القبطان‭ ‬أميليو‭ ‬سالغاري.. مغامرات‭ ‬الكتابة‭ ‬والرحلة‭ ‬الأخيرة

الأربعاء 2017/02/01
جانب من تمثال إيطالي لسالغاري

لم ‭ ‬ينضب‭ ‬خيال‭ ‬القبطان‭ ‬سالغاري‭ ‬حتى‭ ‬أخر‭ ‬لحظة‭ ‬في‭ ‬حياته،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬لحظة‭ ‬موته‭ ‬أعلى‭ ‬قمة‭ ‬بلغها‭ ‬خياله،‭ ‬فكانت‭ ‬آخر‭ ‬مقطع‭ ‬روائي‭ ‬ختم‭ ‬به‭ ‬الكاتب‭ ‬رواية‭ ‬حياته‭ ‬العجيبة‭. ‬في‭ ‬ربيع‭ ‬1911‭ ‬ارتدت‭ ‬الأشجار‭ ‬جميل‭ ‬أوراقها‭ ‬والتحفت‭ ‬الأرض‭ ‬بالعشب‭ ‬الأخضر،‭ ‬بعد‭ ‬شتاء‭ ‬إيطالي‭ ‬قاسٍ‭. ‬تسلقت‭ ‬عاملة‭ ‬الغسيل‭ ‬الشابة‭ ‬لويجا‭ ‬كويريكو‭ ‬مصادفة‭ ‬أحد‭ ‬تلال‭ ‬مدينة‭ ‬تورينو‭ ‬في‭ ‬الساعة‭ ‬السادسة‭ ‬والنصف‭ ‬من‭ ‬عصر‭ ‬يوم‭ ‬25‭ ‬نيسان‭ ‬لتجمع‭ ‬الحطب‭ ‬من‭ ‬غابة‭ ‬صغيرة‭ ‬كثيفة‭ ‬الأشجار،‭ ‬تقع‭ ‬فوق‭ ‬ذلك‭ ‬التل‭. ‬ولطالما‭ ‬ارتاد‭ ‬سالغاري‭ ‬تلك‭ ‬الغابة‭ ‬للنزهة‭ ‬مع‭ ‬زوجته‭ ‬وأبنائه،‭ ‬وكانت‭ ‬تتراءى‭ ‬له‭ ‬كمكان‭ ‬أسطوري‭ ‬قد‭ ‬تدور‭ ‬فيه‭ ‬شتى‭ ‬المغامرات،‭ ‬ولعله‭ ‬أدرك‭ ‬أنه‭ ‬سيختاره،‭ ‬يوما‭ ‬ما،‭ ‬ليقوم‭ ‬بآخر‭ ‬وأعظم‭ ‬مغامرات‭ ‬حياته‭. ‬وبينما‭ ‬كانت‭ ‬الشابة‭ ‬تجمع‭ ‬الحطب‭ ‬وإذا‭ ‬بها‭ ‬تصطدم‭ ‬بمشهد‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬لتنساه‭ ‬طوال‭ ‬حياتها‭. ‬وسط‭ ‬تلك‭ ‬الأشجار‭ ‬رأت‭ ‬الشابة‭ ‬رجلا‭ ‬بملابس‭ ‬أنيقة‭ ‬مستلقيا‭ ‬فوق‭ ‬العشب‭ ‬وكأنه‭ ‬يغط‭ ‬في‭ ‬نوم‭ ‬عميق،‭ ‬وجنبه‭ ‬عصاه‭ ‬وقبعته‭ ‬وجاكيته‭. ‬وحين‭ ‬اقتربت‭ ‬أكثر‭ ‬رأت‭ ‬أن‭ ‬الرجل‭ ‬يمسك‭ ‬بيده‭ ‬شفرة‭ ‬حلاقة‭ ‬ملطخة‭ ‬بالدماء‭. ‬أصيبت‭ ‬الشابة‭ ‬بالهلع‭ ‬حين‭ ‬أيقنت‭ ‬أن‭ ‬الرجل‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬نائما،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬رأت‭ ‬الدم‭ ‬اليابس‭ ‬وقد‭ ‬سال‭ ‬بغزارة‭ ‬من‭ ‬رقبته‭ ‬وبطنه‭ ‬حتى‭ ‬صبغ‭ ‬العشب‭ ‬باللون‭ ‬الأحمر‭. ‬حينما‭ ‬اجتمع‭ ‬سكان‭ ‬مدينة‭ ‬تورينو‭ ‬حول‭ ‬ذلك‭ ‬الجسد‭ ‬أدركوا‭ ‬فوراً‭ ‬أن‭ ‬الرجل‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬سوى‭ ‬الكاتب‭ ‬أميليو‭ ‬سالغاري‭.‬

في‭ ‬الصباح‭ ‬الباكر‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬استيقظ‭ ‬سالغاري‭ ‬ولا‭ ‬أحد‭ ‬يعلم‭ ‬ما‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬رأسه‭. ‬ارتدى‭ ‬بذلته‭ ‬الرصاصية‭ ‬الأنيقة،‭ ‬وأعد‭ ‬الفطور‭ ‬لأبنائه‭ ‬قبل‭ ‬خروجه،‭ ‬ثم‭ ‬ترك‭ ‬ثلاث‭ ‬رسائل‭ ‬على‭ ‬طاولة‭ ‬المطبخ،‭ ‬الأولى‭ ‬لهم،‭ ‬الثانية‭ ‬لناشريه‭ ‬والثالثة‭ ‬لرؤساء‭ ‬تحرير‭ ‬الصحف‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يعمل‭ ‬لحسابها‭. ‬تسلق‭ ‬ذلك‭ ‬التل‭ ‬حتى‭ ‬غابة‭ ‬المغامرات،‭ ‬في‭ ‬جيبه‭ ‬شفرة‭ ‬حلاقة‭ ‬وفي‭ ‬ذهنه‭ ‬فكرة‭ ‬سيطرت‭ ‬عليه،‭ ‬وقد‭ ‬صرح‭ ‬بها‭ ‬لأبنائه‭ ‬في‭ ‬الرسالة‭ ‬التي‭ ‬تركها‭ ‬لهم‭ ‬‮«‬أنا‭ ‬لست‭ ‬سوى‭ ‬رجل‭ ‬مهزوم‮»‬‭. ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬أعلى‭ ‬قمة‭ ‬في‭ ‬الغابة،‭ ‬أشعل‭ ‬آخر‭ ‬سيجارة‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬ثم‭ ‬تناول‭ ‬الشفرة،‭ ‬وكبطل‭ ‬ساموراي‭ ‬لا‭ ‬يقبل‭ ‬الهزيمة‭ ‬والوقوع‭ ‬بين‭ ‬يدي‭ ‬أعدائه،‭ ‬بقر‭ ‬بطنه‭ ‬وقطع‭ ‬شريان‭ ‬رقبته‭ ‬وبقي‭ ‬ينزف‭ ‬حتى‭ ‬الموت‭. ‬مات‭ ‬هذا‭ ‬الكاتب‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬أحب‭ ‬الشرق‭ ‬وشُغف‭ ‬به،‭ ‬ميتة‭ ‬أسطورية‭ ‬كأحد‭ ‬أبطال‭ ‬الساموراي‭ ‬اليابانيين،‭ ‬وحينما‭ ‬عثرت‭ ‬عليه‭ ‬تلك‭ ‬الشابة‭ ‬كانت‭ ‬الشمس‭ ‬الربيعية‭ ‬في‭ ‬الطرف‭ ‬الآخر‭ ‬من‭ ‬الأفق،‭ ‬تعلن‭ ‬نهاية‭ ‬آخر‭ ‬رحلة‭ ‬للقبطان‭ ‬أميليو‭ ‬سالغاري‭. ‬وربما‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬الأخيرة‭.‬

نعم،‭ ‬فالموت‭ ‬لم‭ ‬ينه‭ ‬مغامرات‭ ‬سالغاري،‭ ‬وتلك‭ ‬الرحلة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬الأخيرة‭. ‬آخر‭ ‬رحلة‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬القبطان‭ ‬كانت‭ ‬يوم‭ ‬12‭ ‬آذار‭ ‬1912،‭ ‬بعد‭ ‬موته‭ ‬بأقل‭ ‬من‭ ‬عام،‭ ‬حين‭ ‬نُقل‭ ‬رفاته‭ ‬إلى‭ ‬مدينته‭ ‬الأم‭ ‬ومسقط‭ ‬رأسه‭ ‬فيرونا،‭ ‬وكان‭ ‬على‭ ‬متن‭ ‬سفينة‭ ‬خشبية‭ ‬صغيرة،‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬يسميها‭ ‬الناس‭ ‬تابوت‭.‬

المولع‭ ‬بالبحر

ولد‭ ‬أميليو‭ ‬سالغاري‭ ‬في‭ ‬فيرونا،‭ ‬في‭ ‬21‭ ‬آب‭ ‬1862،‭ ‬وكان‭ ‬أبوه‭ ‬لويجي‭ ‬سالغاري‭ ‬تاجر‭ ‬ألبسة،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬امتلاكه‭ ‬لبعض‭ ‬الأراضي،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬كانت‭ ‬أمه‭ ‬لويجا‭ ‬غرادارا‭ ‬من‭ ‬عائلة‭ ‬فينيسية‭ ‬مترفة‭. ‬وكان‭ ‬في‭ ‬طفولته‭ ‬حيوياً‭ ‬ونشيطاً،‭ ‬ويؤكد‭ ‬رفاق‭ ‬الصبا‭ ‬أن‭ ‬صحبته‭ ‬لا‭ ‬تُملّ،‭ ‬وأنه‭ ‬حين‭ ‬يقدم‭ ‬عليهم‭ ‬فإن‭ ‬الجميع‭ ‬يركض‭ ‬للقائه‭ ‬والاستماع‭ ‬لما‭ ‬يأتي‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬حكاياته،‭ ‬بينما‭ ‬القبعة‭ ‬البحرية‭ ‬لا‭ ‬تفارق‭ ‬رأسه‭. ‬وكان‭ ‬طفلا‭ ‬حذقاً‭ ‬ومشاكساً،‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬المغامرات‭ ‬ويسعى‭ ‬في‭ ‬خلقها‭ ‬مع‭ ‬رفاقه‭. ‬ويروى‭ ‬عن‭ ‬نجار‭ ‬كان‭ ‬يهزأ‭ ‬منه‭ ‬الأطفال‭ ‬دائما،‭ ‬وكان‭ ‬سالغاري‭ ‬يجتمع‭ ‬برفاقه‭ ‬ثم‭ ‬يصيح‭ ‬بلهجة‭ ‬القائد‭:‬‮»‬هيا‭ ‬لنهجم‭ ‬على‭ ‬قلعة‭ ‬بيلوريو‮»‬،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬قلعة‭ ‬بيلوريو‭ ‬النجار‭ ‬تلك‭ ‬سوى‭ ‬كوخ‭ ‬خشبي‭ ‬صغير،‭ ‬ينهال‭ ‬عليها‭ ‬الأطفال‭ ‬ضربا‭ ‬بالحصى‭. ‬بينما‭ ‬يروي‭ ‬رفيق‭ ‬صبا‭ ‬أحدى‭ ‬مغامرات‭ ‬سالغاري‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬مخاطر،‭ ‬إذ‭ ‬يقول‭ ‬‮«‬بعد‭ ‬يوم‭ ‬شديد‭ ‬المطر‭ ‬فاض‭ ‬نهر‭ ‬برونيو‭ ‬الواقع‭ ‬على‭ ‬أحد‭ ‬جوانب‭ ‬البلدة،‭ ‬فقام‭ ‬سالغاري‭ ‬بصنع‭ ‬عوامة‭ ‬من‭ ‬أربع‭ ‬قطع‭ ‬من‭ ‬الخشب،‭ ‬ثم‭ ‬صنع‭ ‬مجدافا‭ ‬ونزل‭ ‬إلى‭ ‬النهر،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الموج‭ ‬قلبه‭ ‬فسقط‭ ‬في‭ ‬الماء‭ ‬واستطاع‭ ‬الأصدقاء‭ ‬إنقاذه‭ ‬بصعوبة‭. ‬وفي‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬جلب‭ ‬معه‭ ‬سلة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الخشب‭ ‬كان‭ ‬يستخدمها‭ ‬أبوه‭ ‬في‭ ‬جمع‭ ‬الملابس،‭ ‬ونزل‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬النهر،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬جنحت‭ ‬بعد‭ ‬بضعة‭ ‬أمتار‮»‬‭. ‬ويروى‭ ‬عنه‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المغامرات‭ ‬في‭ ‬صباه‭ ‬والتي‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬خياله‭ ‬الواسع‭ ‬وروحه‭ ‬الطليقة‭ ‬كنورس‭ ‬يحلق‭ ‬فوق‭ ‬البحار‭.‬

بعد‭ ‬أن‭ ‬أكمل‭ ‬الابتدائية‭ ‬تقدم‭ ‬سالغاري‭ ‬للاختبار‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬خاصة‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬فشل‭ ‬في‭ ‬الاختبار،‭ ‬فقدم‭ ‬للدراسة‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬حكومية،‭ ‬وكانت‭ ‬نتائج‭ ‬الاختبارات‭ ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬بها‭. ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬أنهى‭ ‬المدرسة‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1878،‭ ‬قدم‭ ‬للدراسة‭ ‬في‭ ‬المعهد‭ ‬البحري‭ ‬في‭ ‬فينيسيا،‭ ‬لولعه‭ ‬منذ‭ ‬صغره‭ ‬بالبحر‭ ‬ومغامراته‭. ‬لم‭ ‬يتجاوز‭ ‬آنذاك‭ ‬السادسة‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬العمر،‭ ‬وقد‭ ‬بدأت‭ ‬عندها‭ ‬رحلته‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭. ‬ففي‭ ‬ذلك‭ ‬العمر،‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬قبله،‭ ‬كان‭ ‬سالغاري‭ ‬قد‭ ‬كتب‭ ‬بعض‭ ‬الشعر‭ ‬وقصص‭ ‬المغامرات،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬رواية‭ ‬في‭ ‬عدة‭ ‬فصول‭ ‬تحمل‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬مغامرات‭ ‬سيمون‭ ‬فان‭ ‬دير‭ ‬في‭ ‬غينيا‭ ‬الجديدة‮»‬‭. ‬وكانت‭ ‬قصصه‭ ‬وروايته‭ ‬تحمل‭ ‬في‭ ‬طياتها‭ ‬بعض‭ ‬الرسوم‭ ‬لأحداثها‭ ‬وبعض‭ ‬الخرائط‭ ‬الجغرافية‭ ‬للأماكن‭ ‬التي‭ ‬تدور‭ ‬فيها‭ ‬الأحداث‭. ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬أول‭ ‬بدايات‭ ‬سالغاري‭ ‬في‭ ‬صباه‭ ‬والتي‭ ‬تنم‭ ‬عن‭ ‬حبه‭ ‬للكتابة‭ ‬والجغرافيا‭ ‬والرسم‭. ‬أما‭ ‬حلمه‭ ‬الكبير‭ ‬فكان‭ ‬ركوب‭ ‬البحر‭ ‬والتجوال‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬القصية،‭ ‬وكان‭ ‬شغفه‭ ‬هذا‭ ‬قد‭ ‬غذته‭ ‬روايات‭ ‬المغامرة‭ ‬التي‭ ‬قرأها‭ ‬في‭ ‬صغره،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬المجلات‭ ‬التي‭ ‬تتناول‭ ‬حكايات‭ ‬الترحال‭ ‬والسفر‭. ‬فكان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬يتقدم‭ ‬سالغاري‭ ‬للدراسة‭ ‬في‭ ‬المعهد‭ ‬البحري‭ ‬في‭ ‬فينيسيا،‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يجتز‭ ‬الاختبار‭ ‬الأخير‭ ‬الذي‭ ‬يؤهله‭ ‬ليصبح‭ ‬قبطانا،‭ ‬ولم‭ ‬يعاود‭ ‬المحاولة‭ ‬مطلقا‭.‬‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬قصصه‭ ‬يؤكد‭ ‬سالغاري‭ ‬أنه‭ ‬ركب‭ ‬البحر،‭ ‬برتبة‭ ‬قبطان،‭ ‬وقد‭ ‬اجتاز‭ ‬البحر‭ ‬المتوسط‭ ‬وصولا‭ ‬إلى‭ ‬الشرق‭. ‬وقد‭ ‬أكد‭ ‬أغلب‭ ‬الباحثين‭ ‬المختصين‭ ‬بدراسة‭ ‬حياته‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬قد‭ ‬حدث‭ ‬فعلا‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬خريف‭ ‬1881‭ ‬وربيع‭ ‬1882،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أمبرتو‭ ‬بيرتوجولي،‭ ‬نائب‭ ‬قبطان‭ ‬وكاتب،‭ ‬يؤكد‭ ‬خلاف‭ ‬ذلك‭. ‬فهو‭ ‬لم‭ ‬يعثر‭ ‬مطلقا‭ ‬على‭ ‬اسم‭ ‬سالغاري‭ ‬في‭ ‬قائمة‭ ‬بحاري‭ ‬المملكة،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬سالغاري‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬برتبة‭ ‬قبطان‭ ‬أولا،‭ ‬ثم‭ ‬إنه‭ ‬لم‭ ‬يبلغ‭ ‬حينذاك‭ ‬الرابعة‭ ‬والعشرين‭ ‬من‭ ‬العمر،‭ ‬وهو‭ ‬السن‭ ‬القانوني‭ ‬لرتبة‭ ‬القبطان‭. ‬الاحتمال‭ ‬الوحيد،‭ ‬برأي‭ ‬بيرتوجولي،‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الكاتب‭ ‬اجتاز‭ ‬البحر‭ ‬كمسافر‭ ‬عادي‭ ‬على‭ ‬حسابه‭ ‬الخاص‭. ‬ويعتقد‭ ‬الباحثون‭ ‬أن‭ ‬سالغاري‭ ‬سافر‭ ‬إلى‭ ‬الشرق،‭ ‬ووصل‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭ ‬وإلى‭ ‬الهند،‭ ‬وقد‭ ‬أشار‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬رسائله‭ ‬إلى‭ ‬أحد‭ ‬أصدقائه‭ ‬الرحالة،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬وثائق،‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬تؤكد‭ ‬ذلك‭.‬

عين‭ ‬على‭ ‬أفريقيا

بدأ‭ ‬سالغاري‭ ‬مسيرته‭ ‬الأدبية‭ ‬ككاتب‭ ‬مقالات‭ ‬صحفية،‭ ‬وكانت‭ ‬أولى‭ ‬مقالاته،‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬العامين‭ ‬1883‭ ‬و1885،‭ ‬تنشر‭ ‬في‭ ‬صحيفة‭ ‬‮«‬نووفا‭ ‬فيرونا‮»‬‭ ‬أكبر‭ ‬الصحف‭ ‬المحلية‭ ‬آنذاك،‭ ‬وتتناول‭ ‬ما‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الحين،‭ ‬في‭ ‬أفريقيا‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭. ‬وأصبح‭ ‬بعد‭ ‬وقت‭ ‬قصير‭ ‬رئيس‭ ‬تحرير‭ ‬الصحيفة،‭ ‬وكان‭ ‬ينشر‭ ‬فيها‭ ‬أيضا‭ ‬بعض‭ ‬المقالات‭ ‬عن‭ ‬العروض‭ ‬المسرحية‭ ‬التي‭ ‬يحضرها،‭ ‬كأعمال‭ ‬‮«‬جاكوينو‭ ‬روسيني،‭ ‬جوسيبي‭ ‬فيردي،‭ ‬غايتانو‭ ‬دونيزيتي‮»‬‭ ‬وآخرين‭. ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬بدأ‭ ‬ينشر‭ ‬أيضا‭ ‬بعض‭ ‬القصص‭ ‬والروايات‭ ‬في‭ ‬حلقات،‭ ‬ظهرت‭ ‬على‭ ‬مختلف‭ ‬الصحف‭ ‬الإيطالية،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬معتاد‭ ‬آنذاك،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬كبار‭ ‬الكتاب‭ ‬ينشرون‭ ‬كتاباتهم‭ ‬في‭ ‬حلقات‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تقوم‭ ‬إحدى‭ ‬دور‭ ‬النشر‭ ‬بطباعة‭ ‬العمل‭ ‬كاملاً‭. ‬وفي‭ ‬العام‭ ‬1887‭ ‬نُشرت‭ ‬كاملة‭ ‬أولى‭ ‬رواياته،‭ ‬‮«‬محظية‭ ‬المهدي‮»‬،‭ ‬وتدور‭ ‬أحداثها‭ ‬في‭ ‬السودان،‭ ‬إبان‭ ‬ثورة‭ ‬محمد‭ ‬المهدي‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬سالغاري‭ ‬يتتبع‭ ‬أخبارها‭ ‬باهتمام‭ ‬شديد،‭ ‬لشغفه‭ ‬بتلك‭ ‬الأراضي‭ ‬البعيدة‭. ‬وهي‭ ‬رواية‭ ‬حب‭ ‬ومغامرة،‭ ‬تشبه‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬ما‭ ‬قصص‭ ‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة،‭ ‬وتروي‭ ‬قصة‭ ‬فاطمة،‭ ‬محظية‭ ‬المهدي،‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬ترغب‭ ‬بسيدها‭ ‬فتعمد‭ ‬إلى‭ ‬الهرب‭ ‬من‭ ‬قصر‭ ‬السلطان،‭ ‬وبينما‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬الصحراء‭ ‬يهاجمها‭ ‬الأسد‭ ‬فيسرع‭ ‬في‭ ‬إنقاذها‭ ‬الشاب‭ ‬كريم،‭ ‬عندها‭ ‬يقع‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬في‭ ‬حب‭ ‬الآخر‭. ‬وحين‭ ‬تصل‭ ‬أخبار‭ ‬الشابين‭ ‬إلى‭ ‬المهدي‭ ‬يأمر‭ ‬فرقة‭ ‬من‭ ‬جيشه‭ ‬بتتبعهما‭ ‬والقبض‭ ‬عليهما‭. ‬وبعد‭ ‬مغامرات‭ ‬مثيرة‭ ‬يقع‭ ‬الاثنان‭ ‬في‭ ‬قبضة‭ ‬المهدي،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬يصفح‭ ‬عنهما‭ ‬ويتركهما‭ ‬بسلام‭.‬

بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بعامين‭ ‬أصيب‭ ‬أبوه‭ ‬بمرض‭ ‬كان‭ ‬يظنه‭ ‬خبيثا،‭ ‬فسيطرت‭ ‬عليه‭ ‬الكآبة‭ ‬والحزن‭ ‬مما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬انتحاره‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬الليل،‭ ‬إذ‭ ‬رمى‭ ‬بنفسه‭ ‬من‭ ‬شباك‭ ‬الطابق‭ ‬العلوي‭ ‬لبيت‭ ‬أخته‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬فيرونا‭. ‬وقد‭ ‬أثّر‭ ‬ذلك‭ ‬كثيرا‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬سالغاري،‭ ‬مما‭ ‬حدا‭ ‬به،‭ ‬بعد‭ ‬بضع‭ ‬سنين،‭ ‬أن‭ ‬يهجر‭ ‬فيرونا‭ ‬إلى‭ ‬تورينو‭ ‬عام‭ ‬1893،‭ ‬وكان‭ ‬انتقال‭ ‬سالغاري‭ ‬إلى‭ ‬تورينو‭ ‬نقطة‭ ‬فاصلة‭ ‬في‭ ‬سيرته،‭ ‬إذ‭ ‬بدأ‭ ‬هناك‭ ‬بتكريس‭ ‬حياته‭ ‬للكتابة‭ ‬بشكل‭ ‬كامل‭. ‬ولكن‭ ‬قبل‭ ‬رحيله‭ ‬بعام‭ ‬وقع‭ ‬الشاب‭ ‬سالغاري‭ ‬بحب‭ ‬إيدا‭ ‬بيتروتسي،‭ ‬والتي‭ ‬طالما‭ ‬سماها‭ ‬آيدا‭. ‬وكانت‭ ‬إيدا‭ ‬آنذاك‭ ‬ممثلة‭ ‬في‭ ‬المسرح،‭ ‬وقد‭ ‬سطع‭ ‬نجمها‭ ‬وبدأت‭ ‬تحقق‭ ‬نجاحات‭ ‬كبرى،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬ضحت‭ ‬بحبها‭ ‬للمسرح‭ ‬وبمسيرتها‭ ‬الفنية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬سالغاري‭. ‬وقد‭ ‬تكلل‭ ‬حبهما‭ ‬بالزواج‭ ‬عام‭ ‬1892،‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬بعام‭ ‬انتقلوا‭ ‬للعيش‭ ‬في‭ ‬تورينو‭.‬

دعوة‭ ‬إلى‭ ‬المبارزة

قبل‭ ‬رحيله‭ ‬عن‭ ‬فيرونا‭ ‬تعرض‭ ‬سالغاري‭ ‬إلى‭ ‬الإهانة،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬شكك‭ ‬أحد‭ ‬محرري‭ ‬الصحف‭ ‬المحلية‭ ‬آنذاك‭ ‬في‭ ‬صدق‭ ‬إدعائه‭ ‬رتبة‭ ‬قبطان،‭ ‬مما‭ ‬دفع‭ ‬سالغاري‭ ‬إلى‭ ‬تحديه‭ ‬في‭ ‬المبارزة‭. ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬سالغاري‭ ‬مولعا‭ ‬بالمبارزة،‭ ‬بل‭ ‬وقام‭ ‬بدورات‭ ‬تدريبية‭ ‬كثيرة،‭ ‬وعمل‭ ‬لبعض‭ ‬الوقت‭ ‬في‭ ‬سكريترية‭ ‬أحد‭ ‬الأندية‭ ‬التي‭ ‬تُعلّم‭ ‬المبارزة‭. ‬فكانت‭ ‬نتيجة‭ ‬المبارزة‭ ‬أن‭ ‬انتصر‭ ‬سالغاري‭ ‬وسقط‭ ‬الآخر‭ ‬جريحا،‭ ‬فاستعاد‭ ‬بذلك‭ ‬كرامته‭. ‬وكان‭ ‬لفن‭ ‬المبارزة‭ ‬والفروسية‭ ‬حضور‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬روايات‭ ‬سالغاري،‭ ‬وقد‭ ‬أبدع‭ ‬في‭ ‬تصوير‭ ‬تلك‭ ‬اللحظات،‭ ‬وهو‭ ‬يصف‭ ‬لنا‭ ‬ببراعة‭ ‬الكاتب‭ ‬ومهارة‭ ‬المبارز‭ ‬كيف‭ ‬يدور‭ ‬القتال‭ ‬وما‭ ‬يمر‭ ‬به‭ ‬المتبارزان‭ ‬من‭ ‬صعوبات‭ ‬وتحديات‭.‬

وقد‭ ‬أحب‭ ‬سالغاري‭ ‬زوجته‭ ‬إيدا‭ ‬حبا‭ ‬جما،‭ ‬وكانت‭ ‬بينهما‭ ‬مراسلات‭ ‬تشي‭ ‬بهذا‭ ‬الحب‭ ‬الكبير،‭ ‬رغم‭ ‬ذلك‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬حياتهما‭ ‬العائلية‭ ‬مضطربة‭ ‬ومليئة‭ ‬بالمشاكل‭. ‬وربما‭ ‬كانت‭ ‬الكتابة‭ ‬أحد‭ ‬الأسباب‭ ‬الرئيسية‭ ‬في‭ ‬اضطراب‭ ‬الحياة‭ ‬العائلية،‭ ‬خصوصا‭ ‬بعد‭ ‬انتقالهما‭ ‬إلى‭ ‬تورينو،‭ ‬إذ‭ ‬كرس‭ ‬سالغاري‭ ‬كل‭ ‬وقته‭ ‬للكتابة‭ ‬والقراءة،‭ ‬ورغم‭ ‬كثرة‭ ‬ما‭ ‬تصدر‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬روايات‭ ‬وقصص‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬المردود‭ ‬المالي‭ ‬ضئيلا‭ ‬جدا‭ ‬قياسا‭ ‬بالجهد‭ ‬المبذول‭. ‬وكان‭ ‬لسوء‭ ‬الحالة‭ ‬المادية‭ ‬تأثير‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬المشاكل‭ ‬العائلية،‭ ‬وقد‭ ‬أدى‭ ‬بالتالي‭ ‬إلى‭ ‬انتحار‭ ‬الكاتب‭.‬

وكان‭ ‬ولع‭ ‬سالغاري‭ ‬بالبلدان‭ ‬القصية،‭ ‬الشرق‭ ‬بصورة‭ ‬خاصة،‭ ‬قد‭ ‬دفع‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬تسمية‭ ‬ثلاثة‭ ‬من‭ ‬أبنائه‭ ‬بأسماء‭ ‬تبدو‭ ‬غريبة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الحين‭: ‬فاطمة،‭ ‬البنت‭ ‬الكبرى،‭ ‬نذير،‭ ‬روميرو‭ ‬وعمر‭. ‬بل‭ ‬ومن‭ ‬شدة‭ ‬ولعه‭ ‬بالسفر‭ ‬والترحال،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬استحال‭ ‬عليه‭ ‬القيام‭ ‬بتلك‭ ‬المغامرات،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬خياله‭ ‬في‭ ‬ترحال‭ ‬دائم،‭ ‬وكان‭ ‬أبطاله‭ ‬يجوبون‭ ‬البحار‭ ‬والصحاري‭ ‬والغابات‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬كان‭ ‬سالغاري‭ ‬يحلم‭ ‬بالوصول‭ ‬إليها‭. ‬فكانت‭ ‬مسرح‭ ‬أحداث‭ ‬رواياته‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬يصعب‭ ‬الوصول‭ ‬إليها‭ ‬آنذاك،‭ ‬مثل‭ ‬أميركا‭ ‬الجنوبية‭ ‬ببحارها‭ ‬ومحيطاتها‭ ‬وغاباتها،‭ ‬والشرق‭ ‬وصحاريه‭. ‬وكان‭ ‬سالغاري‭ ‬يستقي‭ ‬معلوماته‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الأماكن‭ ‬البعيدة‭ ‬والغريبة‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬التاريخ‭ ‬والجغرافيا‭ ‬والموسوعات‭ ‬والصحف‭ ‬المحلية‭ ‬التي‭ ‬تعنى‭ ‬آنذاك‭ ‬بقضايا‭ ‬تلك‭ ‬البلدان‭. ‬وقسم‭ ‬سالغاري‭ ‬وقته‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الكتابة‭ ‬والمكتبة،‭ ‬حيث‭ ‬يذهب‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬مسرح‭ ‬لأحداث‭ ‬رواياته،‭ ‬عن‭ ‬معلومات‭ ‬كان‭ ‬يقوم‭ ‬بتقييدها‭ ‬في‭ ‬دفتره‭ ‬لتصبح‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬مادة‭ ‬لرواياته‭ ‬وقصصه‭.‬

فارس‭ ‬التاج

ملأت‭ ‬رواياته‭ ‬رفوف‭ ‬المكتبات،‭ ‬فكان‭ ‬الإقبال‭ ‬عليها‭ ‬شديدا‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭ ‬وخارجها،‭ ‬وذلك‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تُرجم‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬أعماله‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭. ‬ولكثرة‭ ‬نتاجه‭ ‬الأدبي‭ ‬قامت‭ ‬ملكة‭ ‬إيطاليا‭ ‬آنذاك‭ ‬مارغريتا‭ ‬دي‭ ‬سافويا‭ ‬بتكريمه‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1897‭ ‬ومنحته‭ ‬لقبا‭ ‬شرفيا‭ ‬هو‭ ‬‮«‬فارس‭ ‬التاج‭ ‬الإيطالي‮»‬‭. ‬على‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يغير‭ ‬من‭ ‬سوء‭ ‬حالته‭ ‬المادية،‭ ‬والتي‭ ‬ازدادت‭ ‬سوءا‭ ‬بمرض‭ ‬زوجته‭ ‬إيدا،‭ ‬وقد‭ ‬بدت‭ ‬عليها‭ ‬أعراض‭ ‬الجنون،‭ ‬فكانت‭ ‬أعباء‭ ‬العلاج‭ ‬تزيد‭ ‬من‭ ‬حاجته‭ ‬للمال،‭ ‬وقد‭ ‬أدى‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬تعاقده‭ ‬مع‭ ‬دار‭ ‬نشر‭ ‬ألزمته‭ ‬بإصدار‭ ‬ثلاث‭ ‬روايات‭ ‬سنويا‭. ‬فصار‭ ‬سالغاري‭ ‬يكتب‭ ‬طوال‭ ‬اليوم،‭ ‬وكانت‭ ‬يده‭ ‬تراوح‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬القلم‭ ‬والكأس‭ ‬والسيجارة،‭ ‬وقد‭ ‬ازداد‭ ‬إقباله‭ ‬على‭ ‬شرب‭ ‬النبيذ‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الآونة‭ ‬وكان‭ ‬يدخن‭ ‬ما‭ ‬يقارب‭ ‬المئة‭ ‬سيجارة‭ ‬يوميا‭. ‬وفي‭ ‬الأشهر‭ ‬الأخيرة‭ ‬ساءت‭ ‬حالة‭ ‬زوجته‭ ‬الصحية‭ ‬فنُقلت‭ ‬إلى‭ ‬مستشفى‭ ‬الأمراض‭ ‬العقلية،‭ ‬وقد‭ ‬أثّر‭ ‬فيه‭ ‬ذلك‭ ‬كثيرا،‭ ‬مما‭ ‬دفعه‭ ‬إلى‭ ‬الانتحار‭ ‬صباح‭ ‬يوم‭ ‬25‭ ‬نيسان‭ ‬1911،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ترك‭ ‬ثلاث‭ ‬رسائل،‭ ‬يتوجه‭ ‬في‭ ‬إحداها‭ ‬إلى‭ ‬ناشريه‭ ‬قائلاً‭ ‬‮«‬أوجه‭ ‬رسالتي‭ ‬إليكم،‭ ‬انتم‭ ‬الذين‭ ‬جنيتم‭ ‬أموالا‭ ‬كثيرة‭ ‬بفضل‭ ‬قلمي،‭ ‬بينما‭ ‬جعلتموني‭ ‬وعائلتي‭ ‬أعيش‭ ‬في‭ ‬بؤس‭ ‬مدقع،‭ ‬أطلب‭ ‬منكم‭ ‬فقط‭ ‬أن‭ ‬تتكلفوا‭ ‬بمراسيم‭ ‬دفني‭ ‬بدلا‭ ‬عن‭ ‬الأرباح‭ ‬التي‭ ‬جنيتموها‭ ‬بفضلي‭. ‬أودعكم‭ ‬بكسر‭ ‬قلمي‮»‬‭. ‬وقد‭ ‬صادف‭ ‬موت‭ ‬سالغاري‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬مرور‭ ‬الذكرى‭ ‬الخمسين‭ ‬لوحدة‭ ‬إيطاليا‭ ‬التي‭ ‬تحققت‭ ‬في‭ ‬آذار‭ ‬عام‭ ‬1861،‭ ‬وقد‭ ‬أقيمت‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المناسبة‭ ‬احتفاليات‭ ‬كبرى‭ ‬انشغل‭ ‬بها‭ ‬الايطاليون‭ ‬لعدة‭ ‬أيام‭. ‬وأقيمت‭ ‬في‭ ‬تورينو‭ ‬أعظم‭ ‬الاحتفالات‭ ‬وأكبرها،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬الملك‭ ‬فيكتور‭ ‬عمانويل‭ ‬الثاني‭ ‬قد‭ ‬زار‭ ‬المدينة‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭. ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬العوامل‭ ‬جعلت‭ ‬موت‭ ‬سالغاري‭ ‬يمر‭ ‬بصمت‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يثير‭ ‬الاهتمام‭ ‬الذي‭ ‬يستحقه،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬الصحف‭ ‬أو‭ ‬بين‭ ‬الناس‭. ‬على‭ ‬أن‭ ‬الحياة،‭ ‬وكعادتها،‭ ‬لا‭ ‬تكرم‭ ‬المبدعين‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬متأخر،‭ ‬وقد‭ ‬جاء‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬نال‭ ‬فيه‭ ‬سالغاري‭ ‬ما‭ ‬يستحق‭ ‬فعلا،‭ ‬حين‭ ‬قام‭ ‬برحلته‭ ‬الأخيرة،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬يوم‭ ‬12‭ ‬آذار‭ ‬1912،‭ ‬بعد‭ ‬عشرة‭ ‬أشهر‭ ‬من‭ ‬موته‭.‬

رفات‭ ‬القبطان

كان‭ ‬يوما‭ ‬رماديا‭ ‬حزينا،‭ ‬تساقط‭ ‬فيه‭ ‬المطر‭ ‬منذ‭ ‬ساعات‭ ‬الصباح‭ ‬الأولى،‭ ‬واستمر‭ ‬دون‭ ‬انقطاع‭ ‬طوال‭ ‬اليوم‭. ‬تراكضت‭ ‬الحشود‭ ‬إلى‭ ‬محطة‭ ‬فيرونا‭ ‬الكبيرة،‭ ‬انتظارا‭ ‬لمجيء‭ ‬التابوت‭ ‬الذي‭ ‬يحوي‭ ‬رفات‭ ‬القبطان‭ ‬سالغاري‭. ‬وكانت‭ ‬مدينة‭ ‬فيرونا،‭ ‬بعد‭ ‬ما‭ ‬يقارب‭ ‬العام‭ ‬من‭ ‬موته،‭ ‬قد‭ ‬طالبت‭ ‬مدينة‭ ‬تورينو‭ ‬بإعادة‭ ‬رفات‭ ‬ابنها‭ ‬إليها،‭ ‬وهيأ‭ ‬عمدة‭ ‬فيرونا‭ ‬موكبا‭ ‬جنائزيا‭ ‬عظيما‭ ‬لاستقباله،‭ ‬بل‭ ‬ودعا‭ ‬كل‭ ‬سكان‭ ‬فيرونا‭ ‬للمشاركة‭ ‬بهذا‭ ‬الموكب‭. ‬أصبح‭ ‬ذكر‭ ‬سالغاري‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬على‭ ‬ألسنة‭ ‬جميع‭ ‬الإيطاليين،‭ ‬أعيد‭ ‬إلى‭ ‬الذاكرة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كتبت‭ ‬عنه‭ ‬يومها‭ ‬كل‭ ‬الصحف‭ ‬الإيطالية‭ ‬واحتفت‭ ‬به‭ ‬وودعته‭ ‬كما‭ ‬يستحق‭. ‬كانت‭ ‬الجماهير‭ ‬الغفيرة‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬مدينة‭ ‬فيرونا‭ ‬ومن‭ ‬إيطاليا‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬تنتظر‭ ‬تحت‭ ‬زخات‭ ‬المطر‭ ‬وصول‭ ‬الكاتب‭ ‬الذي‭ ‬عشقته،‭ ‬تنتظر‭ ‬بخشوع‭ ‬وحزن‭ ‬وقد‭ ‬تشربت‭ ‬ثيابها‭ ‬بالمطر‭ ‬وغاصت‭ ‬أرجلها‭ ‬في‭ ‬الوحل‭. ‬عاد‭ ‬سالغاري‭ ‬إلى‭ ‬مدينته‭ ‬الأم‭ ‬بعد‭ ‬سنين‭ ‬الغياب‭ ‬الطويلة‭ ‬في‭ ‬تابوت‭ ‬خشبي‭ ‬أصفر،‭ ‬وسار‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬الموكب‭ ‬عمدة‭ ‬المدينة‭ ‬وأعضاء‭ ‬مجلس‭ ‬البلدية‭ ‬وكل‭ ‬الشخصيات‭ ‬السياسية‭ ‬والإدارية،‭ ‬تتبعهم‭ ‬حشود‭ ‬الجماهير‭. ‬وكان‭ ‬بحر‭ ‬مظلات‭ ‬المشيعين‭ ‬الذين‭ ‬تتوسطهم‭ ‬عربة‭ ‬تحمل‭ ‬جثمان‭ ‬سالغاري‭ ‬هو‭ ‬آخر‭ ‬بحر‭ ‬قطعه‭ ‬القبطان،‭ ‬حتى‭ ‬وصوله‭ ‬إلى‭ ‬مثواه‭ ‬الأخير،‭ ‬في‭ ‬مقبرة‭ ‬العائلة‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬يرقد‭ ‬أبواه‭.‬

وكانت‭ ‬حياة‭ ‬سالغاري‭ ‬مثارا‭ ‬للشكوك‭ ‬والجدل،‭ ‬بالذات‭ ‬مسألة‭ ‬رحلاته‭ ‬ومغامراته‭ ‬التي‭ ‬طالما‭ ‬روج‭ ‬لها‭ ‬سالغاري‭ ‬نفسه،‭ ‬رغم‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬أيّ‭ ‬وثائق‭ ‬أو‭ ‬حقائق‭ ‬تؤكد‭ ‬صدق‭ ‬ادعائه‭. ‬وكما‭ ‬رأينا‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬رتبته‭ ‬كقبطان‭ ‬مثارا‭ ‬للجدل‭ ‬والنقاش،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬سالغاري‭ ‬نفسه‭ ‬قد‭ ‬تبنى‭ ‬تلك‭ ‬الرتبة‭. ‬والحقيقة‭ ‬فإن‭ ‬من‭ ‬يطّلع‭ ‬على‭ ‬حياة‭ ‬الكاتب‭ ‬بشكل‭ ‬دقيق‭ ‬سيدرك‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬تصديق‭ ‬سالغاري‭ ‬أو‭ ‬تكذيبه،‭ ‬ذلك‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يميز‭ ‬حقيقة‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬يتخيله‭ ‬وبين‭ ‬ما‭ ‬يحصل‭ ‬فعلا‭. ‬ليس‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬مجنونا،‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬صاحب‭ ‬هذا‭ ‬الإبداع‭ ‬مجنونا‭ ‬فليت‭ ‬كل‭ ‬الناس‭ ‬كانوا‭ ‬مجانين‭. ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك‭ ‬ليضفي‭ ‬على‭ ‬رواياته‭ ‬صبغة‭ ‬حقيقية،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬الحقيقة‭ ‬ببعيدة‭ ‬عن‭ ‬سالغاري‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتابع‭ ‬بدأبِ‭ ‬أخبار‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬حقا‭ ‬في‭ ‬مسرح‭ ‬رواياته،‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬اطلاعه‭ ‬وعمله‭ ‬في‭ ‬الصحف‭. ‬ومن‭ ‬زاوية‭ ‬أخرى‭ ‬فإن‭ ‬سالغاري،‭ ‬ككل‭ ‬كاتب،‭ ‬كان‭ ‬يعيش‭ ‬مغامراته‭ ‬التي‭ ‬يكتبها‭ ‬على‭ ‬الورق‭ ‬بشكل‭ ‬حي،‭ ‬يشعر‭ ‬بكامل‭ ‬إحساسه‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يشعر‭ ‬به‭ ‬أبطاله،‭ ‬يرتجف‭ ‬معهم‭ ‬ويشهر‭ ‬السيف‭ ‬معهم،‭ ‬ويشعر‭ ‬بالنسيم‭ ‬يداعب‭ ‬وجهه‭ ‬وهو‭ ‬يصور‭ ‬أحد‭ ‬أبطاله‭ ‬على‭ ‬متن‭ ‬سفينة‭ ‬ما‭. ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬سر‭ ‬نجاح‭ ‬سالغاري،‭ ‬وهو‭ ‬السر‭ ‬الذي‭ ‬يجعل‭ ‬القارئ‭ ‬يعيش‭ ‬أجواء‭ ‬الرواية‭ ‬فعلا،‭ ‬ويشعر‭ ‬أنه‭ ‬أحد‭ ‬المغامرين‭. ‬ورغم‭ ‬انتفاء‭ ‬الأدلة‭ ‬على‭ ‬كون‭ ‬سالغاري‭ ‬قد‭ ‬غامر‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬وفي‭ ‬البلدان‭ ‬القصية،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬كتب‭ ‬سيرته‭ ‬الذاتية‭ ‬بصيغة‭ ‬رواية،‭ ‬وقد‭ ‬ضمّنها‭ ‬من‭ ‬المغامرات‭ ‬ما‭ ‬يصعب‭ ‬تصديقه،‭ ‬مغامرات‭ ‬لا‭ ‬تختلف‭ ‬بشيء‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬أبطال‭ ‬رواياته‭ ‬الخيالية‭. ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬بوسعنا‭ ‬تصديق‭ ‬كل‭ ‬رحلاته‭ ‬ومغامراته‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬سمعنا‭ ‬مقولته‭ ‬الشهيرة‭ ‬‮«‬الكتابة‭ ‬رحلة‭ ‬لا‭ ‬يشوبها‭ ‬عناء‭ ‬حقائب‭ ‬السفر‮»‬‭. ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬سالغاري‭ ‬امتزج‭ ‬تماما‭ ‬مع‭ ‬خياله،‭ ‬وعاشه‭ ‬بعمق‭ ‬وصدق‭ ‬حتى‭ ‬تلاشت‭ ‬الحدود‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الحقيقة‭ ‬والخيال،‭ ‬وصار‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يرويه،‭ ‬عن‭ ‬مغامراته‭ ‬ومغامرات‭ ‬أبطال‭ ‬رواياته،‭ ‬يحتمل‭ ‬الشك‭ ‬واليقين‭.‬

كاتب‭ ‬المغامرات

كان‭ ‬سالغاري‭ ‬أعظم‭ ‬كاتب‭ ‬لرواية‭ ‬المغامرة‭ ‬في‭ ‬إيطاليا،‭ ‬وقد‭ ‬ترك‭ ‬ميراثا‭ ‬عظيما‭ ‬من‭ ‬القصص‭ ‬والروايات،‭ ‬وبلغ‭ ‬نتاجه‭ ‬الأدبي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثمانين‭ ‬رواية‭ ‬ومئة‭ ‬قصة،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬الروايات‭ ‬التي‭ ‬أُصدرت‭ ‬بعد‭ ‬موته‭ ‬ونسبت‭ ‬إليه‭. ‬والحقيقة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تلك‭ ‬الروايات‭ ‬بقلمه،‭ ‬فبعد‭ ‬موته‭ ‬أصبح‭ ‬سالغاري‭ ‬يمثل‭ ‬مدرسة‭ ‬قائمة‭ ‬بذاتها،‭ ‬وقد‭ ‬بدأ‭ ‬الكتاب‭ ‬يحذون‭ ‬حذوه‭ ‬ويقلدون‭ ‬أسلوبه،‭ ‬وأُصدر‭ ‬إثر‭ ‬ذلك‭ ‬عدد‭ ‬هائل‭ ‬من‭ ‬الروايات‭ ‬التي‭ ‬اتخذ‭ ‬كُتّابها‭ ‬من‭ ‬أسلوب‭ ‬سالغاري‭ ‬وطريقته‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬منهلا‭ ‬لهم‭. ‬وكان‭ ‬معظم‭ ‬تلك‭ ‬الروايات‭ ‬بصدر‭ ‬بتوقيع‭ ‬كاتبٍ‭ ‬ما‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬اسم‭ ‬أحد‭ ‬أبناء‭ ‬سالغاري‭.‬

ويعد‭ ‬سالغاري،‭ ‬كما‭ ‬الحال‭ ‬مع‭ ‬أمبرتو‭ ‬إيكو‭ ‬وإيتالو‭ ‬كالفينو،‭ ‬أكثر‭ ‬الروائيين‭ ‬الإيطاليين‭ ‬ترجمة‭ ‬وانتشارا‭ ‬في‭ ‬العالم‭. ‬وكان‭ ‬نتاج‭ ‬سالغاري‭ ‬الأدبي‭ ‬مصدر‭ ‬إلهام‭ ‬للكثير‭ ‬من‭ ‬عظماء‭ ‬الأدباء‭ ‬والسينمائيين‭ ‬الذين‭ ‬شغفوا‭ ‬بحب‭ ‬رواياته‭. ‬وقد‭ ‬أنتج‭ ‬من‭ ‬رواياته‭ ‬ما‭ ‬يقارب‭ ‬الاثنين‭ ‬وأربعين‭ ‬فيلما‭ ‬سينمائيا‭. ‬وكان‭ ‬في‭ ‬مكتبة‭ ‬المخرج‭ ‬الإيطالي‭ ‬الشهير‭ ‬فيديريكو‭ ‬فيلليني‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬خمسين‭ ‬رواية‭ ‬لسالغاري‭. ‬ومن‭ ‬بين‭ ‬عظماء‭ ‬الكتاب‭ ‬الذين‭ ‬عشقوا‭ ‬سلغاري‭ ‬وقرأوه‭ ‬وألهمت‭ ‬خيالهم‭ ‬رواياته‭: ‬أمبرتو‭ ‬إيكو،‭ ‬غابريل‭ ‬غارسيا‭ ‬ماركيز،‭ ‬كارلوس‭ ‬فوينتس،‭ ‬خورخي‭ ‬لويس‭ ‬بورخس‭ ‬وبابلو‭ ‬نيرودا‭. ‬وقد‭ ‬ألهمت‭ ‬أعماله‭ ‬كبار‭ ‬المخرجين،‭ ‬أمثال‭ ‬ستيفن‭ ‬سبيلبيرغ‭ ‬وسرجو‭ ‬ليون‭. ‬وقد‭ ‬قرأ‭ ‬تشي‭ ‬جيفارا‭ ‬اثنتين‭ ‬وستين‭ ‬رواية‭ ‬من‭ ‬روايات‭ ‬سالغاري،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬الكاتب‭ ‬والصحفي‭ ‬باكو‭ ‬إنياثيو‭ ‬تايبو‭ ‬الذي‭ ‬كتب‭ ‬سيرة‭ ‬تشي‭ ‬جيفارا،‭ ‬عزا‭ ‬أفكاره‭ ‬ضد‭ ‬الإمبريالية‭ ‬إلى‭ ‬سالغاري‭.‬

وفي‭ ‬أحد‭ ‬مقالاته‭ ‬كتب‭ ‬أمبرتو‭ ‬إيكو‭ ‬عن‭ ‬سالغاري،‭ ‬قائلاً‭ ‬‮«‬كم‭ ‬حلمنا،‭ ‬ونحن‭ ‬نقرأ‭ ‬سالغاري،‭ ‬بأشجار‭ ‬البالاتوفيري،‭ ‬وجنبها‭ ‬أشجار‭ ‬البابيروسا‭ ‬والتين‭ ‬البنغالي‭ ‬والباوباب‭! ‬وأنا‭ ‬اليوم‭ ‬أقرأ‭ ‬بأنها‭ ‬آيلة‭ ‬للانقراض،‭ ‬بفعل‭ ‬الأطعمة‭ ‬الكيميائية‭ ‬المصنعة‭ ‬التي‭ ‬تمنح‭ ‬للروبيان‭. ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬بوسعنا‭ ‬الاستغناء‭ ‬عن‭ ‬الروبيان،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬نرى‭ ‬مجددا‭ ‬أشجار‭ ‬البالاتوفيري‭ ‬الحبيبة‭ ‬وهي‭ ‬تداعب‭ ‬سطح‭ ‬الماء‮»‬‭.‬

وكان‭ ‬الشاعر‭ ‬والروائي‭ ‬الإيطالي‭ ‬تشيزاري‭ ‬بافيزي‭ ‬من‭ ‬هواة‭ ‬روايات‭ ‬سالغاري،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬مصدر‭ ‬إيحاء‭ ‬لألعاب‭ ‬الصبا،‭ ‬وقد‭ ‬ذكر،‭ ‬بحنين‭ ‬شديد،‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬أروع‭ ‬وأشهر‭ ‬قصائده‭ ‬‮«‬بحار‭ ‬الجنوب‮»‬‭ ‬عنوان‭ ‬إحدى‭ ‬أشهر‭ ‬روايات‭ ‬سالغيري‭ ‬‮«‬قراصنة‭ ‬ماليزيا‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬لعبة‭ ‬يجسدها‭ ‬مع‭ ‬أصدقائه‭:‬

‮«‬آه،‭ ‬كم‭ ‬من‭ ‬السنين‭ ‬قد‭ ‬مضت

مذ‭ ‬لعبت‭ ‬‮«‬قراصنة‭ ‬ماليزيا‮»‬

وغصت‭ ‬في‭ ‬الماء‭ ‬آخر‭ ‬مرة

حتى‭ ‬شارفت‭ ‬على‭ ‬الموت

ولحقت‭ ‬رفيق‭ ‬اللعب‭ ‬على‭ ‬شجرة

وقد‭ ‬قصمت‭ ‬جميل‭ ‬أغصانها

وأبرحت‭ ‬بالضرب‭ ‬غرمائي

وأشبعني‭ ‬الآخرون‭ ‬ضربا

كم‭ ‬من‭ ‬السنين‭ ‬قد‭ ‬مضت‭!‬‮»‬‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.