القارئ العربي ضحية القراءة المُراهِقَة
حين أتأمل، سوسيولوجيا وسيكولوجيا وثقافيا وسياسيا وحتى دينيا، العالم العربي، يبدو لي وكأن سن المراهقة هي أطول فترة في عمر الإنسان العربي، يعيش هذا الأخير حياته مراهقا، من المدرسة إلى المقبرة، من قراءة التهجّي الأولى إلى قراءة الرواية، من قراءة الفلسفة إلى قراءة السور القرآنية، من زيارة طبيب القلب إلى زيارة كاتب الحروز (التمائم) والطلاسم، والمراهقة عند العربي تتجلى في كل مناحي الحياة: المراهقة في الثقافة وفي السياسة وفي الإبداع وفي الدين.
فالقارئ العربي عموما، بغض النظر عن عمره، عشرينيا كان أم خمسينيا أم سبعينيا أم أكثر، يفضل بشكل عام قراءة الكتب ذات الطابع الاستهلاكي، أي التي تثير غريزته الجنسية أو الدينية أو السياسية.
فالقراءة العربية بجميع أشكالها، قراءة النصوص الأدبية، مشاهدة الأفلام، قراءة النصوص الدينية، كلها تتأسس داخل المراهقة الفكرية والعاطفية والجنسية والروحية.
لقد كان إحسان عبدالقدوس ونزار قباني أكثر الكتاب تأثيرا على القراءة والقراء لما في نصوصهما السردية أو الشعرية، من عزف على وتر العلاقات العاطفية المقدمة داخل سياقات أسلوبية مراهقة.
وما يثير القارئ العربي اليوم من روايات مغاربية أو خليجية، والتي تعرف انتشارا كبيرا بين القراء بفئات عمرية متفاوتة، هي تلك النصوص المفعمة بما يشبه الشعر المليء بالأنين والخواطر المحلقة حول النساء الجميلات وحكايات الحب والبكاء والإخفاق في العلاقات والفراق عن طريق الموت أو الهجران أو الخيانة.
روائيون وروائيات أصبحوا معروفين وتطبع «نصوصهم» بل وتقدم عنها مذكرات جامعية، لا لشيء إلا لأنها تتناسب وحس المراهقة الذي تعيشه الذات العربية، ذات منكسرة تريد التشبث بـ»الوهم» الرومانسي أو الرذاذ اللغوي الفارغ للخروج من مآزقها.
العربي وبشكل عام يتقاسم ويستهلك، بغض النظر عن عمره، شابا كان أم شيخا، المتع الثقافية الاستهلاكية نفسها، ولأن هناك غيابا تاما للتربية الجنسية في مدارسنا وجامعاتنا وأسرنا، فأكبر الثقافة الاستهلاكية هي تلك المرتبطة بالجنس
وحتى «قيم البطولة» التي يقدمها الكاتب العربي عموما، والتي يحبها القارئ بشكل عام، هي بطولة قائمة على الانتصار الرومانسي المراهقي الكاذب، فالقضية الفلسطينية يُتَعامَل معها بطريقة مراهقة سياسيا وأدبيا أيضا، والشاعر العربي منذ القدم وحتى الآن مصاب بـ»ليبيدو الميكرو» ومرض «الإنشاد» والخطابة والمنبرية، وهو في لاوعيه يمارس عملية مراهقة إبداعية ويمارس بطولة دونكيشوطية وهو يدرك ولو بشكل لاواع أن القارئ، الذي يمثل أفق الانتظار بالنسبة لهذا المبدع، هو الآخر يبحث عن ممارسة حالة من البطولة الاستمنائية التفريغية كسبيل للخلاص من أعطابه التي هي في المحصلة أعطاب وطنية تنموية شاملة.
ولقد حول العربي، من خلال الكتابة، كما من خلال قراءة هذه الكتابات، كثيرا من القضايا المصيرية في العالم العربي كالحرية والديمقراطية وقضية فلسطين إلى ميدان من القول واستهلاك القول بطريقة مراهقة، فالمنتج (الكاتب، المبدع، السياسي، الفقيه، السينمائي والمسرحي) والمستهلك (القارئ للكتب، مشاهد الأفلام، المؤمن بالله، المنتمي إلى الأحزاب) كلاهما يعيش داخل مراهقة، ويعيد إنتاجها بتلذذ وبكاء بالاستناد إلى «نظرية المؤامرة الخارجية».
ولعل طغيان استهلاك ثقافة المراهقة وغياب العقل والنقد من الحياة الثقافية هو ما جعل الإنسان العربي ضحية أيديولوجيا «الفروسية» المنتصرة التي تجعله يعيش خارج التاريخ بعيدا عن المشاركة في صناعته، وتجعله أيضا ضحية «الفحولة» الكاذبة أو «الحلم الكاذب» وهي حالة لا تنتج سوى الوهم والعقم وأمراض التغني بالذات.
هذه القراءة المراهقة سياسيا وجنسيا ودينيا، أنتجت لنا في العالم العربي مواطنا ومثقفا وشاعرا ورجل دين ضحية «ظاهرة الغضب»، والغضب هو حالة «مراهقة» قريبة من ظاهرة fugue، فالمثقف العربي شخصية «غاضبة» باستمرار، والغضب أو «التشنج» يدل على غياب طرق التواصل مع العالم بشكل خلاق وذكي.
تؤكد الكثير من مراكز الإحصاء الموثوق فيها والتابعة لمراكز البحوث السوسيولوجية والسيكولوجية النزيهة والمنتشرة عبر العالم، أن أكبر عدد مستهلكي قنوات الأفلام الإباحية هم من مشاهدي العالم العربي، انطلاقا من هذا السلوك الاستهلاكي، فالعربي، من المراهقة الصغرى إلى المراهقة الكبرى، يرتع بـ»هناء- قلق» في مشاهدة أفلام البورنو، وهي البضاعة الثقافية التي تشكل كثيرا من هواجسه وتهيكل رؤيته لـ»المرأة» و»الجمال» و»الجسد» وتؤسس لمخياله عن «الآخر».
في العالم العربي، وبشكل سري مقفل، يشترك الجد والأب والابن والحفيد في مشاهدة نفس البضاعة «الجنسية»، بطرق مقفلة وبصمت المجتمع، بطبيعة الحال كل هذا «السلوك الثقافي» المرضي يتم في نظام اجتماعي قائم على «نفاق أخلاقي» بألوان «الحشمة» المزيفة و»الاحترام» الظاهري و»التدين» الخارجي.
فالعربي وبشكل عام يتقاسم ويستهلك، بغض النظر عن عمره، شابا كان أم شيخا، المتع الثقافية الاستهلاكية نفسها، ولأن هناك غيابا تاما للتربية الجنسية في مدارسنا وجامعاتنا وأسرنا، فأكبر الثقافة الاستهلاكية هي تلك المرتبطة بالجنس، بجسد المرأة، وهي ثقافة يتعامل معها الإنسان العربي بمراهقة وفي غياب العقل والنقد والتأمل.