الفردوس الدامي
"الاشتراكية الجزائرية تعني: السيارة الفخمة لك والحمار لي"
(نكتة جزائرية من عهد بومدين)
حطت الطائرة في مطار الجزائر حوالي الخامسة بعد الظهر بتوقيت لندن. ومن نافذتها بدت مدرجات المطار مقفرة، ما خلا بضع طائرات تابعة للأسطول الجوي الجزائري. لم يكن على الطائرة، ربما، مسافر آخر غيري من تابعية غير جزائرية، كنت طوال الرحلة التي استمرت حوالي ثلاث ساعات بين لندن والجزائر، في خط مباشر، أحاول أن أتخيل ما سيكون عليه الوضع هناك حيث أنا متجه في نهايات ذلك الربيع من العام 1998، وقد مضى على العشرية الدامية 10 سنوات، والعنف ما يزال يشتد وقد ظن القوم أنه خبا. فالصور والتقارير اليومية التي تنقلها وكالات الأنباء الدولية للوضع في بلد المليون شهيد لا تشجع على شد الرحال إليه، إن لم يكن السفر في مثل هذا الوقت خطراً أكيداً على صاحبه. وبينما عجلات الطائرة تلامس أرض المدرج، كانت عيناي تجهدان لتريا من زجاج النافذة شيئاً ما مميزاً أستبقيه في ذاكرتي لربما أعود فأذكره عندما أمسك بالقلم وأكتب انطباعاتي عن هذه الرحلة. لم يكن هناك في مدى النظر شيء آخر سوى الشمس وقد نشرت ضوءها في سطوع. كنت أحاول أن أتثبت من حقيقة أنني سأطأ بعد قليل أرض الجزائر، بلد جان دارك العرب جميلة بوحيرد. كنت أريد، أيضاً، أن أرى، منذ الآن، ومن على مقعدي في الطائرة، جبال الأوراس الشاهقة التي قاتلت الفرنسيين في أواسط القرن العشرين، وأخرجتهم من الجزائر عن بكرة أبيهم، وحطمت حلمهم الإمبراطوري في أن يكون المتوسط بحيرة فرنسية.
كنت موزّعاً، نهب شوق عارم إلى جزائر المخيلة والكتاب المدرسي المبكر، وبين رهبة العبور إلى مفاجآت الجزائر الأخرى الحديثة، جزائر الحزب الواحد الذي انهارت فكرته، فوزع جسمه في جسوم كثيرة، وظل قائماً تحيط به وبعاصمته الجليلة جبال تعتصم فيها بنادق “الإسلام المسلح” بالكلاشينكوف، والهبهاب، وكذلك بالفتوى والسكين وجهاز الفاكس، وجزائر الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة.
إنها قارّة، قال مجالسي الشاب ذو البشرة البيضاء الذي قدّم لي نفسه، فعرفت أنه قبائلي يدرس في لندن، وأنه قادم إلى الجزائر ليمضي مع ذويه في تيزي وزو إجازة عيد الأضحى الذي لم تبق إلا أيام قليلة على موعد حلوله.
هل ينتظرك أحد في المطار؟ سأل مجالسي، وكأنه راح يحدس قلقي. كنتُ مضطرباً، ولا أدري من أين واتتني الفكرة التالية: ماذا لو لم يكن في انتظاري أحد في المطار؟
حاولت أن أطمئن نفسي بأن كل شيء سيكون على ما يرام، وأن هذه ليس التجربة الأولى لي، ولن تكون الأخيرة مع الخطر، ورحت أُذَكِّر نفسي ببيروت، وحياتي فيها خلال الحرب. أوَلمْ تكن لي مع الخطر، هناك، مواعيد كثيرة، لاسيما عندما غزا الإسرائيليون لبنان، وحاصروا بيروت؟ أَوَلَمْ أنج من الموت، مراراً، كغيري ممن عاش في تلك المدينة أطول حرب عربية – إسرائيلية، وأقسى حصار شهدته مدينة عربية خلال القرن؟
شعوران قويان بالانفراج والراحة عشتهما، هنا، في الجزائر، لمرتين على التوالي يفصل بين كل منهما شهر ويوم واحد، الأولى عندما ختم موظف الأمن جواز سفري، وقال لي: أهلاً بك في وطنك الجزائر، والثانية عندما سألتني مضيفة الطائرة إن كنت أرغب في كأس من شراب البرتقال، وقد تأكد لي، بما لا يدع مجالاً للشك، أن طائرتي أقلعت، وأنني بت في طريق العودة إلى لندن، وفي حقيبتي حوالي 50 شريط كاسيت تتضمن تسجيلات لحواراتي مع المثقفين والكتاب الجزائريين، حول البرهة الدامية التي يعيشها الجزائريون، ويعيشها وطن المليون شهيد. كانت تسجيلات جريئة وصريحة، وربما خطرة أحياناً، لما يجري في الجزائر، من خلال أصوات مثقفيها وعيونهم، وعدد كبير من الصور التي التقطتها بنفسي للبشر والشجر والحجر، في الجزائر العاصمة وفي ولايات قسنطينة وسطيف وتيبازة وعنابة، ومن وسط الجزائر حيث تربض العاصمة، حتى “قالة” في أقاصي الشرق الجزائري، في بلد لا يسمح فيه بالتصوير من غير إذن مسبق، ولا ترتاح فيه العين لرؤية الكاميرا وهي تلتقط الصور. وإلى هذه المواد، جلبت معي عدداً من كتب التاريخ والسياسة والأدب، ونماذج من الجرائد الوطنية.
لكنني، وهذا لا يمكن العبور عنه، رجعت ومعي ذكريات عن أشخاص استضافوني بحب غامر وقدموا لي مشكورين يد المساعدة، فجنبوني على الأقل، خطورة الاقتراب من السلطة، وخففوا عنّي مشاق المهمة التي من أجلها جئت بلدا يشهد حرباً فيه وحرباً عليه، من كل نوع، وعلى كل مستوى. لقد شكل وجود هؤلاء الأشخاص معي عنصر حماية أكيد لي في مكان أجهله، وفي ظل ظروف أقل ما يقال فيها إنها غير طبيعية عندما توزعوني بين بيوتهم وقلوبهم، فلم أشعر بغربة ولا بوحشة أو خوف، حتى عندما كانت تخيم على البلد ظلال حدث فاجع، وتكفهر الوجوه وهي تنصت إلى أخبار مذبحة جديدة.
متحف حضارات
في خليج الجزائر، وعلى هضاب شامخة تتربع مدينة الجزائر، أو “الدزاير” كما سماها زيري بن مناد مؤسس الدولة الزيرية، الصنهاجية، وجعلها عاصمة لدولته. تعاقبت على الجزائر عدة حضارات بدءاً باليونان، والوندال، والفينيقيين والرومان، وصولاً إلى العرب والمسلمين. ثم استعمرها الإسبان، وأخيراً الفرنسيون. كل حضارة تعاقبت على الجزائر أضفت عليها من عندياتها وأعطتها ملامح جديدة تلوّن ملامحها، ومنحتها، بالتالي، بعداً آخر امتد بها في التاريخ، بما جعل من الجزائر العاصمة متحفاً فريداً، جامعاً للحضارات في حوض المتوسط.
يعيد المؤرخون تأسيس مدينة الجزائر إلى سنة 94 ميلادية. ولم تبق العاصمة على حالها، فالتقسيم الإداري الجديد قلص من مساحتها، فأصبحت تمتد اليوم على شريط بحري طوله 35 كلم، يحدها من الشمال البحر الأبيض المتوسط، ومن الغرب ولاية البليدة، وولاية تيبازة، ومن الشرق بومرداس والبويرة، وجنوباً ولاية المدية. تصل مساحة الجزائر العاصمة إلى 210 كلم مربع، ويمثل سكانها نسبة 7 % من مجموع مواطني البلاد.
الرحلة في المدينة سفر ليس في المكان وحده، وإنما في ما يتشكل في المكان ويتحول إلى ظاهرة ترتبط به. لقد قضيت وقتاً طويلاً أتجول في الشوارع، وغالباً بدءاً من شارع ديدوش مراد، فهو أشهر شوارعها، وأكثرها استقطاباً للناس، فعلى جانبي هذا الشارع هناك المقاهي والمطاعم والحانات، وكذلك المحال التجارية. والشارع الذي يحمل اسم أحد مفجري الثورة، ويقع في وسطه مبنى اتحاد الكتاب الجزائريين، وينتهي بجامعة الجزائر.
ليل الجزائر
بدوري كنت أفضّل أن أُهَوِّنَ كثيراً من أمر المسألة الأمنية، وكنت أمازح المثقفين الجزائريين وأعتبرهم متوهمين أكثر من اللزوم عندما كانوا يحذرونني من التنقل بمفردي في المدينة بسبب الإرهاب، متذرعاً بأنني عشت في بيروت في ظلّ ظروف أمنية كانت، باستمرار، سيئة، ومع ذلك، فعدا عن حادث خطف عابر وقع لي سنة 1984، وانتهى ببعض الخدوش والكدمات عند باب السفارة الجزائرية (للمصادفة!)، فإن أيّ حادث سيء لم يقع لي في أكثر المدن شهرة بالخطورة.
والحقيقة أن المدينة، باستثناء شارع ديدوش مراد، وبعض الشوارع المتفرعة منه، تقفر تماماً ليلاً، ولا يبقى في شوارعها إلا بعض “الحيطيست”، والمشردين، والضالين والضالات، وبائعي السجائر من الشبان الذين افترشوا الأرصفة، وباعة البيتزا. فالجزائريون مولعون بالبيتزا أكثر من الطليان أنفسهم، وما من ليلة قضيتها في منزل صديقي المذكور في شارع متفرّع من شارع ديدوش مراد، إلا وانتهت بنا عند بائع البيتزا الذي يشبه مقامه لدى الجزائريين مقام بائع الفول عند الدمشقيين، فما من شارع أو زقاق في العاصمة يخلو من بائع بيتزا أو أكثر، ولا يبقى أمامك إلا أن تخال البيتزا جزائرية الأصل، وعنهم أخذها الطليان.
الشخصية الجزائرية
والشخصية الجزائرية نقدية، كثيرة الاعتداد بنفسها. فالجزائري ينتقد، على مسمع منك، كل ما لا يرضى عنه، أو يعتبره مظهر تخلف في مدينته، أو في سلوك أهلها. لكنه ما إن يسمع منك الشيء نفسه، أو أقل منه بكثير، حتى ينبري للدفاع عن مدينته وناسها، مختلقاً الأعذار. ومن طبع الجزائري أنه شخص ملول، ويريد دائماً شيئاً جديداً.
وعلى رغم ما يشاع عن الرجل الجزائري، ويشيع هو عن نفسه، وتشيع المرأة عنه، من قسوة، إلا أنني وجدت هذه الشخصية على شيء من الطفولية في حماستها للأشياء، لذلك، ربما، تتحول ردود الفعل العاطفية المتطرفة لديها إلى مسلك يمكن أن يبدو عنيفاً. والحق أنني، وعلى مدار شهر كامل، لم تقع أمامي في الشارع الجزائري سوى مشادة واحدة بين شخصين.
***
أتجول في المدينة مسحوراً، فهي ذات تضاريس لا مثيل لها في جمالها بين كل المدن المتوسطية التي زرتها، لاسيما ساحلها الذي نفذت إليه ذات صباح من جادة مرتفعة تفضي إلى المرفأ، ورأيت السحر كله في منظر، لا يفارق مخيلتي. أطلق الأتراك على عاصمة البلاد “جزائر الغرب”، بينما أطلقوا على البلاد كلها اسم “بلاد الجزائر”، وتعتبر ثاني مدينة بعد الدار البيضاء من حيث عدد سكانها، وتعد من بين أشهر مدن القارة الأفريقية والعالم العربي، ولا تقل أهمية في موقعها على البحر المتوسط من مدينة الإسكندرية، أو مدينة بيروت. وهي من جهة ثانية تقع في الحضن الشرقي لجبل عال يطلق عليه اسم جبل بوزريعة ويشرف على البحر. وكانت بيوتها وسائر عمرانها، فيما مضى، كلها، تتطلع إلى البحر، فهي تنتظر العائدين منه من أبنائها الصائدين والقراصنة والبحارة، وكذلك تراقب من يمكن أن يأتي غازياً. وقد ظلت مدينة الجزائر على هذا النحو إلى أن وقع الاحتلال الفرنسي لها سنة 1830، إذّاك وجد الفرنسيون أن لا سبيل إلى مواصلة إخضاع المدينة إلا بالسيطرة على ظهيرها، فبدأت حركة العمران فيها تتجه نحو الداخل، وراحت الطرق تشق، والبيوت تنهض في كل اتجاه، لكن خصوصاً في الاتجاه الجنوبي الشرقي في الوجهة البرية البحرية.
***
يمكن ملاحظة أن القطارات التي تربط المدينة بالمدن الأخرى، وخصوصاً المقبلة منها من جهة الغرب، وبسبب صعوبة التضاريس، تقوم بعملية التفاف حول المدينة لتدخلها من جهة الشمال. وجبل بوزريعة الذي يعتبر، حتى الأمس القريب، أحد الملاجئ الأساسية التي تلوذ بها الجماعات المسلحة، له أهمية استراتيجية، فهو الذي يحمي المدينة من جهة الغرب، لكونه يشكل سوراً منيعاً. وكانت الحملات الاستعمارية القديمة تتجنب هذا الجبل، وتسعى لاحتلال المدينة من شاطئها الشرقي، أي إما من “وادي الحراش” أو من منطقة “الحامة”. لكن الفرنسيين شذوا عن القاعدة، فبينما كان الداي ينتظرهم هو وجنوده على الشاطئ الشرقي، الذي يطل عليه قصره في “القصبة”، إذا بهم يفاجئونه قادمين من سيدي فرج. ولا يتوقف التاريخ الرسمي عند هذه الحقيقة المرّة، ولا عند 15 يوماً قاتل خلالها الجزائريون الجنود الفرنسيين، قبل أن يصل هؤلاء في زحفهم الشاق إلى أبواب العاصمة ويحتلوها.
في اليوم التالي. ولما كانت القصبة ماتزال مكاناً خطراً نوعاً ما بالنسبة إلى غريب، ولئلا ينهاني عن الدخول ناه، استيقظت مبكراً، ومضيت في اتجاهها فوصلت إلى جوارها في حدود التاسعة صباحاً، بينما الحركة طبيعية، والناس يتهيأون لاستقبال العيد.
جاورت في الصعود إلى أعالي القصبة رجلاً يجر خروفاً من قرنه يساعده ولدان صغيران في دفع الكبش صعوداً، وضعت يدي على قرن الكبش وسحبت معهم، نظر الرجل ناحيتي: وقال: “الشيعة لبو قرون والنطحة للفرطاس”. ثم نقل نظره نحو ولديه وأردف: “ضربة بالفاس خير من عشرة بالقادوم”. وعلى بعد خطوات قليلة توقف الرجل وشكرني، ثم اجتذب الكبش ناحية مدخل زقاق بالغ الضيق، لا يكاد يتسع لمرور أكثر من شخصين معاً في وقت واحد، ولحق به ولداه، ووجدت نفسي، فجأة، في حيرة من أمري كمن رفع عنه الغطاء. أين أذهب؟ أعني في أيّ اتجاه أمضي؟ كانت الجادة التي صعدت فيها على غير هدى برفقة الرجل وولديه وكبشهم عالية، وتنتهي بحائط مسدود. وبينما كان الرجل يتكلم على ذبيحة العيد، كنت أهز رأسي موافقاً من دون أن يصدر عني ما ينبه إلى لهجتي الغريبة. كنت مطمئناً إلى شكلي المغاربي كما رأى البعض في الجزائر، ولم أتصرف بشيء من الرعونة أو السرعة إلا عندما قطعت على الرجل محاولته السؤال عن وجهتي، وقد لاح لي ذلك منه، فودّعته بإشارة سريعة من يدي، ومضيت في الزقاق التالي لزقاق كان يتهيأ ليغيب فيه. ولسوء حظي أن ذلك الزقاق كان بدوره يفضي إلى بيت ولا يمكن النفاذ منه إلا بالانعطاف يميناً والنزول في زقاق ضيق يتقاطع مع الزقاق نفسه الذي غاب فيه الرجل، وهكذا وجدت نفسي مع الرجل صاحب الكبش الذي سألني هذه المرة عن وجهتي، فلوّحت له ضاحكاً من دون أن أنبس بحرف، ورحت أمضي على غير هدى أيضاً ماراً في أزقة ازدادت ضيقاً. كنت مسحوراً ببيوت القصبة وجدرانها الكلسية المطلية باللون الأبيض، وأبوابها الصغيرة، وبالأزقة الضيقة التي تشبه بعض الأزقة الشامية.
اجتزت العديد من الأزقة الضيقة بخطوات عجلى، ثم وجدت نفسي مضطراً إلى إبطاء حركة سيري لكي لا يبدو سلوكي غريباً بالنسبة إلى أطفال وصبية كانوا يقتعدون عتبات البيوت ومعهم لعب هي عبارة عن تنك وأشكال بلاستيكية بينما حمل بعضهم بنادق خشبية.
***
أنا الآن في قلب “القصبة” في المكان الذي انطلقت منه أول مجموعة إسلامية لتنفذ أولى عملياتها العسكرية ضد “الأمن الوطني” وتلوذ بعد تنفيذها بأزقته. وفي المنطقة التي يتوجها قصر الباي، في المكان الذي لم يجرؤ الفرنسيون في أيّ وقت من الأوقات على السير فيه ليلاً، ولا يطمئن على نفسه في أزقته عسكري أو ضابط أو شرطي، حتى وإن كان مسلحاً. غالبية بيوت “القصبة” مبنية من الطين واللبن والحجارة، وبيوتها متلاصقة كما هو الحال بالنسبة إلى البيوت الدمشقية القديمة مع فارق أن هذه أكثر بساطة، وأفقر في فنها المعماري. ربما تشبه بعض الشيء البيوت القديمة في تونس العاصمة. لكن تداخل “القصبة” وتشابك أحيائها وبيوتها، يجعل منها مكاناً بالغ التميز، ولا سبيل إلى السيطرة عليه. إنه بطريقة ما أشبه بالمتاهة لمن لا يعرفه. كذلك كان بالنسبة إليّ.
ما يجدر هنا قوله إن كل من عرف من الجزائريين بزيارتي إلى القصبة اعتبرها مغامرة منّي بحياتي، ليس بسبب وجود الجماعات المسلحة هناك، وإنما بسبب هيمنة المجرمين على الحي، كما قال.
مغامر، نعم. كما هو الحال بالنسبة إلى الرحلة التي قمتُ بها بواسطة القطار على الطريق رقم 5 الذي يربط الجزائر العاصمة بولايات الشرق على مسافة 900 كيلومتر. هذا جنون، عبرت لي أكاديمية في غرفة الأساتذة بجامعة الجزائر، بينما هي تتبادل نظرات ذات مغزى مع زوجها الروائي والأكاديمي وصديقة لهما شاركتنا الجلسة في الجامعة قبل يوم من سفري شرقاً. فليذهب بالطائرة، كما يفعل الجميع! مع ذلك، وبعد أيام قليلة، سنجد أنفسنا، أنا وشاعر تطوع لمرافقتي هو أبوبكر زمال، في قطار ليلي معتم يعبر تلال جبل بوزريعة المعتمة المسكونة ببنادق الإسلام المسلح، يحيط بنا جنود شبان بوجوه يضيئها بصيص السجائر وأصابع على الزنادات لهول الليل. خرجنا من الجزائر بعد ظهر ذلك اليوم، ووصلنا قسنطينة في الفجر، ودخلنا تلك المدينة العجيبة من جسر معلّق.
لندن في آب/أغسطس 2022