الفن ضروري كالموت

الخميس 2016/12/01
تخطيط: فادي يازجي

ظهيرة يوم الاثنين (الساعة الثالثة بالضبط) الموافق 23 أكتوبر 1963 قطعت الإذاعة العراقية بثها فتوقع العراقيون أن يقرأ أحدهم البيان رقم واحد، مبشرا بوقوع انقلاب عسكري جديد ولم يمض بعد على الانقلاب الأخير سوى سبعة أشهر. فوقوع انقلاب هو الحدث الجلل الوحيد الذي تقطع الإذاعة من أجله مرغمة بثها. كان الاستيلاء على دار الإذاعة يومها هو النقطة الحاسمة التي تؤكد نجاح الانقلاب. كنت في الثامنة من عمري وكنت عائدا من مدرستي إلى البيت الذي فوجئت أن غيمة من الوجوم تلفّه.

بسبب ذلك الصمت اكتشفت أن هناك ساعة حائطية في بيت جدّي فهي الشيء الوحيد الذي كان يتحرك في ذلك البيت الذي لم يكن ساكنوه يكفون عن الحركة كل وقت. لقد هالني ذلك الصمت الذي رافقه إهمال مؤلم لدخولي الذي بدا أن أحدا لم يكترث به. حاولت أن أحدث ضجة من خلال إلقائي حقيبتي المدرسية على الأرض، غير أن أحدا لم يعر حركتي انتباها. كان عليّ أن أتجه وحيدا هذه المرة إلى المطبخ للأكل وحدي.

الجملة الوحيدة التي سمعتها من هناك كانت بصوت أبي «لم يكن موته ضروريا» بعد عقود من تلك الجملة كنا نمشي أبي وأنا في أحد أزقة دمشق التاريخية حين تذكرت تلك الجملة أردت أن أسأله «هل هناك موت ضروري؟» غير أن متعة أبي في جلوسه في مقهى النوفرة أنستني ذلك السؤال. بعد يوم الصمت العائلي ذهبت في اليوم التالي إلى المدرسة وأنا في حالة حزن شديد، غير أن دخول مدير المدرسة إلى الصف حاملا باقة زهور بيضاء غيّر مزاجي. وزع المدير زهوره علينا وأمرنا أن نقف على رصيف شارع النضال الذي كان القصر الأبيض بفصل بينه وبين مدرسة البتاوين التي كنت أدرس فيها.

حين خرجنا حاملين وردونا أشرف معلم الرسم على تنظيم صفوفنا وهو يقول بصوت باك «حين تمر السيارة التي تحمل النعش، لوحوا لها بالورود» في تلك اللحظة رأيت حشودا صامتة من البشر مصطفة على الرصيف المقابل. كانوا يديرون وجوههم إلى الجانب الأيسر وهو ما جعلني أقلدهم فألتفت إلى الجانب الأيمن. حينها رأيت موكبا يتقدم ببطء فأومأت بوردتي وهو ما دفع زملائي إلى تقليدي. كانت السيارة المكشوفة التي تتقدم الموكب تحمل تابوتا فيما وضعت في مقدمتها صورة لذلك المغنّي الذي كان أبي يهتز طربا كلما رآه يغني في التلفزيون الذي دخل بيتنا حديثا.

حين اقتربت تلك السيارة بجنازتها سمعت نشيجا ينطلق من الجانب الآخر من الشارع لا أظن أنه يشبه أيّ نشيج آخر. لا يزال إيقاع ذلك النشيج المدوزن يهبني فكرة عن بكاء مختلف. كان هناك يومها شعب يبكي من أجل فراق أحد أبنائه. بعد عقود من الزمن فهمت أن القدر الذي وهب العراق مطربا مثل ناظم الغزالي كان حريصا على أن يهبه شعبا مترفا بحساسيته الجمالية التي تدفعه إلى البكاء تفجّعا على غياب ذلك الفتى البغدادي الذي اخترق بمزاج عاطفته العالم. «هل الفن ضروري كالموت؟» سؤال حفرته تلك الواقعة في وجودي.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.