الغنى المبتذل
في مقال له بمجلة “ذا نيو ريببلك”، التي تحظى بمكانة خاصة بين النخبة السياسية والثقافية الأميركية، وصفه مارك ستيفنز بـ”فنان منحط لم يساعده نقص مخيلته إلا في تسخيف وطلينة (جعله إطالياً) مواضيعه والبيئة التي يعمل فيها.. إنه أحد أولئك الذين يخدمون الغنى المبتذل”.
أما الناقد مايكل كميلمان فقال عنه، في مقال نشر في “نيويورك تايمز″، لديه “توق مثير للشفقة في تسويق النفس وتجميلها في إثارة تعكس أسوأ ما في الثمانينات”. ووصم أعماله بـ”المصطنعة والرخيصة والساخرة دون خجل”.
وكتب روبرت هيوز عنه بأنه “صورة مضخمة ومغرورة للنفاق المتعلق بالربح. فهو يعتقد أنه مايكل أنجلو، وليس خجولاً من قول ذلك. والأمر الأهم هو اعتقاد جامعي الأعمال الفنية، وخاصة في أميركا، بذلك أيضاً”.
وصنف هيوز في مقاله الفنان بمرتبة قبل سيوارد جونسون، واصفا المقارنة بينهما بمحاولة مناقشة “فضائل براز كلب مقابل براز قطة”.
النقاد الثلاثة تحدثوا عن فنان أميركي واحد هو جيف كونز، الذي بيعت منحوتة له بسعر ناهز 91 مليون دولار، خلال مزاد أقامته دار “كريستيز″ خلال شهر مايو 2019 في نيويورك، سجّل خلاله الرقم القياسي لأغلى عمل لفنّان حيّ.
ويحظى النقاد السابقون بمكانة مميزة في عالم النقد الفني، فروبرت هيوز قدم لهيئة الإذاعة البريطانية السلسلة التلفزيونية الشهيرة “صدمة الجديد”، والتي تعرض لمحات عن تطور الفن عبر التاريخ.
ووصفته صحيفة “نيويورك تايمز″ الأميركية بأنه الناقد الفني الأكثر شهرة على مستوى العالم.
مقابل هذا النظرة السلبية والنقد اللاذع للفنان كونز، هناك بين النقاد من أطنب في وصف قدراته الإبداعية، فقد وصفت الناقدة إيمي ديمبسي عمله بـ”كيان رائع.. نصب ضخم ثابت”. ووصفه جيري سالتز في “أرت. نت” بـ”مبهر للأبصار”.
وبالنسبة إلى أليكس روتر، رئيس قسم فنون ما بعد الحرب والفنّ المعاصر في “كريستيز″، “تعدّ منحوتة رابيت أهمّ عمل لجيف كونز″.
وتابع مؤكدا في تصريحات للصحفيين “يمكنني حتّى القول إنّها أهم منحوتة صنعت في النصف الثاني من القرن العشرين”.
والمنحوتة هي تمثال لامع يجسد أرنبا ضخما بلا ملامح وجه، ويمسك بجزرة، وهو الثاني ضمن مجموعة من ثلاثة أعمال أنجزها كونز عام 1986.
ويعدّ هذا السعر القياسي رقما جديدا يُحسب لكونز الذي طالما أثارت أعماله نقاشات محمومة حول القيمة الفنّية والسوقية لتحفة ما، وذلك منذ أن برز نجمه في ثمانينات القرن العشرين.
وخلال المزاد الذي نظمّته “كريستيز″ في نيويورك، بيعت أيضا لوحة “بافالو 2″ (1964)، للرسام الأميركي روبرت راوشنبرغ، الذي يعدّ من الروّاد الطليعيين في تيار “بوب آرت” والذي توفّي سنة 2008. وحصدت لوحته هذه مبلغا قياسيا لأعماله وصل إلى حدود 89 مليون دولار.
ماذا حصل، هل هناك خطأ ما..
تاريخ الفن يقدم لنا دائما هذا التناقض الصارخ في تقييم العمل الفني، لم يتفق النقاد يوما على تقييم فنان، وهناك الكثير من الأمثلة التي يمكن أن تساق على ذلك، الأعمال الانطباعية في بدايتها كانت مرفوضة، وكذلك أعمال الفنانين من أتباع المدرسة الوحشية.
اليوم يعتبر رواد هذه المدرسة هم من أسّس لثورة ضد أساليب التعليم المتحجرة في الأكاديميات، ومن أشهر مؤسسيها هنري ماتيس ومعه مجموعة من الفنانين منهم جورج رووه وراؤول دوفي وموريس فلمنج، وأكدت هذه الحركة الألوان الصارمة، وأبرزت الحدود الخارجية للأجسام المرسومة، وحرّفت في المظهر الطبيعي لصالح الانفعالات.
الجدل حول قيمة العمل الفني الجمالية أصبح اليوم مرفوضا، فكلمة جمال مضللة، ونحن لم نعد نقف أمام العمل الفني للحكم عليه جماليا.
تسعون بالمئة من زوار متحف اللوفر في باريس يأتون لمشاهدة لوحة الفنان الايطالي الشهير ليوناردو دافنشي “الموناليزا”. خلال عام 2018، وقف أمامها أكثر من 9 مليون شخص حاول معظمهم التقاط سيلفي معها.
وتحت لوح سميك من الزجاج المضاد للرصاص، تبدو الموناليزا، اللوحة التي يبلغ قياسها 77 سنتيمترا طولا و53 سنتيمترا عرضا، والتي تم رسمها الفنان الايطالي الشهير ليوناردو دافنشي عام 1503، صغيرة وضئيلة بصورة هزلية.
يتحرك أمام الموناليزا سائحون أثرياء، صينيون وأميركيون ويابانيون بين حشود من مختلف الجنسيات. ولكن قليل من الزائرين هم الذين يكترثون لقضاء وقت في التمعن في الصورة عن قرب.
لماذا يكلّف ملايين الأشخاص أنفسهم عناء السفر ونفقاته لرؤية عمل فني لا يكترثون لقيمته الجمالية.
لنتخيل أن الموناليزا عرضت في مزاد علني، ما هو الثمن الذي ستحققه. بالتأكيد سيكون مبلغا سيصعب على الكثير تخيله، وليست مبالغة أن نقول إن المبلغ سيتجاوز ميزانيات دول صغيرة عديدة.
دول في حوض البحر الأبيض المتوسط، تجتهد لجذب 9 مليون سائح سنويا، الأمر الذي تنجزه لوحة صغيرة معلقة في قاعة كبيرة خلف قفص زجاجي.. إنها ثروة قومية فعلا.
لم تكشف دار “كريستيز″ عن الشاري الذي دفع هذا الرقم القياسي لاقتناء العمل، ولكن ووفقا لصحيفة “نيويورك تايمز″، فقد قام تاجر الأعمال الفنية، روبرت منوشين، والد وزير الخزانة الأميركي، ستيفن منوشين، بشراء التمثال.
ورداً على سؤال وجه لجيف حول أهمية كون العمل مشهوراً، أجاب “هناك فرق بين كونه مشهوراً وكونه ذا مغزى. أهتم بمغزى عملي، بأيّ أمر يغني حياتنا ويجعلها أرحب، غير أني غير مهتم بالشهرة من أجل الشهرة”.
عن أي مغزى يتحدث جيف.. إنها الشهرة، القيمة المضافة التي يسبغها تجار الفن على العمل الفني.
المبلغ الضخم بالنسبة إلى تاجر الأعمال الفنية والضجة الإعلامية التي رافقته هما جزء من قيمة فنية مضافة يدركها رجال الأعمال، أما النقاد والفنانون فقد نجدهم يوما بين الحشود يصطفون لالتقاط سيلفي مع موناليزا جيف كونز الجديدة.