراسة الواقع الاجتماعي.
تحاول هذه التركيبات الجامعية البسيطة أن تبسّط وبشكل فظيع تعقيدات القضايا الاجتماعية والمواضيع والمنطق السائد ولكن لصالح من؟ كما أنهم قبل كل شيء ينقلون بعض الدعاوى والأحكام المسبقة التي لا يتم التشكيك فيها مطلقاً في وضوحهم المفترض أو المطابقة القانونية المقبولة، وهو ما يستبعد في كثير من الأحيان بشكل صريح الموقف النقدي.
يصنّف علم الاجتماع النقدي المؤمن بالتعددية المعرفية أن هناك في الساحة الأكاديمية لعلم الاجتماع المعاصر عدة أنواع رئيسية من علم الاجتماع تتعارض مصالح المعرفة والمصالح المؤسسية في كثير من الأحيان. يدّعي علم الاجتماع المؤسساتي، المكرس من قبل السلطات العامة والهيئات الأكاديمية، أنه علم الاجتماع العلمي الوحيد. في كثير من الأحيان يموّل من قبل المؤسسات الاقتصادية الربحية التي تسعى إلى دمجه بشكل عام في المنظمات البحثية الكبيرة تتمتع بإمكانات لا محدودة من إصدار المجلات وإقامة المختبرات السوسيولوجية التي تدار من طرف الشركات العملاقة في مجالات مختلفة ذات صلة مباشر بالواقع الاجتماعي، ودور علم الاجتماع المؤسسي في هذا السياق ينحصر في تقديم خدماته للمحافظة على مكاسب الوضع الراهن لزيادة مكاسب هذه الشركات. أما النوع الثاني علم اجتماع المستشارين (المرجعيات السوسيولوجية)، غالباً ما ينحصر تنظيره السوسيولوجي في الإدارات أو الشركات لتقديم المساعدة في صنع القرار (سياسة المدينة، على سبيل المثال) أو إضفاء الشرعية على الخطابات السياسية الديمقراطية، المواطنة، الحرية، التعددية. لم يعد أكثر الحداثيين في علم الاجتماع السائد يترددون في التعاون مباشرة مع أصحاب العمل أو التحدث في الندوات والنقاشات حول ثقافة الحكومة، والبعد الإنساني للأعمال، وأخلاقيات المسؤولية، والتنمية دائم… إلخ.
وينحصر النوع الثالث من علم الاجتماع وهو علم الاجتماع المعاكس للمؤسسات، بشكل عام خارج المؤسسات الكبيرة أو على هوامشها، مع استثناء محتمل من الجامعة، هو علم الاجتماع المتجوّل من حيث أنه يتجول بحرية وشاعرية في مناطق غير مزدحمة وحقول غير مميزة. مواضيعها البحثية، غالباً ما تكون غير عادية، وتتجاوز مناهجها غير التقليدية الأطر القياسية، لكنها تتمتع بقوة تجديد كبيرة على الانضباط وتشكل بلا شك خلاصة العديد من النتاج السوسيولوجي الرصين.
وأخيراً علم الاجتماع المناهض لمؤسسات الهيمنة هو علم اجتماع يحلل بشكل نقدي، من خلال تحديهم، مؤسسات الهيمنة السائدة والمنطق المرئي أو غير المرئي للاغتراب الاجتماعي: الاستنساخ المدرسي، المؤسسات الشمولية، عدم المساواة في مواجهة الموت، الاستبعادات والتهميش الاجتماعي، الاستيلاء على الموارد، ومراقبة مؤشرات العدالة الاجتماعية… إلخ. وبالتالي فإنه يعمم النقد من خلال دمج النقد الجزئي في النقد الشامل للنظام الاجتماعي العالمي، فليس ذلك في معنى الاحتجاج المتحزب أو المناضل، بل في معنى كشف الآليات غير المرئية وغير الواعية الفاعلة في مجتمع ما. كما يجب على عالِم الاجتماع النقدي وفق افتراضات المجال حسب عالم الاجتماع الأميركي النقدي ألفن جولدنر (1920 – 1980) ألاّ يكتفي بالمسرح والديكور بل يجب عليه الدخول إلى الكواليس بغية فهم أفضل لأطر التجربة الإنسانية – الاجتماعية ومسببات الفعل الاجتماعي الذي يحمل معانٍ ذاتية تجاه الآخرين( سيرج بوغام: ممارسة علم الاجتماع، مرجع سبق ذكره، ص: 226).
وفي الختام نجد أن أحد أهم أبعاد علم الاجتماع النقدي هو التحليل الجاد غير المجامل للأعراف والأفكار المسبقة والممارسات السياسية والثقافية والاجتماعية لعلماء الاجتماع. وفي هذا السياق يرى ماركس أننا نحكم على شخص ما ليس بما يقوله أو يكتبه، بل بما يفعله. ومعنى ذلك أنه لا وجود لعلم الاجتماع النقدي بسبب ضيق مساحة الوجود النقدي. من المستفيد؟ تعرف من صاحب المصلحة؟