الفن والسياسة: مدرسة فرانكفورت نموذجا

السبت 2018/09/01
لوحة: ريم يسوف

يشهد تاريخ الفن أن الفن ليس مجرد ظاهرة جمالية فحسب. صحيح أن الظاهرة الجمالية تمثل البعد الماهوي للفن، لكن من الصحيح أيضا أن الفن يمثل ظاهرة تاريخية، أي ظاهرة تنشأ في سياق ظروف سياسية واجتماعية معينة، ومن ثم فإن البعد الجمالي للفن لا يكون أبدا بعدا خالصا ومجردا وإنما يكون مرتبطا بواقع سياسي واجتماعي، والحقيقة أن ارتباط الفن بالسياسة كان ولا يزال يمثل قضية أساسية في تاريخ الفن.

إن راديكالية الفن وطابعه الثوري قد أصبحا مطلبا ملحا في المجتمع المعاصر الذي أصبح يتسم بالتشيؤ والاغتراب مما أدى إلى التبعيد بين الفنان والمجتمع، وهذا هو ما دفع هربرت ماركوزة إلى التأكيد على الفردية والذاتية الفنية في مواجهة التركات السلطوية المختلفة التي تحاول تسييس الفن وقمع طاقته الثورية.

وهذه الراديكالية المميزة للعمل الفني عند ماركوزة لا ينبغي أن تطمس البعد الماهوي للفن المتمثل في بعده الجمالي، فالعمل الفني وإن كان مرتبطا بالواقع، فإنه يمثل في نفس الوقت ثورة عليه، لأنه وحده القادر على فضح الواقع وتعريته ووضع ذلك الواقع في قفص الاتهام منددا بالظلم والجور الموجودين في الواقع.

وذلك من خلال لغته الجمالية الخاصة ومن ثم تستطيع فهم البعد السياسي من خلال البعد الجمالي والبعد الجمالي من خلال البعد السياسي، ولكي نفهم علاقة الفن بالسياسة لابد أن نفهم أولاً علاقة الفن بالمتغيرات التقنية للمجتمع.

علاقة الفن بالمتغيرات التقنية للمجتمع:

لقد ظهرت علاقة التكنولوجيا بالقيم لأول مرة في محاورة جورجياس ﻷفلاطون، ففي هذه المحاورة ناقش سقراط طبيعة التقني Tekhne وطبيعة البلاغة، فميز بين الفنون الحقيقية التي تقوم على اللوجوس logos وتلك التي كانت يسمونها في اليونان مواهب Empiriace وفي الإنكليزية Knacks أو مجرد قواعد للإلهام مستمدة من التجربة لكن دون عقل أو سبب.

فعلاقة التقني بما له قيمة ظلت قضية أساسية منذ بواكير الفكر الفلسفي إلى وقتنا هذا، فهيدجر على سبيل المثال قد أبدى لهذه القضية اهتماماً عام 1977 وكذلك جاك إلون عام 1964 ومجموعة كبيرة من النقاد الاجتماعيين الذين يوصفون باعتبارهم تكنوفوبين Technophobic أي مصابين بعقدة التكنولوجيا.

أما عن مدرسة فرانكفورت فإن نقد التكنولوجيا يعتبر إحدى الدعائم الأساسية وبخاصة عند أعضائها الرواد مثل هربرت ماركوزة وأدورنو هوركهيمر، حيث ناقش هؤلاء الفلاسفة إشكالية الهيمنة والسيطرة على الأشياء التي تنتهك نزاهتها وكيانها وتدمرها وبأنه إذا كان هناك بد من استخدام التكنولوجيا فيجب أن يكون ذلك في ظل موقف قيمي، وذلك لأن العقل الأداتي والعقلية التقنية عند فلاسفة فرانكفورت أصبحا تحركهما القوة المسيطرة. إنه عقل متوافق ومنسجم مع الكلية الاستبدادية، وهناك حتمية لا يمكن نكرانها تتعلق بالتلاعب الهائل بالوعي من خلال التوجيه الأيديولوجي للإعلامية والاستهلاكية معا.

إن المغزى الأساسي من عبارة “الإنسان ذو البعد الواحد” أن التكنولوجيا، التي تعتبر إنجازا بشريا عظيما، تم توظيفها من خلال امتصاص طاقة الرفض من أولئك الذين كانوا في ظل الأنظمة السابقة يشكلون أصواتا وقوى انشقاقية، والتكنولوجيا تفعل ذلك بفضل الكفاية والوفرة.

لقد فطن فلاسفة فرانكفورت منذ البداية إلى جدلية العلاقة بين الفرد والمجتمع، وذلك بالتوافق مع كل من هيجل وماركس، ووصلوا إلى أن الوعي الذاتي للفرد يعد في نهاية الأمر وعيا اجتماعيا، لذلك فقد رفضوا فكرة نزول المجتمع إلى حالة الفرد كما يعلن علم الاجتماع عند هوفمن والفكرة المعاكسة وهي سيادة المجتمع على أفراده كما يعلن علم الاجتماع عند دوركايم. يقول أدورنو “ليس هناك وعي بالأنا دون المجتمع تماما كما إنه ليس هناك مجتمع متجاوز للأفراد”. تبعا لهذه العلاقة الجدلية فإن الفرد كامل التطور إنما هو تمام المجتمع مكتمل التطور، وأن تحرر الفرد ليس تحررا من المجتمع، لكن انعتاقا للمجتمع من العبودية، لأن التطور الكامل يحدث فقط في ظل مجتمع إنساني عادل، والكائن البشري قادر على تحقيق ذاته فقط باعتباره فردا في مجتمع عادل.

وهذه الفكرة قد وردت عند أفلاطون حيث يقول “إن افتراض الكرامة الإنسانية والتطور الكامل لكل فرد، ينبغي أن يصبح جزءا مكملا من بناء المجتمع″.

نقد مدرسة فرانكفورت لمفهوم صناعة الفن والثقافة

لقد اجتمع معظم فلاسفة فرانكفورت على أن الفرد وقع في شرك عالم يتمركز فيه رأس المال ويتداخل فيه الاقتصاد بنظام الحكم والسياسة بشكل متزايد. إنه عالم تأسره الإدارة ومن ثم جاء رد فعلهم على نحو مختلف وظهرت في المقابل محاولة لتطوير العديد من المفاهيم والمعتقدات المرسخة من قبل المجتمع، وذلك عن طريق تطوير علم اجتماع ثقافة الجماهير. فالوعي واللاوعي الفردي قد جرى انتهاكهما بفعل وسائل الإعلام (الراديو، التلفزيون، السينما… إلخ).

وكان ذلك هو الدافع الأساسي لتوجيه معظمهم، أي فلاسفة فرانكفورت، النقد للعقل المتسلط وأسسه المعرفية وتوجهاته الفكرية والأيديولوجية، فصار ذلك الطابع المميز لكتاباتهم، فمحاولة هربرت ماركوزة على سبيل المثال في كتاباته مثل (فلسفة النفي، الإنسان ذو البعد الواحد، إيروس والحضارة) هي نقد النوع الجديد من الممارسات الثقافية التي طورها النظام المتقدم للاتصال الجماهيري Mass communications والتي افتقدت تماما للجانب النقدي الذي يتمتع به الفن الإيجابي وأصبح على العكس للثقافة قيمة فاعلة تتمثل في تقنيات العرض والتسلع وأصبح الفن مستوعبا ضمن حالات الإشارة الموجهة.

تحليل فلاسفة فرانكفورت لنماذج صناعة الثقافة

Thumbnail

1- التلفزيون

تحت عنوان “التلفزيون ونماذج الثقافة” ناقش أدورنو مستويات المعنى في المسلسلات الكوميدية الأميركية، وأكد أن الاستجابات المرجوة يتم الحصول عليها عبر تلميحات معينة؛ فعلى سبيل المثال عندما يثار تساؤل عن نوع العرض في الإعلان، غالبا ما يتم تسجيل مسبق للضحك، فنسلم من البداية أن العرض يتمتع بقدر عال من الكوميديا، كما أن هناك بعض التعليقات التي تقدم عبر برامج التلفزيون تجعل المرء غير متيقن من الأهداف المرجوة منها، فآليات الاستجابة تتجه لتحدث ردود أفعال آلية تضعف من قوة “المقاومة الفردية”، كما قام أدورنو بتحليل بعض النماذج الفنية غير محددة الأهداف. نأخذ منها على سبيل المثال لا الحصر مسلسلا قد ذاع صيته، وأحدث رواجا كبيرا في أميركا تحت عنوان “قصة صراع″، “تدور أحداثه حول قصة صراع لمعلمة شابة من أجل البقاء، حيث تعاني من الجوع وتتقاضى أجرا ضعيفا… إلخ”، وتتوالى في المسلسل مواقف مضحكة ومسلية تحدث كلما حاولت هذه الفتاة أن تحصل على وجبة طعام. وصارت الإشارة المحددة للطعام تمثل مثيرا للإضحاك طوال المسلسل، وقد خلص أدورنو من خلال تحليله لهذا العرض إلى أن هذا العمل في حد ذاته لم يلفت النظر إلى أي معالجات فنية، بل تمثلت رسالته الأساسية في الدعوة إلى ضرورة التكيف مع الظروف المهنية، بحيث تصبح ردود الأفعال هي منظومة الجمهور الآلية، دون وعي في ما بعد، وتدعم فكرة الإشباع كفكرة ضرورية تعذر الأيديولوجيا الرأسمالية.

2- التنجيم

إن تشكيلات الاستجابة والافتراضات المسبقة الخاصة بصناعة الثقافة يتم تقديمها على نحو أكثر وضوحا وفق دراسة أدورنو للتنجيم، فنتائج تحليله لمضمون العمود اليومي الخاص بالتنجيم لجريدة لوس أنجلس تايمز على مدى ثلاثة شهور قد أسفرت عن عدة ملاحظات تم نشرها في دراسة تحت عنوان “النجوم تهبط إلى الأرض” عام 1957، حيث يحاول من خلالها أدورنو إثبات أن التنجيم التقليدي يمثل خرافة راسخة الجذور وهي أحد نتاجات صناعة الثقافة، ومن ثم يجب التعامل معها بنوع من التحليل، وقد أسفر تحليل أدورنو لظاهرة التنجيم هذه عن عدة نقاط هي:

1- إن أعمدة المنجمين تلك تحتل مكانة راسخة وتلفت النظر بجاذبيتها وموقفها العملي تجاه مشاكل الأفراد، كما تأتي آراؤهم دائما حول أقدار أفراد لا يعرفون شيئا عن وضعهم الخاص وظروفهم.

2- دائما ما تتردد عبارات “كن هادئا هذا اليوم رغم الصعوبات”، “على نحو قريب تأتي منافع مادية”، وتحليل هذه العبارات يحيلنا إلى أن المنجم يضع من خلال “سلطته الساحرة” تدعيما لأيديولوجيات معينة تتمثل في الثبات.

3- إن المعقولية الزائفة للنصيحة تضع قناعا على الطبيعة الاعتباطية والغامضة للسلطة، ويجري انتقاض الشخص من مصدر معلوماته، كما يصبح بعيدا أو غريبا عنه.

 يتعامل فكر التنجيم مع مصير الأفراد بشكل مستقل عن إرادتهم، وتبدو منظومة الحياة طبيعية لكنها تحمل في طياتها ثقة الأشخاص في عالم أبعد من عالمهم الداخلي والخارجي، فالمنجمون ينصحونك بأنه إذا أردت أن تحيا سعيدا فعليك أن تنسى الرغبات والحاجات المحيطة؛ لأن هذه الأمور لا يمكن تغييرها.

كما يتزود الشخص من خلال فكر التنجيم بحالة نفسية من الإشباع النرجسي الواهم، فيظن أنه شخص مهم في الواقع، لكنه يسلم في الوقت نفسه بأنه كائن خاضع. إن كاتب العمود اليومي هو عالم نفس شعبي على حد تعبير أدورنو؛ وذلك لأنه يلعب على المرتكزات الدفاعية للناس وهي “حب الذات، الأنانية” ويسعى إلى تعزيزها بدلا من تدميرها، وبذلك يعزز التنجيم التبعيات والتوافق مع الوضع الراهن وأخلاق العمل، وذلك ما أسماه “أوتوفينشل” Ottofenichel “بتطوير رد الفعل الذي ينطوي على مواقف وأعمال متناقضة”، وبذلك يعمل التنجيم على تعزيز اﻷيديولوجية الموجهة من قبل المجتمع.

3- الموسيقى

توضع الموسيقى ضمن الأشكال الاجتماعية الأخرى التي تكون في حاجة إلى التقدم التاريخي، بمعنى “ثورة الروح” تجاه الإلزام الخارجي لتحديد معنى الحرية، وبهذا المعنى تصبح للأعمال الموسيقية قيمة تاريخية، فرغم أن الأعمال الفنية تحقق انتشارا واسعا، إلا أن كل موت لشكل قديم يعد ميلادا لقوة جديدة وذلك ما يدعو إلى التفاؤل الفلسفي، وإعجاب أدورنو بالموسيقى الراديكالية لأنها لا تمثل استمرارية إضافية، ولكنها تعني توقفا تاريخيا وعزلة، فهي ليست موسيقى باطلة لكنها مبطلة للاستمرارية المميتة.

إن الحقيقة والواقع قد فرضا التعقيد على المدرسة الفرانكفورتية اليسارية التي تأثرت في موقفها تجاه مركزية الثقافة بكل من نيتشه، وهيدجر، وشبنجلر، حيث اجتمع هؤلاء الفلاسفة على أن الشكل الجمالي جاء ليحدد أصل الوجود التاريخي، وأن الفن والحياة مرتبطان مع بعضهما البعض، وهذا ما نجده لدى أقطاب فرانكفورت، الذين أجمعوا على أن الشكل الجمالي والثقافي ليس نشاطا فعالا لخدمة سياسات معينة، لكنه أكثر من ذلك لأنه مرتبط بالحياة نفسها، فالإحساس بالثقافة والجمال يمثل الأبعاد الوجودية المطلقة، ومن ثم فإن أزمة المظهر الكلي للتنوير هي أزمة التذوق الجمالي كما أوضحها أدورنو. فالفاعلية الجمالية والذوق هما المقياس الدال على الخبرة التاريخية، كما يعد التركيب الثقافي مؤشرا على مدى تقييمنا وتفاعلنا مع هذا العالم، لأن الثقافة تقدم نفسها دائما كاتجاه نحو الذوق.

يرى فلاسفة فرانكفورت أن الثقافة مثل العقل الذي قد يزيف ويقلد نفسه عندما يصل إلى النهاية، ولذلك فإن أزمة الثقافة في نهاية التاريخ هي المضي دون نهايات وهي نفس مشكلة الجمال عندما يكون كل شيء جميلا، فعند هذا المستوى يحدث التناقض وهي نفس حالة الفن عندما يصبح العالم جميلا. ويعد هذا تطورا طبيعيا للمجتمعات، إلا أن الأزمة التي تواجهنا الآن في نظرهم هي فشل الثقافة والفن في مجتمعنا الحالي قبل أن تصبح جميلة، وانتشار الذوق السيء هو المسؤول فقط عن تدهور الثقافة وليس التطور الطبيعي لها.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.