الفن المعارض
بدأت علاقتي مع موسيقى الراب بمرحلة مبكرة، إذ كنت أحاول أن أقلد ما أسمعه من أغنيات كنت أجدها على أشرطة الكاسيت، وكان أغلبها باللغة الإنكليزيّة، ولم يكن هناك ارتباط وثيق بيني وبينها، فكان أخي من الجيل الأكبر مني، ويستمع للراب من حين إلى آخر، إلا أن علاقتي معه باللغة العربيّة بدأت منذ ظهرت بعض الفرق اللبنانيّة والفلسطينيّة التي تستخدم اللغة العربيّة، ما جعلني أعيد النظر في “الراب” كشكل فني ووسيلة للتعبير، سواء على الصعيد الشخصي، أو ضمن الشرط الاجتماعيّ والسياسي، وهذا ما دفعني لتبني اسم “جندي مجهول” بوصفه تعبيراً عن موقفي الفنيّ والسياسي.
هذا الشكل الفنيّ من الغناء والأداء هامشي نوعاً ما في المنطق العربيّة، بداية بسبب عدم نضوجه في المنطقة، فما زالت هويته قيد التكوين، وعلاقته بالمؤسسة مرتبطة بالفائدة التي يمكن أن تحصل عليها المؤسسة منه، سواء في السماح بظهور مغني الراب أو عبر عملية الإنتاج، فمنذ أن كنت في سوريا امتلكت أدواتي الخاصة للتسجيل و الغناء، فأنا أتحكم بكل عملية الإنتاج، منذ الفكرة التي تراودني حتى عملية التسجيل والتأليف الموسيقي ثم النشر والتوزيع، الأمر الذي اختلف لاحقاً حينما انتقلت إلى بيروت، إذ هناك عاملون وأشباه مؤسسات تتبنى هذا النوع من الفن وترى فيه شكلاً فنيا وسياسياً مختلفاً عن السائد، وهنا نأتي للجمهور الذي يتنوع بين مستمع تقليدي إلى محبّ ومتابع في الكثير من الأحيان، ولا أقصد هنا من يكتب ويصنع موسيقى ويغني، بل فئة ترى فيه شكلاً جديداً مُغرياً وأشد صدقاً من غيره.
تعتبر منصات النشر البديلة والرقميّة في الكثير من الأحيان المصدر الرئيسي لشعبية مؤدي الراب وهي التي تجعله مسموعاً ومرئياً للآخرين، كما تؤمّن له وسيلة تواصل مع المؤدين الآخرين، الذين يمكن العمل معهم، وهذا ما حصل إذ تعرفت على الكثير من المؤدين وأنتجنا موسيقى سويّة أحياناً قبل أن نلتقي بشكل شخصي.
نصوص الراب عادة تعتمد على الانتقاد والاحتجاج، وهذا ما نراه في أشهر التجارب الأميركيّة، والتي ترى في الراب صوتا مختلفاً عن الرسمي، يصرخ ويحتج بوجه السلطة والمؤسسة والكتلة البشريّة المرتطبة بها كالشرطة والجيش، وذات الشيء نراه في التجارب العربية، فالنصوص مليئة بالإحالات للوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعيّ في المنطقة العربية، إلى جانب قدرة الراب على طرح كم هائل من الأفكار، بصورة صرفة في العديد من الأحيان، دون رقابة أو خوف، وهذا ما يجعل “الرابر” في أغلب الأحيان بموقع المواجهة مع السلطة، ورفض للشكل القائم.
يحوي النص المغنّى في الراب العديد من العوامل الشعريّة والجماليّة، خصوصاً أن الأساس في هذا الشكل من الغناء هو “النص” وهذا يؤثر على طبيعة المستمعين والجمهور، هناك نصوص تفترض أن تكون الأغنية موجهة لفئة محددة، قادرة على فك الشيفرات والإحالات المختلفة داخل النص، كونه يتغّذى لا فقط من اليومي والمتداول، بل أيضاً من التراث الثقافي و الفكري للمنطقة، وهذا سببه تطور تجربة الراب التي كانت أقل “شعريّة” إن جاز التعبير حين بدأت في المنطقة العربيّة، إذ كان الكلام بسيطاً ويسعى لتقليد النسخة الأميركيّة، ومع الزمن وتطور تجربة الكثيرين، بدأت النصوص تأخذ أشكالاً مختلفة، وأصبحت أغنى و أكثر قدرة على التعبير، ذات الشيء على مستوى الموسيقى المستخدمة، إذ يستفيد الكثيرون وأنا منهم من التراث الموسيقي في المنطقة العربيّة، وإعادة توليفه وإنتاجه بصورة معاصرة تتماشى لا فقط مع الكلام بل مع الذائقة الجديدة التي يسعى الراب إلى بنائها من جهة ومخاطبتها من جهة أخرى.
تداخلت حالياً التصنيفات والتقييمات فيما يخص الراب، هل هو راق أو هابط؟ حقيقة هذه التقسيمات خاوية وسلطويّة، والبعض يرى أنه يتحرك بين “الموسيقى البديلة” وتلك “التجاريّة”، وهنا يبرز الراب أيضاً لا بوصفه قريناً للشعر أو أسلوباً جديداً، بل هو شكل فنيّ مكثف وبعيد عن النمطيّة، ومختلف عن “الرسميّ”، هو يراهن على الموسيقى وصناعتها وفي ذات الوقت على الكلمة وأثرها.
بالعودة للمؤسسة لا يوجد تبنّ رسميّ لكن هناك مصالح، فبعض الجهات بدأت ترى فيها شكلاً جماهيرياً ومعروفاً وقادراً على الجذب، بالتالي تستخدمه في الإعلانات مثلاً، أو الاستعانة بمغني راب يتبنّى أفكار المؤسسة كي يؤدي و ينتج فيما يتوافق معها ومع توجهها، وهنا تأتي إشكاليّة الراب فالبعض يراه تهديدياً للرموز الوطنيّة والتقاليّد بل وحتى السلطة نفسها، ما يجعل الكثيرين حذرين في التعامل معه، وهذا ما نراه في التعامل معه كـ”مُنتج فنيّ”، فأنا لم أمتلك حقوقا فكرية لما أنتجته في المنطقة العربيّة، لكن الأمر اختلف في فرنسا حيث هناك حماية لحقوق المؤلف وهذا ما انعكس مادياً عليّ لاحقا، وجعلني أشعر بالأمان تجاه ما أنتجه.