الفاضل الجعايبي ومسرحيته "مارتير"
"لقد سفك الدم قبل اليوم، في العصور الغابرة، قبل أن تبرئ
الشرائع الإنسانية المجتمع
ومنذ ذلك الحين أيضا
اقترفت جرائم أرعب من أن تسمعها أذن" (مكبث).
في مقاومة التيه.. يتشبث الفاضل الجعايبي ببوصلة السؤال جدلا عن طريق النفي، ونفي النفي ليرسم محيط السؤال هندسيا جدليا، ثم يدخل بمرح ومرونة ليصنع بيّنة المسرحية. فيبدأ الطريق مجددا بروح أخرى وفق قواعد اللعبة المتغيرة في الآن الخاص بها والهنا المتجذرة دائما، نحو الهاجس التونسي الذي يدافع عليه وعلى ذكائه الذي لا يسقط أبدا.
يخاف الفاضل الجعايبي على المسرح من القفر المادي والذوقي ليشجع مسرحه دائما على الدفاع عن اللذة الخالصة بالفعل أولا وبالفرجة المفكرة أخيرا.
شاهد المتفرج التونسي لحظات مسرح الفاضل الجعايبي وجليلة بكار لترسخ في الذاكرة كل الصفعات الجمالية الصارخة والمتفجرة لليقين والثوابت ليهتز عرش المتفرج ضد خموله ونرجسيته التائهة.
تنزل الشخصية المسرحية في مسرحه من الرهان المتأصل لطبيعة كل سؤال تحمله الشخصيات فتنشأ الكتابة عنده بحثا متواصلا وشاقا دون رحمة ليجعل منها شخصية كونية في فضائها المادي ومستغرقة في واقعها المرعب لتتسلل نحو اللعب بلحظات وجودها المستمرة لنراها ونشاهدها أمامنا تصرخ بضرورة البقاء على أهبة الاستعداد للحرب ضد المريح والممكن والمجهول.
يقول هاملت الشكسبيري المعذب:
“إن كنت احتويتني في قلبك يوما..
غيب النفس عن هناءتها ردحا..
وفي عالم الجور هذا
استل أنفاسك ألما لتروي قصتي”.
يحدد شكسبير زمن ولادة الشخصية القصة أي في عالم الظلم والطغيان ليروي الفاضل الجعايبي قصة الشخصية التونسية من خلال الفواجع التي عاشتها ولا تزال تعيشها لنشاهد شخصية “نون” الرافضة لسلطة الأب والزعيم والمنقذ بكل الجنون الذي ارتبط بأبجديات الخطأ المجتمعي المغرق في التطرف واللامبالاة.
يحتوي الجعايبي شخصياته في قلبه الجريح وعقله المتيقظ والمحمل لخطوط المعرفة المسرحية الكبيرة الذي صاغ جمالياتها داخل اللغة الحية وما تحمله من شيفرات تونسية دقيقة فيحول هوس الخطاب الفكري العقلاني إلى سيرورة فنية تتجدد دائما من داخلها لتستبطن اللغة الركح بكل صعوبته الجامحة.
تشهد العملية التوليفية المسرحية عند الجعايبي فصولا متجددة دائمة فنرى اللوحات المسرحية متغيرة الألوان والأشكال في نقاش كوني مع المعنى الإنساني ضد النسيان فيرى الجعايبي أن أفق الفعل المسرحي هو تمرين ضد الموت لتواجه الجمالية التي يعتمدها السقوط الأخلاقي للإنسان في تسريع موته ضد نفسه وضد أفق وجود ممكن.
تفتكّ مسرحيات الفاضل الجعايبي الحرية كفضاء خاص للتعبير عن الرائع المرعب الذي يحسن دائما استخراجه من بوابة الفناء فاللحظة المسرحية رغم أنها فانية إلا أنها تنتهي وتبدأ من جديد لتنشأ داخل كيان الحرية، ففي زمن الاستبداد السياسي وهو ليس ببعيد جدا قرر الفاضل الجعايبي أن يكون تحت نظام القمع تونسيا مواطنيا لكن داخل جدران المسرح هو خالق الكيان الحرّ فواجه بمسرحه كليّة النظام بمرافقة تاريخية ليقوم بأركيولوجيا التاريخ السياسي التونسي في مسرحية “خمسون” فواجه هذا التاريخ المهول المليء بالهزيمة والخسران والتعذيب والتضحيات والنضالات الممتدة بين جدران السجون الضيقة إلى السجن الكبير.
واجهت “خمسون” النص القرآني وفككته عن طريق شخوصها المرتدة بين الفكر التقدمي المتنور والفكر الديني المتشبث بظلامه التاريخي الذي ارتبط في رحلته بالدم.
“حكايتنا صارت في بلاد آمن” من داخل هذا التعريف المطلق في أوّل النص شاهدنا الحكاية أي ما حدث في الرحلة من المتخيل إلى الكائن المسرحي لنرى خمسين سنة مرت من تاريخ “النحن” فتشقى الروح المتفرجة من هول ما حدث لنواجه أهوال السلطة الغاشمة على كل نفس حرة.
تشابكت اللحظة الثلاثية المسرحية لترتبط عضويا بواقع البلد السياسي فالفاضل الجعايبي لا ينسج مسرحا خارج دائرة القلق الحقيقي حول مصير التونسي وحربه ضد كل أشكال الوهن النفسي الذي جعل من التونسي مرتهنا للقيد السياسي السلطوي.
حمل مسرح الفاضل الجعايبي صفة التنبؤية السياسية ليستبشر بما سيحدث لكن هذا التمشي يعود إلى تفكر عقلاني مع الأحداث المتخيلة دون الغرق في واقعية جافة بل دائما ما يعول على المتخيل المهول القصووي ليؤكد له الواقع التاريخي للحظة السياسية أنه على صراط بنيوي مبين يجادل اللحظة بدقة محترفة فهو قد احترف تفاصيل تونس ليراها بحلم ممكن لا يزال يبحث عنه في دماء من سقطوا وفي توحش القتلة.
يأتي العنف كلحظة جارفة استعاد فيها الفاضل الجعايبي عقله الشجاع وفطنته بالخراب القادم فكانت العنف مسرحية شكسبيرية الرعب الرائع وتفكيكية لمسارب التوحش التي تواطأت مع التطبيع والتعود على فعل القتل وجعله خبرا بسيطا يمر ونستأنسه مثل إشهار الياغورت.
“إن الرائع، حتى في شططه، إنما يظلّ على قياس الإنسان” (دريدا).
لا يقدم الفاضل الجعايبي فعله المسرحي إلا عندما يواجه الخراب القادم لا محالة وحده ليعيد ترتيب معاوله ورؤاه لما سيقدم بخوف وقلق رهيبين من المسرح ذاته ومن مدى أهليته ليقول ويخاطب ويلون ويصور ليؤسس فكرته المسرحية ويقدمها كلحظة ولادة بركانية.
يحترم الفاضل الجعايبي عقل متفرجه، لا يسخر منه ولا يتركه هنيئا بل يقاومه ويقاوم حالة التيه التي تستحوذه ليصوّب رصاصة الحقيقة في مكانها الدائري وفي نقطة اللقاء بين البداية والنهاية.
تبنى حركة الممثل في الفضاء المتغير على شططها الغريب لكنها في ذاتها اعتماد لإمكانية الإنسان – الممثل في تقنية توظيف هذه الحركة التي تتجذر من بواطن الخطاطة الدرامية فترى الممثل مع الفاضل الجعايبي في حالة استبطان معتّق للشخصية المسرحية ترتد بين الدهشة واليقين بما حدث ركحيا – دراميا.
تتجدد حالة الدهشة في فن الممثل مع كل لحظة إيقاعية داخل الصمت والحركة وهنا تكون “علة الشعور بالرعب المريع” على حد عبارة الفيلسوف الانجليزي إدموند بوركا الذي يقوّمها الجعايبي في تمارين البحث والتمحيص حول أداء تمثيلي يحمل موازنات الفكرة – الجستوس في تأصيلها البريشتي بين الحركة السالبة لتتحول إلى حركة ممثل إبداعية يمتزج فيها الغريب بالفعل اللامتعدي.
من خلال نبض هذا المسار الفني المتقن تفتح الأضواء لنرى ما حدث.
مسرحية “مارتير” والمدينة
اقتسمت المدينة مع العالم الوباء ليتغير نبضها الخاص من الحياة إلى موت سريري نحو بداية نهاية شيء ما. لكن لم يغادر شوارع المدينة الإحساس المبيت بالغضب مع شبه حزن لخسارة ما مع خليط ممزوج بالحسرة واليأس وثمالة الفجر مع خيوط الشمس الرمادية.
تستقبل المدينة الليليين والنهاريين في نفس الوقت الوبائي، لم يعد الفارق بينهما جغرافيا بل أصبح متقاربا عند الغروب.
عاشت المدينة على وقع الثورة وما بعد حين من الثورة، وكانت الحصيلة الكثير من الدماء مع الصراخ المدوي الذي اختطفته النسائم المهزومة والخائبة، مرّ بها طيف الظلمة المخيف مرتديا عباءته اللامرئية ليحصد الروح المطلق في أزل المدينة.
يعود إلى ذهن المدينة سؤال جليلة بكار حول العصافير وبائعي الورد الذين لم تعدهم الثورة بعد إلى الشارع السردي.
لا ينقذ المدينة سوى المسرح لما يخلقه من حيوات أخرى ممكنة تجعل منها مدينة بأصالة إغريقية. لم يخن الفاضل الجعايبي عهد المدينة ليجدّد موعده معها مسرحيا ويستقبلها بتحية ملكية رغم شرورها السابقة له لكنه يجعل من هذا اللقاء مع المدينة مثل مشهد شكسبيري فتسأله المدينة على لسان ساحراتها (مكبث) “متى نلتقي نحن الثلاث في رعود وبروق وأمطار كاللهاث؟” يجيبها الجعايبي.
“حين يكف الهرج والمرج رعبا
ويمسي القتال خسرانا وكسبا”.
يعلن الفاضل الجعايبي بداية مسرحية “مارتير” لينتصر للمسرح ضد الوباء والهزائم والفراغ.
التقت مسرحية “مارتير” نصا بلحظة أخرى ألمانية المنشأ ليسرد المسرحي الجريمة المجترحة من كونية الحدث أي اللحظة الدينية عندما تتحول إلى لحظة دموية ليتخلص النص الديني من طهريته ليصبح سلاحا خطيرا على سؤال من خلق الإله؟
يعتبر تعامل الجعايبي مع نص ألماني معاصر مغامرة متجددة يخوضها مع أصدقائه الجدد وهم نتاج تكوين لمدرسة الممثل بالمسرح الوطني ليراهن الجعايبي على أفق طاقة جديدة بمقترحات تحمل جمالية أخرى داخل تجربته المسرحية فنرى “مارتير” على جل مستوياتها التأليفية خارطة مختلفة عما سبق في طريق الجعايبي المسرحي والإنساني.
ما يحدث في مدينة ألمانية نراه حدثا متحولا في مدينتنا عن طريق الاقتباس للنص الأصلي الذي تم الاشتغال عليه كثيرا فقد تم تحويل وجهة النص إلى تفاصيل اللقاء الغريب في بنية الحدث وشموليته الثقافية رغم اختلافها مع الحفاظ على السؤال الموجه للديانة المسيحية ولقائها مع الديانة الإسلامية كمراوحة تاريخية لتيمة العنف بينهما.
تحول النص اقتباسا حسب الفاضل الجعايبي لأنه لم يحافظ على خطاطته الأصلية بل وضعه تحت محك السؤال في بدايته ووسطه ونهايته ليقر الجعايبي أثناء تواصله مع الكاتب الأصلي لمسرحية “ماريتير” ماريوس فون ماينبرغ أنه قام بتحولات كبرى في لحظات المسرحية خاصة على مستوى الفضاء ولحظة النهاية ليستغرب الكاتب الأصلي من تغييرات الفاضل الجعايبي التي دحضت النهاية الأخلاقية التي تم اعتمادها في النص الأصلي فيرهب من قراءة الجعايبي لهذه النهاية ليرجعها إلى قتامتها الأصلية فتصبح النهاية قاتلة باعتماد فعل القتل إلى النهاية.
جاءت هذه العملية الاقتباسية للنص الألماني هوميروسية الأصل داخل سردية الصراع الأول للبطل التراجيدي مع الآلهة بغاية تحصين الإنسان من سيطرة الآلهة لكنه على حد توصيف الفيلسوف لوجان بأن هوميروس “خلّد تعاسة الآلهة” كذكرى حقيقية لبداية الحصانة التراجيدية للمواطن من كل حدث ميتافيزيقي يمكن أن يضع نهاية للعقل السياسي.
من أثينا إلى ألمانيا إلى تونس تظل حركة التاريخ منضبطة لدويّ السقوط التراجيدي فكل مدينة عاشت على وطأة الديني السياسي إيقاعا دمويا خلّف رهابا قصريا من النصوص التوحيدية فتاريخ التنوير منذ اللحظة الكانطية شرع في ضبط الديني عن المدينة وهنا يسترجع الجعايبي اقتباسا لنص “مارتير” لقاء كوني لحدث واحد يشمل حدتي السلاح بين الإنساني – الديني.
هنا نتذكر عودة برتولد بريشت لنص أنتيغون اليوناني والتحولات التي قام بها فجعل الشخصية التراجيدية تقاوم الفاشية السياسية التي عاشت ألمانيا على وقعها ومن هذا المنطلق صارت أنتيغون بريشت بروح عصره وسرديته الخاصة، بنزوع المقاومة ضد التيه، يقينا منه أن اللحظة الإغريقية ستظل درس الإنسانية الأول وهو ما احتفظت به الماركسية كدليل لجمالية خارج الصراع الطبقي لتدخل في ذات الصراع السياسي الأزلي فالفعل المسرحي تاريخيا مترابط في دلالات القيمة رغم التاريخ وخطوط الخارطة الجغرافية المتجددة حسب مقتضيات الاستعمار وما بعد الاستعمار.
“مارتير” المسرحية
يغادر الإنسان في المرحلة الطفولية الأولى فضاءه المريح أي منزله الصغير ليذهب إلى الفضاء الخارجي فإما أن يقاوم ليثبت أو يتلاشى داخل زحام الآخر فينتهي.
تعود مسرحية “مارتير” إلى بداية الطريق إلى الخارج فيكون الفضاء المحوري لمسرحية “مارتير” المدرسة.
تستقبل المدرسة الإنسان في فترته الحرجة التي تتميز بالاكتشاف وهي مراهقته الفكرية والجنسية والاجتماعية ليكتب دليل وجوده.
يدخل شاب يستمع إلى موسيقى وحيدا ونقتسم معه موسيقاه خلسة فننتظر ما يحدث في صمت رهيب.
نعيش في مسرحية “مارتير” إيقاعا متحررا، مختلفا، منفجرا وساكنا.
يأتي التلاميذ بصراخهم ليكتسحوا الفضاء الفارغ فيتحول الفضاء في مسرحية “مارتير” من العدم إلى الحياة عن طريق أجساد متيقظة وألوان متداخلة وبأشكال العنف التي يحملها الجسد الإنساني في مراحله المتهورة.
يعود السؤال مجددا لماذا يسلط الجعايبي هذه المرة الضوء على المدرسة؟
هي الفضاء الأول الذي يستوعب الإنسان فتخيط له طرق الوجود عن طريق مسالك المعرفة.
يتهم الجعايبي مدى نجاعة هذا الفضاء الأول في رسم الإنسان وجعله معتدلا بين الشر الداخلي وبين قيم الخير المتأصل فيه، لكنه يرتد فيقدم الشخصيات المنتمية لهذا الفضاء فاوسيتية المنبع لنرى كوابيسها القاتمة وحركاتها الرافضة لكل القيم المحافظة كالشياطين.
عن طريق ردات الفعل المشاكسة للتلاميذ في الفضاء المدرسي، تنعكس صورة الإنسان في رفض تام لما يجب أن يكون عن طريق الضجيج القاطع مع الصمت. ينضبط الممثل – التلميذ داخل الفضاء الدرامي بقسوة بليغة يرسمون بأجسادهم العارية الدرس الأول “درس السباحة” فيرفض “بن جامين” الانضمام إلى لغة أجسادهم فتبدأ الخرافة لتعلن بداية التراجيدي.
ينجح المتخيل التوليفي المسرحي في تصوير الفضاء الدرامي فنرى سجالا بين الإيقاع والإضاءة والألوان والملابس كلوحة متكاملة لكنها لوحة حية ومتحركة يحيطها صوت الماء ليبعث فيها الحياة فتستقبل الشخصيات فضائها الحي فتبعث فيه كل درجات القسوة الإنسانية الخفية لتصفع بها المتفرج الصامت وغير المتحرك.
تتجلى كتابة الشخصيات بإيقاع سمفوني فنجد كل شخصية تحمل على كتفيها عوالمها الخاصة بها في تواتر جدلي مع الشخصية “الآخر” داخل محركات مختلفة أبرزها الجنس كمحرك تفاعلي بينهم ينشأ معهم كطريقة تعبير فاضحة ومتوحشة، لتعتمد كل شخصية على نوتة دقيقة تقيس إيقاعها الداخلي ضد النوتة المتقابلة لها مثل شخصية بن جامين كنوتة رافضة لباقي النوتات وتداخل الأستاذة ضد الكل وضد شخصية المديرة – السلطة لنرى هذا الكم المهول من الصراعات القصووية بينهم حول هوية ما تختلف فيما بينهم وبين الأم كنوتة خارجة على الفضاء السمفوني الخاص بالمدرسة.
من البيّن جدا أن طريق الممثل في مسرح الفاضل الجعايبي دائما ما كان على درجة عالية من الإتقان الجمالي والخطابي لكن المدهش في تجربة “مارتير” أنه رغم صغر التجربة عند الممثلين إلا أنهم ناشدوا حالة التفوق الركحي عبر طاقة تعبيرية مهولة في رسم الفكرة الجمالية الكبرى للعرض رغم غرابته وصعوبة تقفي المعنى الجوهري للصراع لكن الجعايبي نجا معهم وبهم للوصول إلى مسار فن ممثل متميز وصانع لحركية ركحية دقيقة وجميلة ومتقنة.
شملت المغامرة المسرحية “مارتير” رموز الديانة المسيحية دون السقوط في المباشراتية بل في إيحاء تام على التوحيدية النصية وما بشرته داخل التاريخ الإنساني في جانبها المظلم من صراعات أودت بأرواح الملايين من البشر طيلة تاريخ الحروب الصليبية والحروب التي تزينت بغطاء الدم الديني.
لكن في “مارتير” يضج الفضاء الركحي بسيميائية خاصة بالمنظور الذي اعتمده المخرج في رؤيته فوظف كل الإدراك الموسيقي الذي يستحوذ على الأفضية الدرامية ومن بينها خاصة الكنيسة التي يسقط داخلها المقدس فالتلاميذ يكسرون كل الحواجز ويضربون عرض الحائط الكنسي الديني كل ما يربكهم في الدين بغاية التحرر الجريء حد التهشيم والتكسير والسقوط.
تحاكي “مارتير” رفض الكل للكل ومن خلال الصور التي تحمل مرجعية المسيح في الفن عن طريق استرجاع ذاكرة المتفرج للوحات العظيمة التي صورت المسيح في وضعيات مختلفة والتي نراها أمامنا تشع نبضا وحقيقة لتتهشم بعد لحظات.
لطالما كانت مواجهة المسرح للمسألة الدينية متأصلة إلا أن حاجة الخطاب المسرحي اليوم وهو يحفر في آلياته الجمالية باتت مسألة تخضع في طبيعتها إلى اختيار الآن وهنا فالعالم اليوم لا يزال يحاول فك شيفرات علاقة النص الديني بالإرهاب خاصة مع ظهور الحركات الدينية المتشددة التي ميزت هذا القرن.
يرفض بن جامين التواصل المعرفي مع الأستاذة ويسخر منها ويواجهها حدّ التكفير والقتل بكل العنف الذي استخدمه الممثل في لغته الفنية. وهو ما يحيلنا إلى صراع الخطاب العلمي مع النص الديني وما خلفه هذا الصراع من هزيمة للعلم والدين وثبات المعركة إلى اليوم.
أثناء لوحة القردة في القسم فعن طريق القناع “القرد” يسخر الأطفال من داروين والمعارف العلمية التي تبحث عن أصل الإنسان فتجسد الأكسسوارات المسرحية التي اشتغل عليها الممثلون كأسلحة خطيرة تحمل في ذاتها رمزيتها الخاصة بخطاب العرض.
“ويقسم فاوست بألا يتطلع إلى السماء
وبألا يذكر الله، أو يصلي له
وبأن يحرق كتب الله، ويذبح كهنته
ويجعل أرواحه تدمر كنائسه“.
في اللحظات الفاوستية في العرض المسرحي “مارتير” نرى هذا التخلص من الدين والتخلص من العلم وما يحدث بينهما وهو ما يجعل من سبيل حركة المشاهد المسرحية متقلبة ومتحولة أثناء لحظات التعرف بكل مبدأ علمي تأتي به الأستاذة إلا ويجيبها النص الديني مغايرة وسخرية فكيف وصل هذا الصراع في تراجيديته إلى القتل؟
لأن اشتغال الجعايبي على الوضعيات المسرحية دائما ما يكون في غاية التعقيد فالمطلع على مسارات التمثيل في مسرحياته يدرك مشقة الوصول إلى ثمرة العمل المسرحي فإن “مارتير” في تعقيداتها الجوهرية وفي كيفية إنشائيتها كانت صعبة حدّ الإنهاك فالزخم الرمزي واللغوي والصوري والنصي على الركح وعلى كاهل الممثلين يمكننا من استيعاب هذا الثقل الجمالي ونحن في حالة فرجة هي بدورها صعبة تستلزم المواجهة والقدرة عن التساؤل.
هل الحالة الفاوستية التي تقدمها “مارتير” تستوعب ما يحدث حولنا في المدينة وفي العالم؟
كيف ننجو من كل هذا؟
هل يستطيع الإنسان السيطرة على نزعة قتل الآخر وقتل نفسه في نفس اللحظة؟
تبيح لنا تركيبة العلاقات المتشظية بين الشخصيات نوعا من الهدوء المريب فنرى في مشهد البحر شيئا من الحب الغريب المستوحى من الحالة الاكتشافية للجنس كمحرك بينهم وكمحرك أساسي للتاريخ.
الجنس الصارخ في “مارتير” والدين المهشم والجسد الفاضح والعلاقات المضطربة والأم المتهاوية والأستاذة المقاومة وبن جامين كرة الثلج القاتلة ثم الموت النهائي.
تحملت الأثر المسرحي “مارتير” كل هذا لتقلّب الجرح الإنساني وتعيد ترميمه فعن طريق الموسيقى التي كانت حاضرة كحضور المخرج وسط الفضاء الخاص بنا شاهدنا كل ما حدث تحت إيقاع الماء المحتفل بالذنب البشري.
“إن السعادة التي توفرها لنا الآثار الفنية. هي القدرة على الصمود” (أدورنو).
تبحث “مارتير” المسرحية عن أفق سعيد أمام ما تقدمه الأنظمة السياسية من حزن مهول عن طريق سبل الهيمنة الاقتصادية التي أحالت المجتمعات إلى مستنقع الوحل باعتبار أن النص الديني أصبح بحوزة رأس المال وما يمليه من تصور حداثي لإنسان اليوم المهشم والمتشظي بين الحقيقة وواقع الحقيقة.
من خلال الرائع المسرحي المتمكن من المريع داخل جمالية “مارتير” الذي لم يتوانى الجعايبي يوما مسرحيا في البحث داخل كينونة الإنسان اليوم وما يعيشه من تهاوي أيديولوجي تنير “مارتير” من خلال بنيتها الضوئية سبل الممكن المسرحي نحو التجذر الروحي الذي يحمله في تونس إلى كونية سحرية قادرة على مواجهة التخريب.
تنقطع السبل التي تقدمها “مارتير” فلا أستطيع أن أجد الإجابة الممكنة لتربية إنسان يكون بأخف الأضرار فالجسد الملعون الذي تحمله شخصية بن جامين هي محاولة سيزيفية للبحث عن السعيد داخل غربة الجسد الثقافي الحامل لإرث لا ذنب له سوى الإيمان خارج سؤال النجاعة والنجاة من الموت.
يسقط بن جامين في فعل القتل البشري بما هو جريمة الإنسان الأول فكيف هو شكل السبيل الذي يمنع ابني من الهاوية، هو الخوف من الجحيم اليومي الذي يقدمه الجعايبي وينبه منه بأن “الإنسان يمتنع” مثلما أشار في مسرحية العنف صارخا في وجه التراجيدي.
كيف يمكن أن يمتنع الإنسان اليوم عن الرغبة الشهوانية في القتل والحرب وسقوط الجياع كل ثانية.
هذا الكون المزعج الذي لم يتخلّ أبدا عن أبجديات الرعب.
مسرحية “مارتير” من خلال الممثل الخارق ومن خلال الأسود والألوان والموسيقى الصارخة تخبرنا بالحضيض الذي نعيشه ونسايره ونفيض به، تصرخ الأستاذة في وجه الجهل وارتداد التلاميذ لفكرة التفاهة وتنتصر لشعور الانتماء للذة المعرفة رغم الهزيمة التي شهدها العلم.
قدم الفكر شهيده الذي صرخ أن رغم كل شيء هي تدور وقدم الدين شهيده لمكان آخر لن يضفر فيه بشيء غير الطمأنينة المستحيلة.
قدمت “مارتير” شيئا من الشهيد الغاضب الذي يقتل الكل لأجل فكرة أتت من حقد غير متوازن بين الأم الحاضرة والثابتة بالغصب الغيابي وبين أب مجهول في وسط شمولي يهدد بالغليان والتهاوي فيسقط الرمز وتنتفي القيمة.
بين المدرسة والكنيسة والبحر والمنزل تنشأ العلاقات الأكثر جموحا بحثا عن مكان مريح هو “الحب” لكنها لا تجد شيئا من مثالية هذه القيمة لأن الواقع الجنسي يعوضها بالعدوان.
تغادر كرسي المتفرج متدعثرا، باحثا عن شيء من التوازن، خفيفا متطهرا، مرتعبا مما سيحدث غدا مع الشمس فلا تطمئن لهذا العالم وأنت دون سلاح ناري مثلما حمله بن جامين.
نريد أن نحمل سلاحا فنيا أشدّ خطورة وتيقظا وهو ما يحمله الجعايبي طيلة نصف قرن من المسرح في بلد متهاو أخلاقيا لا يدرك حجم الكارثة القادمة.
تشهد تونس اليوم معركة الجيل الجديد، من اقترفت المدرسة والفضاء العمومي في حقه كل الخيانات لترمي به في نسق لا نهاية له ولا معالم لكن هذا الجيل عاد اليوم إلى ساحاته ليفتكّها وينشر فيها انتقامه من هذا التاريخ المخزي الذي تواطأ مع الشر وباع الخارطة بوديانها وجبالها وزرعها وسمائها وحريتها إلى الغزاة الجدد.
لن يصمد الشر كثيرا فالأثر المسرحي الذي نبت في المدينة يجعل منها طيبة المنشأ فالدم مثل الماء وهذه هي معزوفة “مارتير” عندما ينسجم الحي بالميت في الأرض نرى شيئا من الزيتون.
يقول بودلير في مفهوم الفن الخالص هو “أن تخلق سحرا متلاحقا يحتوي الموضوع والعلّة والعالم الخارجي” وهي مهمة الجعايبي في المسرح بأن يكون مميزا، ساحرا لثنايا المسرح التي تؤدي إلى تحليلية الممكن بغاية اليقظة ضد فناء الفعل.
سيظل هذا السحر ثابتا متجددا فالجعايبي دائما ما يؤكد أن المسرح لا نحتاجه كحاجتنا للماء لكنه يؤكد على سؤال لماذا لم ينته هذا الفن المسرحي إلى اليوم؟ ومن خلاله سيظل الجعايبي محتفلا بالمدينة مسرحيا ومقاوما التيه الإيتيقي للظلمة والظلام والظلم.