الفرد الناشز والفردية والفردانية
بنيت الحضارة العربية على مفهوم الجماعة التي تتشكل من مجموعة من الأفراد المتكتلين ضمن أنساق اجتماعية، طبقية، سياسية، دينية واقتصادية، وهذه الجماعة عادة ما تكون فرداً ضمن مجموعة كبيرة من الجماعات وتسلك عادة سلوكاً يشابه إلى حد كبير سلوك الأفراد، لكن هذه المرة بشكل جماعي أي أن مجموعة الأفراد المنضوية تحت راية مّا تتحرك جميعها باعتبارها شخصية اعتبارية ضمن الجماعات الأخرى، تتفاعل معها وتتصارع وتتقارب وكأنها فرد واحد، تشعر بالغيرة وبالقرب والتودّد والانتقام وكلها مشاعر شخصية ذاتية انسكبت على شخصية الجماعة، التي باتت تُحكم سيطرتها على مختلف المجتمعات العربية والشرقية عموماً بحيث إن كان هنالك فرد مّا لا ينتمي إلى جماعة فهو منبوذ وبلا سند أو ظهر أو قيمة أو نسب فلا يتم تزويجه أو التعامل معه باحترام، لأن الاحترام يتأتّى من النسب المستمد من الجماعة، وهذا كان حالنا، فصارت تسمية الجماعات قبائل أو عشائر أو طوائف أو أديان.
وأحياناً في أُطر أكثر ضيقاً من الممكن أن تتسمى بأسماء القرى أو داخل القرى نفسها باسم العائلات، أو المدن حيث يكون داخل المدينة هنالك انتماء للأحياء والمناطق التي تتمايز بعضها عن بعض بصفات يتداولها أبناؤها مراراً وتكراراً حتى تصبح الصفات شهيرة وعامة، وأحياناً تحمل انتهاكات عنصرية، أو عرقية، أو نفسية.. فكل حيّ مثلاً في مدن الشرق كان يغلق الباب على نفسه ويعيش داخل الجيتو الخاص به منفصلاً تماماً عن الآخرين، وكنتيجة لهذه الصيغة الاجتماعية الجمعية المركبة، نتجت فنون تشابهها وتعبّر عنها، كالفخر والهجاء والمواويل والأمثال الشعبية والنكات تتداولها الجماعات فيما بينها كنوع من التمايز والتمييز الدائمين فيما بينهم، لذلك كانت القرارات الكبرى المتعلقة بالحرب والحب والزواج والبناء والتجارة واستقبال الغرباء كلها ليست أموراً شخصية تتعلق بالفرد، وإنما كانت شأناً عاماً يتدخل فيه الجميع متمثلاً بشيخ الحارة أو زعيمها أو شيخ العشيرة أو زعيمها أو الأب الروحي للطائفة ومساعديه أو المختار وهلمّ جرا.
في العام 1889 وتحديداً في الخامس عشر من شهر تموز افتتح في العاصمة الفرنسية باريس احتفالاً بالمعرض العالمي التجاري المنعقد في ذات العام، ما تعارف على تسميته ببرج إيفل لاحقاً، كان البرج صرحاً مهيباً بُني من الحديد المطاوع والفولاذ، وانتصب شامخاً في العاصمة باريس حتى وصلت قمته لارتفاع 300 متر، بحيث أن جميع سكان العاصمة الفرنسية كان باستطاعتهم رؤيته من مسافات بعيدة جداً، فكان المبنى الأعلى ارتفاعاً في العالم حتى أسقطه عن العرش مبنى روكفلر في نيويورك بعد قرابة الأربعين عاماً، أشادت الصحافة العالمية بهذا الصرح، وتدفق الزوار بالملايين لمشاهدته وللصعود إلى طوابقه الثلاثة، فقد كان “برج الـ300” كما كانوا يسمونه كناية عن ارتفاعه أحد عجائب الدنيا الجديدة وأصبح تلقائياً رمز مدينة باريس، ورمزاً لفرنسا السياحية كلها، فيما بعد أطلق عليه الفرنسيون اسم برج إيفل كناية عن اسم المهندس والمتعهد الذي قام ببنائه وإنشائه، ولم يتسمّ على اسم رئيس تلك الدولة حينها أو على أيّ اسم وطني أو قومي فرنسي.
وهكذا دخل اسم المهندس غوستاف إيفل التاريخ بوصفه مهندس البرج، في تكريم وإعلاء من الفرنسيين لقيمة الفرد وللإبداعات الفردية، وزيادة على ذلك قام المهندسون وبالاتفاق مع بلدية باريس بكتابة أسماء 72 من العلماء والمخترعين والمهندسين الفرنسيين كانوا علامات في تطور الحضارة الغربية ككل.. ولم تنقش على جدران البرج الذي يعد رمزاً لفرنسا أيّ اسم لقائد أو رئيس أو ملك، كما هو الحال في بلاد الشرق التي كانت تنكر الجهود الفردية إنكاراً جاحداً غير مفهوم، ابتداءً من تسمية الأهرامات الفرعونية الضخمة على أسماء الفراعنة الذين أمروا بإنشائها، ومروراً بتسمية البحيرات والجسور والسدود على أسماء القادة السياسيين ممن كانت المشاريع تتم في عهدهم في إنكار واضح لجهود المهندسين والمعماريين والعمال والبناءين الذين أفنوا أعمارهم في بناء تلك الصروح التي لا تقل عظمة ولا مهابة عن برج إيفل، ولكنها تلك العقلية الجمعية المنكرة للفرد والطامسة لكل مجهوداته في سبيل إعلاء القيمة المشتركة للجماعة متمثلة بقائد تلك الجماعة التي اتفق الجميع مرغمين أو راغبين على قيادته لهم، ليكون ممثلاً لهم بين أترابه من القادة.
لقد استثمرت الثورة الفرنسية عبر فكر فلاسفتها وأفكارهم ومن سبقهم من منظرين في ألمانيا وإنجلترا وإسبانيا وإيطاليا في فكرة الفرد وإعلاء قيمة الفردية بحيث بات الفرد هو جوهر الأمة وهو نواتها الصلبة، وليس العكس حيث تكون الذات الفردية هي حجر وجزء من جدار ضخم لا يراد منه سوى أن يكون الإنسان إلا لبنة تضاف إلى شقيقتها المتشابهة كي يرتفع البناء ليحمل في النهاية غاية سياسية يكون ضحيتها الإنسان في غياب كامل وشامل لفرديته التي باتت تهمة سياسية بُعيد الحرب العالمية الثانية وغداة انقسام العالم بين قسمين حرّ رأسمالي تنافسي، ومؤطر اشتراكي قمعي، حيث كان القسم الثاني متمثلاً بالمعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفييتي والصين وكوريا الشمالية ومن لفّ لفّهم من الدول الشيوعية الاشتراكية التي قامت على فكرة إلغاء أسس الفردانية وطمس معالم الفرد كي يكون جزءاً لا يتجزأ من الكل، فذهبت العديد من الدول في اتجاهات راديكالية في ثنائية الفرد والكل، فغدت الألبسة الموحدة وقصات الشعر المشتركة والثياب المخصصة بألوان وحتى الطعام الموحد والتلفزيونات الموحدة، والثقافة المشتركة المتشابهة علامات بارزة في أساليب تفنن تلك الأنظمة في قمع الفرد وسحق فردانيته لضمان عدالة وتساو، ووحدة حال بين أبناء المجتمعات في تلك الدول، كما هو الحال في الصين وكوريا الشمالية وسوريا وكوبا وكمبوديا وفيتنام سابقاً، فالهدف الأعلى من سحق الفرد هو سحق أيّ مساحة للفرد في التمايز عن الآخر، بحيث تكون الملكية عامة دون أيّ إمكانية للحصول على ملكيات فردية وبالتالي فلا حقوق ملكية فكرية ولا حوافز، تدفع المرء نحو الابداع والتميز.
تتحدث الداروينية الاجتماعية عن مجتمعات تنافسية يقوم فيها الفرد الناجح بالحصول على كل شيء بينما لا يحصل الفرد، غير المبدع، أو غير العامل، أو الكسول أو المستكين إلا على النزر اليسير بما يكفيه للبقاء على قيد الحياة، كانت هذه النظرية هي التطبيق غير الرسمي للرأسمالية المتوحشة في الولايات المتحدة الأميركية مثلاً بحيث يمكن للفرد أن يعمل ويشكل فردانيته ليصل إلى مصاف الآلهة، بينما لا يحصل الضعفاء إلا على قوت يومهم إن استطاعوا إليه سبيلاً، بينما في الاشتراكية الشمولية كان العكس هو السائد حيث قتل الإبداع وقتلت الإرادة الفردية وحتى حس المبادرة اختفى في ظل ضياع الإبداع الفردي وجمعه مع باقي نتاجات المجتمع، في سبيل بقاء الجماعة وتوازنها وتساوي أولادها لضمان نفي المنافسة بينهم.
على سبيل المثال كان الإبداع الأدبي في روسيا القيصرية أشد وأكثر كثافة وغزارة من الإبداع الأدبي طوال الفترة السوفييتية، بينما فر المئات بل الآلاف من برلين الشرقية إلى برلين الغربية للحصول على امتيازات إنسانية تحميهم من طغيان الجماعة واقتحامها للهامش الفردي، بينما قامت الصين الشيوعية بما عرف بـ”الثورة الثقافية” التي قادها دكتاتور الصين ماو تسي دونغ، إلى اقتياد مئات الآلاف ممن وصفوا بالبيروقراطيين وأصحاب الملكيات الفردية والمسؤولين إلى الأرياف ليعملوا في الأعمال التي لم يعتادوا عليها فقتل منهم الآلاف من شدة الإعياء والتعب والجهد العنيف، وما سياسات التأميم والاستملاك العام التي انتشرت في بلادنا إلا نموذج عن طغيان الجماعة على الفرد، وسرقة الجهد الفردي بطرق غير قانونية ليست قائمة على المحاسبة أو المساءلة حسب مبدأ من أين لك هذا.
في الشؤون الثقافية كانت الثقافة العربية غالباً انعكاسا كبيرا لفلسفة الجماعة التي لا تقبل نشوزاً أو خروجاً عنها، فكانت القبيلة تعترف بشاعر القبيلة أو شاعر العشيرة فقط، ذلك الذي يسمح به الأنا الأعلى للجماعة ويكون صوتاً وترداداً لأفكار الجماعة الجمعية، أما أيّ صوت آخر فقد كان ينبذ ويطرد خارج حدود الجماعة إن هو غرد خارج سربها، فكان الشعراء الصعاليك خير مثال عن الإبداع المنفلت الخارج عن أصول الجماعة، ممن يستسيغون الإبداع خارج الأطر المكتوبة مسبقاً والمحددة سلفاً، والتي لا تزال معتمدة بشكل أو بآخر في ثقافتنا العربية التي لا تعترف إلا بممثل أوحد عن كل فن، بحيث يكون الشاعر الفلاني مثلاً هو شاعر سوريا دون غيره، وفلان الآخر شاعر الثورة الفلسطينية كذلك، ومثله في مصر وما إلى ذلك.
بينما كانت الأصوات الفردية التي تكسر أصولية اللغة والقافية والنمط والسرد منبوذة ويسخر منها لأنها لم تلتزم بالسلف الثقافي، تماماً كما كان يحدث في التجارب الدينية حيث تمكن المحافظون، والمتطرفون منهم من تحديد تفسير واحد للدين وكل من يخرج عليه هو كافر، كذلك كانت أيّ تجربة فنية تحاول كسر المألوف والسائد ثقافياً تقابل بالسخرية والتهميش، لا وبل بالنفي إن اضطر الأمر.
ولاتزال معابد اللغة العربية تمارس سلطة أبوية على كل المجددين الفردانيين الذين يحاولون إحداث كسر في النمط اللغوي من أجل تحقيق فرادة مّا، ولاتزال النقابات واتحادات الكتاب تمارس ذلك الدور أيضاً، إن هذا الدور الأبوي الحداثوي الذي تتخذه القوى التي تؤمن بالسلف اللغوي على سبيل المثال، تنهج نهج الجماعة في حربها الطويلة ضد الفردانية.. وسابقاً حاربت الكنيسة الكاثوليكية أيّ فكرة كانت تدعو إلى طرح نظريات فلكية على سبيل المثال تفند وتدحض نظرية دوران الشمس حول الأرض، أو فكرة تسطيح الأرض، حتى ظهرت أصوات متتالية من مثل جيوردانو برونو وغاليليو غاليليه وكوبرنيكوس، لتنسف بشكل مباشر تلك النظريات الكنسية التي تثبت بشكل أساسي تلك الفكرة الوحدانية الأبوية التي تبنتها الجماعة في تكريسها لدوران الكون حول الأرض التي تمثل المركز الذي يمثل بدوره السلطة البابوية التي تتخذ من نفسها مركزاً للعالم المسيحي حينها، كانت رمزية دوران المجموعة الشمسية حول الأرض هي انعكاس لدوران البشرية حول مركزية البابا القبلية الجمعية التي كانت تثبت فكرة الفردية في مواجهة الفردانية أي الصيغة الوحدانية التي لا تقبل أيّ تعددية في الوجود فما بالك في الرأي.
ومن هنا حصل الشرخ الأساسي في كسر الدكتاتورية الفردية التي بدأت بالتصدع لصالح الفردانية التي سمحت لكل إنسان على وجه المعمورة أن يكون متميزاً ومختلفاً تماماً مثل تميز بصمة الإصبع واختلافها عن باقي بصمات السكان على وجه البسيطة.
في فترات مختلفة من التاريخ العربي الإسلامي قامت الدولة الأيوبية بقتل فيلسوف الإشراق “السهروردي” في قلعة حلب لاعتقادهم بخروجه عن الملّة والجماعة، أما في العام 922 م فقد صلب الحلاج في بغداد على يد الخليفة المقتدر بالله، بدعوى فكره الصوفي الذي بني على فكرة العلاقة الفردية المباشرة بين الفرد والخالق دون الحاجة إلى وسطاء وكهنوت ديني يقوم بفرض سلوكياته على العباد. وفي العام 1150 قام ابن طفيل بكتابه أثره الهام المعنون بـ”حي بن يقظان” وهو رسالة فلسفية صوفية كتبت في الرد على الإمام الغزالي وكتابه “تهافت الفلاسفة” يبين فيه ابن طفيل أن الإنسان هو ابن ذاته وبيئته وليس إلا صفحة بيضاء يمكن أن يكتب فيها ما يشاء من قبل الجماعة التي يعيش فيها، أثار هذا الكتاب حفيظة الجماعة فأمرت بتكفيره وكاد يفقد حياته جراء فكره وتصوراته الفردية.
في مسرحيتي المعنونة “مولانا” يتقدم البطل الذي يواجه مجتمعه المحافظ مطالباً بحريته الفردية وحقه في التمييز عن بيئته التي يعيش فيها وتصرخ الشخصية في نهاية المسرحية بمونولوغ طويل، أثناء حصوله على حريته وحقه في أداء رقصته الصوفية، يصرخ “أنا، أنا أعوذ بالله من قولة أنا”.
وهو الخطاب الشعبي الذي يتردد في مجتمعات بلاد الشام بشكل عفوي، وكأن التصريح بالأنا عيب وكفر وجريمة لا يمكن الصفح عنها من قبل الجماعة، فالتصريح بالفردانية في مواجهة الجماعة هو خطب جلل وأمر عظيم، هو خروج كبير من قبل الفرد على قومه، ويتوجب بناء عليه أن يقام عليه الحد إما بالإلغاء أو بالتحييد الجسدي أو المعنوي، وهذا ما يحصل مع بطل مسرحية “مولانا” عابد.
إن طغيان صوت الجماعة وتسلطها بشكل كامل على كافة مناحي الحياة الثقافية والاجتماعية في العالم العربي، كان له أثر غاية في الخطورة على تأخر القفزة الحضارية التي سعت إليها الأمة العربية بسبب تغييب الفرد بشكل كامل، والإصرار على تحويله إلى رقم أو عدد أو مصفق أو مصل أو مردد لأفكار رؤوس الجماعات تلك، ولذلك أسباب كثيرة وعديدة ومتجذرة في المجتمع الشرقي أهمها البنية الدينية المتأصلة في المجتمعات العربية التي يتدثر خلفها حكم الجماعة ضد الفردانية، نضيف إليها الواقع السياسي المتحالف مع البنية الدينية المحافظة والذي يقوم بنوع من التناغم معها في محاولتهما لقمع الفرد وإبقائه أسير رغباتهما، مضافاً إلى ذلك البنية القبلية العشائرية الطائفية لتلك المجتمعات والتي سعى الغرب والحكم الدكتاتوري العربي لتكريسها لذات السبب.
من هنا تأتي الحركات النسوية العربية كمساهم أساسي في المحاولات الجادة لكسر هيمنة السلطة الذكورية الأبوية الجمعية المتوارثة منذ قرون في المنطقة العربية، فالمرأة وكينونتها الفردية كانت على الدوام هدفاً سهلاً من قبل البنية الجمعية، ولذات الأسباب الدينية والفكرية مضافاً إليها النظرة الاستعلائية الذكورية تجاه المرأة في المنطقة العربية ممّا ألغى تماماً فردانيتها وخصوصيتها، وهي في كفاحها المستمر في العقود الأخيرة تناضل من أجل حقها الفرداني في الوجود وتقرير المصير.
وهذا الأمر ليس شأناً عربياً شرقياً فقط، بل لقد وقع الغرب فيه أيضاً، فعلى سبيل المثال وعلى ذكر التكريمات المحفورة في جدران برج إيفل، لم يسجل ولا أيّ اسم أنثوي من بين الأسماء الاثنين والسبعين، وهو أمر معيب استدركه الغرب خلال أقل من قرن فقط، وأعاد للمرأة قيمتها الاعتبارية الكاملة مترافقاً مع استعادة الفرد كامل فردانيته في مواجهة المجتمع حتى ليكاد المرء يشعر بأن المجتمع الغربي متكوّن من مجموعة هائلة من الأفراد المتراصين المتمايزين دون أيّ دمج أو إدغام أو محو لأيّ خصوصية فردية.
في الثقافة العربية كان الفنانون والمفكّرون والكتّاب هم الدعاة الأساسيون لإعطاء الخصوصية الفردانية حقها الكامل في التميز والتمايز عن المجتمع، ولكن الضربات القوية والعنيفة أحياناً للجماعة تجاه الفرد، كانت كفيلة بإحداث تأخير كبير في تلك القفزة الحضارية المنشودة، وكلنا عرف وسمع بقصص نبذ العائلات لفنانات أو فنانين لأبنائها من الكتاب والمطربين والراقصين، وحتى المفكرون ممن نشزوا بحسب تعبيراتهم عن الكتلة الجمعية، فحُرق مسرح أبوخليل القباني مرتين، مرة في الشام ومرة في القاهرة، وقتل العديد من الفنانات من قبل عائلاتهن ونبذ البعض الآخر، ولكن انتصار الفنانين جاء في مواكبة بسيطة للحداثة العالمية، حيث لم يعد مقبولاً نهائياً كتم تلك الأصوات الفردانية من قبل المجتمعات المحافظة.
ولكن الصراع الفكري للفردانية هو ما بقي يواجه ممانعة عظيمة من قبل الجماعة. وكمثال على ذلك نشاهد أزمة حرية التعبير الرهيبة في العالم العربي، مترافقة مع أزمة الحرية الجنسية التي تواجه أشد الممانعات وحتى الإلغاء، فحتى اليوم لا يحق للفرد العربي/الشرقي، العربية/الشرقية حق التصرف في جسده/جسدها، بعيداً عن السلطة الأبوية الجمعية، بينما بات الأمر من نافل القول في العالم الحر، كنتيجة عن حصول الفردانية على كامل حقوقها، وواجباتها أسوة بأسوة.
وما يزال حجاب المرأة ينال قسطاً وفيراً من الجدل بين المؤيد والمعارض، بين من يفنّد عدم وجود نص ديني جمعي يفتي بوجوبه وبين من يؤكد على حرية المرأة كفرد في اختيار لباسها وشكلها، وكان المثقفون على الدوام ينأون بأنفسهم بعيداً عن تلك الصراعات الحضارية متذرّعين تارة بأنها صراعات علمية، وتارة بأنها صراعات سياسية، أو أنها صراعات دينية، لعجزهم عن اتخاذ مواقف حاسمة وراديكالية، وهنا لا يمكننا الجزم بالشمول، ولكن غالبية المثقفين العرب كانت تنساق خلف رأي القطيع الجمعي، دافنين فردانيتهم، والتي كان لنجاح معركة واحدة فقط كمعركة غاليليو أو كوبرنيكوس في بلادنا، أن تكسر هيمنة الهرمية الدينية فيها سواء كانت إسلامية أم مسيحية أم من الأقليات، حيث يشترك الجميع في مذهبهم الناهي عن الفردانية.
ولعلّ معركة صغيرة وغير مثيرة للاهتمام أثارتها ممثلة الإغراء السورية في السبعينات “إغراء” بإصرارها على التعري في السينما السورية وبأن هذا جزء من حقها في الوجود، أثر كبير في خلخلة التركيبة النفسية للمجتمعات السكونية العربية، حيث شكّل عريها صدمة للفن والفنانين والجمهور على حدّ سواء، وبقي تصريحها الشهير في الفيلم الوثائقي “إغراء تتكلم”، “ليكن جسدي جسراً تعبر عليه السينما السورية” رغم كلاسيكيته وصيغته الرومانسية المفرغة من المعاني في بلادنا، بقي تصريحاً عميقاً ومتجذراً وهاماً عن إفناء الفرد لذاته من أجل تحقيق حلمه وفردانيته. وكنتيجة له حُطمت اجتماعياً وفنياً ونبذت من الوسط الفني والإنتاجي والإعلامي طوال أربعين عاماً بعدها.
وعليه فإن التمرد الفردي ومواجهة نظم القمع الجمعية المجتمعية، هو الخيار الوحيد والذي لا مفر منه لإيجاد عالم أوسع ومساحات أرحب تتيح للفردانية النمو والهدوء والتفرع في كل الاتجاهات فالإنسان هو جوهر هذا العالم الحديث، وليست الدولة أو الجماعة، وإن مجموع التجارب الفردية للإنسان هو ما يشكل القيمة الحضارية الهامة للبشرية، وبالتالي إن انعدام مفهوم الحرية الجنسية وحرية الجسد في المجتمعات العربية هو أحد أوجه هذه البطريركية الأبوية الجمعية المتحكمة بالمجتمعات العربية، والتي أفرزت أجيالاً من المكبوتين جنسياً، عبروا عن كبتهم كل في مجال عمله، وكان على الثقافة، وكذلك المثقفون، أن تتلقى قسطها من تلك العقد المكبوتة، فبقيت ثقافة انعكاسية تردادية بغالبيتها لصدى القبيلة والطائفة والمجتمع، من دون صدمات أو أفكار جديدة صاعقة، ودون مواجهات صادقة من الثقافة للمجتمع، فعلى سبيل المثال لا نجد منعكساً حقيقياً صادقاً لمشاكل المجتمع في الثقافة العربية، ولا نقداً دينياً حقيقياً للعلاقة بين الدين والإنسان.
أغلب ما نقرأه هو تحزبات وتراشقات بين الكتل المجتمعية، تتمحور حول من بيننا هو الأفضل. بينما نقرأ مسرحية “برلمان النساء” لأرستوفانس قبل 400 عام من الميلاد وهي تناقش فكرة إضراب النساء عن ممارسة الجنس مع أزواجهن من أجل الضغط عليهم للتوقف عن الحرب، ونقرأ رواية عنصرية صادمة لميشيل ويلبيك في فرنسا منذ خمس سنوات تتحدث عن هاجس الغرب واليمين الفرنسي من وصول مواطن فرنسي من أصول عربية إلى منصب الرئاسة الفرنسية عبر صناديق الانتخابات.
وقد يقول القائل إننا إن بحثنا سنجد أعمالاً فنية تجاوزت الحد الجمعي وانطلقت لتعزز الفردانية، ولكن المنظومة الجمعية سوف تحبطها وتخصيها فكل الماكينة الإعلامية والثقافية الرسمية وغير الرسمية تتحكم بها الجماعة، فلا مناص للفرد إن أراد أن يحمي فردانيته سوى الفرار إلى الغرب حيث تحترم الفردانية وتعتبر قدساً تجب حمايته، ولولا الغرب لما عرفنا أمين معلوف وطه حسين ومروان قصاب باشي ومالفا ونجيب محفوظ أو ابن الهيثم وابن رشد وابن سينا وباسترناك وزيماتين وأصغري فرهادي وعباس كياروستامي.. الخ، من القائمة التي لا تنتهي من الفردانيين العظماء الذين أعاد الغرب تصديرهم لنا بعد نجاحهم في أرضه. لذلك يبدو الحل حضارياً شاملاً يبدأ من داخل الفرد ذاته حينما يبدأ باحترام فردانيته ونبذ فرديته، سعياً نحو مجتمع يكون الإنسان فيه هو نواته الصلبة، منه تنطلق السياسات وإليه تُسخر.
كاتب مسرحي من سوريا مقيم في باريس