الفن، الخوف، الموت
أين يبدأ دور المثقف وأين ينتهي، وهل يكفي الكاتب أن يراقب هذا العالم ويمرره عبر جملته العصبية ليخرجه بشكل آخر، كما تخيله أو تصوره هو، أم أن هنالك مسؤولية أخلاقية وفكرية على كل صاحب عقل، صُرف على بناء عقله الكثير من الأموال وسال الكثير من الحبر كرمى لوعيه ونضوجه، هل يكفي المثقف أن يجلس ويراقب أم ينبغي عليه أن يتحرك من أجل عالم أفضل. وما الذي يخشاه الخالق الفني من عمله، أو ما الذي يتهيبه، وماهي الحدود الفصل بين حياة الفنان والتماثل مع عمله.
يقول مايرخولد “اكتبوا على شاهدة قبري: لقد مات وهو خائف من هاملت..”.
كان فسيفولد مايرخولد، رائداً عبقرياً من رواد المسرح الروسي، والعالمي، ففي اليوم الذي اندلعت فيه ثورة فبراير 1917، قدم مايرخولد إنتاجه لمسرحية ليرمنتوف الشهيرة “حفلة تنكرية” التي حضرت عرضها الشاعرة الأوكرانية آنا أخماتوفا التي وصفت العرض المسرحي بأنه “آخر عمل من مأساة النظام القديم”.
كان يومها فيسفولد مايرخولد يودع نظاماً ويبشر مكرهاً مثل الكهنة المهووسين بالنظام الجديد الذي سينقذ العالم من هذا الزيف الذي ناله، لم يكن يدري بأنه يبشر بإعلان موته على يد جلاوزة البلاشفة، ممن انتزعوا الرحمة من قلوب الشعب الروسي العظيم، وصهروا أجراس كنائس الشرق من أجل بناء المدافع، عمل مايرخولد طويلاً كمعلم من معلمي المسرح في روسيا والعالم، وأسس لاحقاً نظريته “البيوميكانيكا” التي كانت تدحض من الجذور نظرية ستانسلافسكي، في إعداد الممثل، ولكن الأخير عاد وطلب منه بأستاذية نبيلة أن يكون نائباً له حينما أدرك وفاته القريبة التي تحققت بعد عام تقريباً، وحينها انطلق ميرخولد، في تقديمه كلاسيكيات العروض المسرحية في مسارح روسيا الفنية، حتى اصطدم مع السلطة الستالينية التي حاكمته بتهمة التجسس وأخضعته لتعذيب هائل طوال 18 ساعة وهو في عمر الـ68، فأقر بجميع التهم، وصدر القرار السريع بإعدامه، الذي نفذ في اليوم التالي من عام 1941، وبُرئ لاحقاً من جميع التهم في عام 1955، من قبل لجان تفكيك الإرث الستاليني، ويعود السبب الحقيقي لإعدامه لصداقته الكبيرة وقرابته من تروتسكي الذي كان من كبار مناهضي الدكتاتور ستالين، وأحد قادة البلاشفة ومؤسس الأممية الرابعة.
كان هاملت يرعب مايرخولد بقوة، وكانت شخصيته وهوسه بالانتقام مسيطراً على رأس مايرخولد بشدة، ولعله تردد كثيراً في تحقيق ثورته، أو موته، أو انشقاقه برفقة قريبه تروتسكي، كي ينتقم لأبيه القيصر من عمه ستالين الذي قتل والده وتزوج أمه، الأم، الوطن.
وستالين ذلك العم الذي راقب أعمال مايرخولد طويلاً حتى وصلته رسائله الخفية، من ثورة، وتمرد، ونقد للدكتاتورية، ودعوة إلى تحرير الانسان من تماهيه الواقعي، نحو أسلبة البيومكانيكا.
لكن مايرخولد الذي يصف خوفه بنفسه أثناء الاعتقال والتعذيب في رسائل مسربة، فيقول “الخوف، ذلك الشعور اللعين الذي يتنازع الإنسان وهو على شفير الثورة، الثورة على نفسه، حينما يعلن أنه قاتل وجاسوس، ولكنه في الحقيقة كاذب، أنا خائف، اكتبوا على شاهدة قبري أنني مت وأنا أخشى تقديم هاملت”.
كان الاحترام الكبير للفن يسري في عروقه، وقد بان التحدي الخارق الذي عاشه مايرخولد أثناء تعذيبه من قبل جلاوزة الدكتاتور، أنه لم يكن يخشى ستالين، بل كان يخشى هاملت، كانت الذهنية التي يرتعش جسده تحتها هي ذهنية الفنان الذي يكمل معركته الفنية أثناء خوفه…مواجهاً موته.
ليرمنتوف صاحب “حفلة تنكرية” انتحر في مبارزة غبية، زجَّ نفسه بها، وكما أبطال القرون الوسطى، لم يخف، لم يكن متنكراً…
أما شتيفان زفايج الذي انتحر في السنة التالية لإعدام مايرخولد، الذي فرّ من النمسا، وهو ألماني الهوى من أصول تعود إلى غرب أوكرانيا، يهودي نجا بصعوبة من إعدامات أفران هتلر، وحاز شهرة لا نظير لها جراء إبداعاته المبهرة، عن طريق كتب مثل “لاعب الشطرنج”، “24 ساعة في حياة امرأة” و”الخوف من الشفقة” تلك التي يرتجف القارئ جراء حساسيتها وشاعريتها وهو يصف قصة حب على طريقة تولستوي، تصف ضابط جيش يقع في هوى فتاة مشلولة، والاحتمالات التي تجري في مسارات العشق بينهما. بعد حصوله على الجنسية البريطانية، عاني شتيفان زفايج من اللااستقرار، واللاانتماء، والتنقل المستمر جراء الخوف من الموت، رغم غزارة إنتاجه وانكبابه الهائل على القراءة التي ربما هي التي أنقذت حياته، لكنه عاش حياة بائسة هارباً من دكتاتور يسعى لإبادته بذريعة انتمائه إلى دين ما، انتقل بعدها زفايج إلى البرازيل وهناك وبرفقة زوجته، أعد 192 رسالة اعتذار من الأصدقاء والأحبة، بمن فيهم زوجته الأولى، وكبار أصدقائه من الأدباء والكتاب والشعراء وحتى الخدم والطباخين، يعتذر فيها ويبرر لهم سبب انتحاره، هو وزوجته الثانية، خوفاً من بشاعة الكراهية التي تتنقل في فترة الحرب العالمية الثانية، والتي سببت له ولمجتمعه دوامات من الحقد والغيرة والكراهية التي أثرت في نفسيته الحساسة، فاستلقى برفقة زوجته في السرير وتعانقا كما لم يفعلا سابقاً، بعد أن تناولا كميات من الحبوب المهدئة، وبسبب عواء كلبه الشديد لشعوره بغرابة ما يفعلان، أعطياه كمية من الحبوب المنومة أيضاً، فاستلقى أبدياً، وحينما دخل الخدم صباحاً، اكتشفوا خيوطاً من الدموع نشفت على وجنتيه وزوجته، وأكواماً من الرسائل المعدة للإرسال..
كان خوف زفايج مرعباً لدرجة أنه لم يدرك أن النازية ستحتاج لسنوات قليلة حتى تسقط، لكنه فضّل الرحيل على أن يحيا في عالم مشوّه مثل المجتمعات التي تولدها فترات الحروب والقهر.
في مكان آخر من العالم كان يوكيو ميشميا…
أعدم مايرخولد في مبنى لوبيانكا، حيث لقي العشرات من المفكرين والثوريين والمناضلين المصير ذاته، في صمت بعد أن أدمي وجهه، من جراء الكدمات التي تركتها في جسده أعمال المحققين، وانتحر زفايج في سرير زوجته يبكي، من الخوف، اختار ميشيما الروائي والمسرحي الياباني الشهير، أن يتحدث في لقاء مصوّر مع التلفزيون الأميركي عن شغفه الذي بلغ حد الهوس بأعمال أوسكار وايلد وخصوصاً مسرحية “سالومي” 1891، التي حصل ميشيما على نسخة منها وهو مراهق وما لبثت حمّى الرأس المقطوع تغير مشاعره ودوافعه وتبني له مدماكاً من أخلاق جديدة، سالومي التي تقطع رأس يوحنا المعمدان وتحمله بيدها وهي تنظر إلى فراغ عينيه، صورة زلزلت كيان ميشيما، الذي تنوعت حياته الفنية بين الكتابة الروائية والمسرحية والتمثيل والإخراج السينمائي، كان ميشيما يقوض بشكل من الأشكال روح اليابان المدجنة بعد هزيمة الحرب العالمية الثانية، مستعيداً الإنسان الياباني الذي يبني طوال حياته اسماً كبيراً لنفسه من حجارة الأخلاق والكياسة والنبل، ولعل الشعب الياباني الذي تفجر العنف في عروقه طوال الحرب الكونية الثانية، عاد ودخل إلى الصندوق الخشبي، معيداً بناء مجتمعه وكياسته ولطفه، لكن يوكيو ميشيما كان له رأي آخر، فقد اعتبر أن الأمة اليابانية أمة مخصية، بسبب الهزيمة المذلة التي تعرضت لها من قبل الأميركان والإغواء السادي الذي تمثله سالومي ذاتها، المنتصرون في الحرب ممن بدأوا العمل الحثيث على فتح البلاد وكسر تقاليد الإمبراطورية الممتدة لقرون عديدة غابرة، والتي بنت الشخصية الثقافية للإنسان الياباني الذي انتهى وهو يوقع استسلامه أمام الآخر، بعد أن ساد العالم، ميشيما “نبي البعث الياباني” لم يكن خائفاً من الموت، أو من الآخر، أو من الدكتاتور، لكنه كان خائفاً من التاريخ، ومن عبث الأخلاق، يخشى على كرامة الإمبراطور الذي يمثل روح اليابان، فتمثل الآخر له برأس مقطوع.
“هنالك لمن يريد أن يبحث في أشرطة الأفلام، فيلم يمثله يوكيو ميشيما في عام 1965، تحت اسم “يوكوكو” أو “الوطنية”
يقول ميشيما “لا أبالغ إن قلت إنني دخلت المسرح فقط من أجل تقديم مسرحية سالومي التي أخافتني طوال عمري..”.
تلك المسرحية التي هزت كيانه، وجعلته يرى منذ طفولته، نهايته، كان يدرك بشكل من الأشكال أن أوسكار وايلد، رسم له خط سير حياته، رغم تشعب حياته فيما بعد، لكنه التقى مع سالومي في نقطة واحدة.
ترشح يوكيو ميشيما لجائزة نوبل ثلاثة مرات، وفي عام 1969 نالها صديقه وخصمه، ياسوناري كاوباتا في اللحظات الأخيرة من قرار لجنة جائزة نوبل، أصاب قبلها نجاحات لا تحصى وأصداءً مدوية لأعماله الفنية، والأدبية، ولكنه وبجرأة وخوف من ضمير الأمة المريض الذي كان يؤرقه، كان يحضر لعمله الأهم، فقد أسّس برفقة عدد من العسكريين الشباب، منظمة تدعى “درع المجتمع” وخاضوا تمارين فكرية ونفسية وذهنية وتاريخية وعسكرية كبيرة معه، بحيث كان يلقي عليهم يومياً محاضرات في تاريخ اليابان وضرورة استعادتها مجدها بعيداً عن الهزيمة.
وفي أحد الصباحات المشمسة قاد فرقته المكونة من أربعة أشخاص، نحو اجتماع معد مسبقاً، مع جنرال ياباني في قاعدته العسكرية، الأخير كان ينتظر منهم لقاء صحافياً، ولكنه فوجئ باعتقالهم له، وتقييده إلى الكرسي، بانتظار أوامره بجمع المعسكر تحت شرفة الضابط، حيث خرج يوكيو ميشيما، بروح تقمّصت يوحنا النبي، وخطب بالطلاب من العسكريين، حول شرف اليابان وضرورة استعادة مجدها، وضرورة تحرير الدستور من القيود التي كبّلته، وتحرير البلاد من قوانين اتفاق الاستسلام، فما كان من العسكريين إلا أن انهالوا عليه بالضحك والسخرية، واصفينه بالمجنون، والغبيّ، وبأن اليابان في حالة سلام حالياً، فطلب منهم أن يقوموا بانقلاب على السلطة الحاكمة وأن يعيدوا المجد للإمبراطور، ولكنهم سخروا منه مجدداً، كان ميشيما قد جهز نفسه لخطاب يمتد لساعة ونصف، ولكنه أوقف كلمته في الدقيقة السابعة، وولج عائداً إلى غرفة الضابط المقيد، وهناك قرر قتل خوفه، وتمثيل دور سالومي بنفسه، بأن يكون هو ذاته سالومي وكذلك يوحنا المعمدان، فعمد إلى استعادة تقاليد الساموراي اليابانية التي تفتخر بشرف الانتحار ساعة الفشل، فأمسك سيفا قصيراً، وبقر بطنه، يميناً وشمالاً، ثم جلس على ركبتيه منتظراً أحداً من رفاقه كي يضرب عنقه، كما هو متعارف عليه في طريقة انتحار “سيبوكو”..ولكن الشاب كان خائفاً، فضربه بالسيف على كتفه، فازداد ألمه شدة، حتى تناول رفيق ثان سيف الساموراي، وأنهى حياته بقطع رأس يوكيو ميشميا، في واحدة من أغرب الحالات التي واءمت بين المسرح والواقع والموت، استل رفيقه الأول السيف القصير وبقر بطنه، وطلب من سياف الساموراي أن يقطع رأسه، ففعل، لتدخل الشرطة فتجد رأسين مقطوعين على نطع أبيض، وخلفهما تقبع اليابان الحديثة مقيدة إلى كرسي، بهيئة جنرال من فترة ما بعد الحرب، ربط ميشيما رأسه بعصابة تتوسطها شمس اليابان، وعليها كلمات تمجد الإمبراطور وتدعو لخدمته مدى الحياة.
حملت الصحافة العالمية رأس يوكيو ميشيما، كما لو أنها كانت سالومي بذاتها، وبدأت تتراقص بقصته، ورأسه بينما يقطر دماً نيابة عن اليابان.
مسرحية سالومي التي كان يجهز ميشيما لأولى عروضها في عام 1971، أي بعد وفاته بأشهر في عام 1970، قُدّمت بالفعل، وحينما أمسكت سالومي الرأس المقطوع على الخشبة أدرك الجمهور رسالة ميشيما العنيفة.. ولكنهم مع ذلك ظلّوا خائفين.
يبدو الخوف أمام العمل الفني مماثلاً للخوف من الحياة ذاتها، فالفن يفترض التماهي مع الشخصية، ومن لا يتماهى في حياته مع أفكاره، ويتمثلها، يعيش أزمة وجودية حقيقية.. حتى الخوف لدى الفنان يصبح درجات فمن كتب محذراً من الشفقة أرسل مئات الرسائل يثير فيها شفقة الرفاق معتذراً منهم على تجرؤه على خوفه.. ومن كان من المفترض به أن يخاف من الدكتاتور سقط مغشياً عليه خوفاً من شخصية لم يؤدّها، ومن تماثل في حياته مع حلمه وشغفه وفنه، مات بكامل شرف الفرسان.
الخوف فعل نبيل، لا يصدر إلا من الصادقين، في عالم لا أبطال فيه، بعد نزول الآلهة وأنصاف الآلهة من السماء إلى الأرض، وبعد فقد الأنبياء لقوتهم، حتى العلماء يخشاهم الله، حسب قراءة البعض لتنقيط مختلف للنص الديني.. الخوف حقاً فعل منحدر من الآلهة، منتم إلى نبالة البشر، لكنه قد يخنق روح الخائف، أحياناً قول الحقيقة يقتل، والتعبير عن الذات مخيف، حتى لوكان التعبير حقيقةً عن الخوف.