القبطان أميليو سالغاري.. مغامرات الكتابة والرحلة الأخيرة
لم ينضب خيال القبطان سالغاري حتى أخر لحظة في حياته، بل كانت لحظة موته أعلى قمة بلغها خياله، فكانت آخر مقطع روائي ختم به الكاتب رواية حياته العجيبة. في ربيع 1911 ارتدت الأشجار جميل أوراقها والتحفت الأرض بالعشب الأخضر، بعد شتاء إيطالي قاسٍ. تسلقت عاملة الغسيل الشابة لويجا كويريكو مصادفة أحد تلال مدينة تورينو في الساعة السادسة والنصف من عصر يوم 25 نيسان لتجمع الحطب من غابة صغيرة كثيفة الأشجار، تقع فوق ذلك التل. ولطالما ارتاد سالغاري تلك الغابة للنزهة مع زوجته وأبنائه، وكانت تتراءى له كمكان أسطوري قد تدور فيه شتى المغامرات، ولعله أدرك أنه سيختاره، يوما ما، ليقوم بآخر وأعظم مغامرات حياته. وبينما كانت الشابة تجمع الحطب وإذا بها تصطدم بمشهد ما كانت لتنساه طوال حياتها. وسط تلك الأشجار رأت الشابة رجلا بملابس أنيقة مستلقيا فوق العشب وكأنه يغط في نوم عميق، وجنبه عصاه وقبعته وجاكيته. وحين اقتربت أكثر رأت أن الرجل يمسك بيده شفرة حلاقة ملطخة بالدماء. أصيبت الشابة بالهلع حين أيقنت أن الرجل لم يكن نائما، بعد أن رأت الدم اليابس وقد سال بغزارة من رقبته وبطنه حتى صبغ العشب باللون الأحمر. حينما اجتمع سكان مدينة تورينو حول ذلك الجسد أدركوا فوراً أن الرجل لم يكن سوى الكاتب أميليو سالغاري.
في الصباح الباكر من ذلك اليوم استيقظ سالغاري ولا أحد يعلم ما يدور في رأسه. ارتدى بذلته الرصاصية الأنيقة، وأعد الفطور لأبنائه قبل خروجه، ثم ترك ثلاث رسائل على طاولة المطبخ، الأولى لهم، الثانية لناشريه والثالثة لرؤساء تحرير الصحف التي كان يعمل لحسابها. تسلق ذلك التل حتى غابة المغامرات، في جيبه شفرة حلاقة وفي ذهنه فكرة سيطرت عليه، وقد صرح بها لأبنائه في الرسالة التي تركها لهم «أنا لست سوى رجل مهزوم». وصل إلى أعلى قمة في الغابة، أشعل آخر سيجارة في حياته ثم تناول الشفرة، وكبطل ساموراي لا يقبل الهزيمة والوقوع بين يدي أعدائه، بقر بطنه وقطع شريان رقبته وبقي ينزف حتى الموت. مات هذا الكاتب الكبير الذي أحب الشرق وشُغف به، ميتة أسطورية كأحد أبطال الساموراي اليابانيين، وحينما عثرت عليه تلك الشابة كانت الشمس الربيعية في الطرف الآخر من الأفق، تعلن نهاية آخر رحلة للقبطان أميليو سالغاري. وربما لم تكن الأخيرة.
نعم، فالموت لم ينه مغامرات سالغاري، وتلك الرحلة لم تكن الأخيرة. آخر رحلة قام بها القبطان كانت يوم 12 آذار 1912، بعد موته بأقل من عام، حين نُقل رفاته إلى مدينته الأم ومسقط رأسه فيرونا، وكان على متن سفينة خشبية صغيرة، عادة ما يسميها الناس تابوت.
المولع بالبحر
ولد أميليو سالغاري في فيرونا، في 21 آب 1862، وكان أبوه لويجي سالغاري تاجر ألبسة، فضلاً عن امتلاكه لبعض الأراضي، في حين كانت أمه لويجا غرادارا من عائلة فينيسية مترفة. وكان في طفولته حيوياً ونشيطاً، ويؤكد رفاق الصبا أن صحبته لا تُملّ، وأنه حين يقدم عليهم فإن الجميع يركض للقائه والاستماع لما يأتي به من جديد حكاياته، بينما القبعة البحرية لا تفارق رأسه. وكان طفلا حذقاً ومشاكساً، يبحث عن المغامرات ويسعى في خلقها مع رفاقه. ويروى عن نجار كان يهزأ منه الأطفال دائما، وكان سالغاري يجتمع برفاقه ثم يصيح بلهجة القائد:»هيا لنهجم على قلعة بيلوريو»، ولم تكن قلعة بيلوريو النجار تلك سوى كوخ خشبي صغير، ينهال عليها الأطفال ضربا بالحصى. بينما يروي رفيق صبا أحدى مغامرات سالغاري التي لا تخلو من مخاطر، إذ يقول «بعد يوم شديد المطر فاض نهر برونيو الواقع على أحد جوانب البلدة، فقام سالغاري بصنع عوامة من أربع قطع من الخشب، ثم صنع مجدافا ونزل إلى النهر، إلا أن الموج قلبه فسقط في الماء واستطاع الأصدقاء إنقاذه بصعوبة. وفي اليوم التالي جلب معه سلة كبيرة من الخشب كان يستخدمها أبوه في جمع الملابس، ونزل بها إلى النهر، إلا أنها جنحت بعد بضعة أمتار». ويروى عنه الكثير من المغامرات في صباه والتي تدل على خياله الواسع وروحه الطليقة كنورس يحلق فوق البحار.
بعد أن أكمل الابتدائية تقدم سالغاري للاختبار في مدرسة خاصة إلا أنه فشل في الاختبار، فقدم للدراسة في مدرسة حكومية، وكانت نتائج الاختبارات لا بأس بها. وبعد أن أنهى المدرسة في العام 1878، قدم للدراسة في المعهد البحري في فينيسيا، لولعه منذ صغره بالبحر ومغامراته. لم يتجاوز آنذاك السادسة عشرة من العمر، وقد بدأت عندها رحلته في الكتابة. ففي ذلك العمر، أو ربما قبله، كان سالغاري قد كتب بعض الشعر وقصص المغامرات، فضلا عن رواية في عدة فصول تحمل عنوان «مغامرات سيمون فان دير في غينيا الجديدة». وكانت قصصه وروايته تحمل في طياتها بعض الرسوم لأحداثها وبعض الخرائط الجغرافية للأماكن التي تدور فيها الأحداث. كانت هذه أول بدايات سالغاري في صباه والتي تنم عن حبه للكتابة والجغرافيا والرسم. أما حلمه الكبير فكان ركوب البحر والتجوال في البلدان القصية، وكان شغفه هذا قد غذته روايات المغامرة التي قرأها في صغره، فضلا عن المجلات التي تتناول حكايات الترحال والسفر. فكان من الطبيعي أن يتقدم سالغاري للدراسة في المعهد البحري في فينيسيا، على أنه لم يجتز الاختبار الأخير الذي يؤهله ليصبح قبطانا، ولم يعاود المحاولة مطلقا. ولكن في إحدى قصصه يؤكد سالغاري أنه ركب البحر، برتبة قبطان، وقد اجتاز البحر المتوسط وصولا إلى الشرق. وقد أكد أغلب الباحثين المختصين بدراسة حياته أن هذا قد حدث فعلا ما بين خريف 1881 وربيع 1882، على أن أمبرتو بيرتوجولي، نائب قبطان وكاتب، يؤكد خلاف ذلك. فهو لم يعثر مطلقا على اسم سالغاري في قائمة بحاري المملكة، ذلك أن سالغاري لم يكن برتبة قبطان أولا، ثم إنه لم يبلغ حينذاك الرابعة والعشرين من العمر، وهو السن القانوني لرتبة القبطان. الاحتمال الوحيد، برأي بيرتوجولي، هو أن الكاتب اجتاز البحر كمسافر عادي على حسابه الخاص. ويعتقد الباحثون أن سالغاري سافر إلى الشرق، ووصل إلى مصر وإلى الهند، وقد أشار هو نفسه إلى ذلك في إحدى رسائله إلى أحد أصدقائه الرحالة، على أن ليس هناك وثائق، حتى الآن، تؤكد ذلك.
عين على أفريقيا
بدأ سالغاري مسيرته الأدبية ككاتب مقالات صحفية، وكانت أولى مقالاته، ما بين العامين 1883 و1885، تنشر في صحيفة «نووفا فيرونا» أكبر الصحف المحلية آنذاك، وتتناول ما يدور في الشرق في ذلك الحين، في أفريقيا بشكل خاص. وأصبح بعد وقت قصير رئيس تحرير الصحيفة، وكان ينشر فيها أيضا بعض المقالات عن العروض المسرحية التي يحضرها، كأعمال «جاكوينو روسيني، جوسيبي فيردي، غايتانو دونيزيتي» وآخرين. وفي الوقت نفسه بدأ ينشر أيضا بعض القصص والروايات في حلقات، ظهرت على مختلف الصحف الإيطالية، كما كان معتاد آنذاك، إذ كان كبار الكتاب ينشرون كتاباتهم في حلقات قبل أن تقوم إحدى دور النشر بطباعة العمل كاملاً. وفي العام 1887 نُشرت كاملة أولى رواياته، «محظية المهدي»، وتدور أحداثها في السودان، إبان ثورة محمد المهدي التي كان سالغاري يتتبع أخبارها باهتمام شديد، لشغفه بتلك الأراضي البعيدة. وهي رواية حب ومغامرة، تشبه إلى حد ما قصص ألف ليلة وليلة، وتروي قصة فاطمة، محظية المهدي، والتي لا ترغب بسيدها فتعمد إلى الهرب من قصر السلطان، وبينما هي في الصحراء يهاجمها الأسد فيسرع في إنقاذها الشاب كريم، عندها يقع كل منهما في حب الآخر. وحين تصل أخبار الشابين إلى المهدي يأمر فرقة من جيشه بتتبعهما والقبض عليهما. وبعد مغامرات مثيرة يقع الاثنان في قبضة المهدي، إلا أنه يصفح عنهما ويتركهما بسلام.
بعد ذلك بعامين أصيب أبوه بمرض كان يظنه خبيثا، فسيطرت عليه الكآبة والحزن مما أدى إلى انتحاره في منتصف الليل، إذ رمى بنفسه من شباك الطابق العلوي لبيت أخته في مدينة فيرونا. وقد أثّر ذلك كثيرا في نفس سالغاري، مما حدا به، بعد بضع سنين، أن يهجر فيرونا إلى تورينو عام 1893، وكان انتقال سالغاري إلى تورينو نقطة فاصلة في سيرته، إذ بدأ هناك بتكريس حياته للكتابة بشكل كامل. ولكن قبل رحيله بعام وقع الشاب سالغاري بحب إيدا بيتروتسي، والتي طالما سماها آيدا. وكانت إيدا آنذاك ممثلة في المسرح، وقد سطع نجمها وبدأت تحقق نجاحات كبرى، إلا أنها ضحت بحبها للمسرح وبمسيرتها الفنية من أجل سالغاري. وقد تكلل حبهما بالزواج عام 1892، وبعد ذلك بعام انتقلوا للعيش في تورينو.
دعوة إلى المبارزة
قبل رحيله عن فيرونا تعرض سالغاري إلى الإهانة، بعد أن شكك أحد محرري الصحف المحلية آنذاك في صدق إدعائه رتبة قبطان، مما دفع سالغاري إلى تحديه في المبارزة. وقد كان سالغاري مولعا بالمبارزة، بل وقام بدورات تدريبية كثيرة، وعمل لبعض الوقت في سكريترية أحد الأندية التي تُعلّم المبارزة. فكانت نتيجة المبارزة أن انتصر سالغاري وسقط الآخر جريحا، فاستعاد بذلك كرامته. وكان لفن المبارزة والفروسية حضور كبير في روايات سالغاري، وقد أبدع في تصوير تلك اللحظات، وهو يصف لنا ببراعة الكاتب ومهارة المبارز كيف يدور القتال وما يمر به المتبارزان من صعوبات وتحديات.
وقد أحب سالغاري زوجته إيدا حبا جما، وكانت بينهما مراسلات تشي بهذا الحب الكبير، رغم ذلك فقد كانت حياتهما العائلية مضطربة ومليئة بالمشاكل. وربما كانت الكتابة أحد الأسباب الرئيسية في اضطراب الحياة العائلية، خصوصا بعد انتقالهما إلى تورينو، إذ كرس سالغاري كل وقته للكتابة والقراءة، ورغم كثرة ما تصدر له من روايات وقصص فقد كان المردود المالي ضئيلا جدا قياسا بالجهد المبذول. وكان لسوء الحالة المادية تأثير كبير في المشاكل العائلية، وقد أدى بالتالي إلى انتحار الكاتب.
وكان ولع سالغاري بالبلدان القصية، الشرق بصورة خاصة، قد دفع به إلى تسمية ثلاثة من أبنائه بأسماء تبدو غريبة في ذلك الحين: فاطمة، البنت الكبرى، نذير، روميرو وعمر. بل ومن شدة ولعه بالسفر والترحال، وبعد أن استحال عليه القيام بتلك المغامرات، فقد كان خياله في ترحال دائم، وكان أبطاله يجوبون البحار والصحاري والغابات في بلدان كان سالغاري يحلم بالوصول إليها. فكانت مسرح أحداث رواياته في بلدان يصعب الوصول إليها آنذاك، مثل أميركا الجنوبية ببحارها ومحيطاتها وغاباتها، والشرق وصحاريه. وكان سالغاري يستقي معلوماته عن تلك الأماكن البعيدة والغريبة من كتب التاريخ والجغرافيا والموسوعات والصحف المحلية التي تعنى آنذاك بقضايا تلك البلدان. وقسم سالغاري وقته ما بين الكتابة والمكتبة، حيث يذهب بحثا عن مسرح لأحداث رواياته، عن معلومات كان يقوم بتقييدها في دفتره لتصبح بعد ذلك مادة لرواياته وقصصه.
فارس التاج
ملأت رواياته رفوف المكتبات، فكان الإقبال عليها شديدا في إيطاليا وخارجها، وذلك بعد أن تُرجم العديد من أعماله بينما كان لا يزال على قيد الحياة. ولكثرة نتاجه الأدبي قامت ملكة إيطاليا آنذاك مارغريتا دي سافويا بتكريمه في العام 1897 ومنحته لقبا شرفيا هو «فارس التاج الإيطالي». على أن كل ذلك لم يغير من سوء حالته المادية، والتي ازدادت سوءا بمرض زوجته إيدا، وقد بدت عليها أعراض الجنون، فكانت أعباء العلاج تزيد من حاجته للمال، وقد أدى ذلك إلى تعاقده مع دار نشر ألزمته بإصدار ثلاث روايات سنويا. فصار سالغاري يكتب طوال اليوم، وكانت يده تراوح ما بين القلم والكأس والسيجارة، وقد ازداد إقباله على شرب النبيذ في تلك الآونة وكان يدخن ما يقارب المئة سيجارة يوميا. وفي الأشهر الأخيرة ساءت حالة زوجته الصحية فنُقلت إلى مستشفى الأمراض العقلية، وقد أثّر فيه ذلك كثيرا، مما دفعه إلى الانتحار صباح يوم 25 نيسان 1911، بعد أن ترك ثلاث رسائل، يتوجه في إحداها إلى ناشريه قائلاً «أوجه رسالتي إليكم، انتم الذين جنيتم أموالا كثيرة بفضل قلمي، بينما جعلتموني وعائلتي أعيش في بؤس مدقع، أطلب منكم فقط أن تتكلفوا بمراسيم دفني بدلا عن الأرباح التي جنيتموها بفضلي. أودعكم بكسر قلمي». وقد صادف موت سالغاري في تلك الأيام مرور الذكرى الخمسين لوحدة إيطاليا التي تحققت في آذار عام 1861، وقد أقيمت في هذه المناسبة احتفاليات كبرى انشغل بها الايطاليون لعدة أيام. وأقيمت في تورينو أعظم الاحتفالات وأكبرها، حتى أن الملك فيكتور عمانويل الثاني قد زار المدينة في تلك الأيام. كل هذه العوامل جعلت موت سالغاري يمر بصمت دون أن يثير الاهتمام الذي يستحقه، سواء في الصحف أو بين الناس. على أن الحياة، وكعادتها، لا تكرم المبدعين إلا في وقت متأخر، وقد جاء الوقت الذي نال فيه سالغاري ما يستحق فعلا، حين قام برحلته الأخيرة، وكان ذلك يوم 12 آذار 1912، بعد عشرة أشهر من موته.
رفات القبطان
كان يوما رماديا حزينا، تساقط فيه المطر منذ ساعات الصباح الأولى، واستمر دون انقطاع طوال اليوم. تراكضت الحشود إلى محطة فيرونا الكبيرة، انتظارا لمجيء التابوت الذي يحوي رفات القبطان سالغاري. وكانت مدينة فيرونا، بعد ما يقارب العام من موته، قد طالبت مدينة تورينو بإعادة رفات ابنها إليها، وهيأ عمدة فيرونا موكبا جنائزيا عظيما لاستقباله، بل ودعا كل سكان فيرونا للمشاركة بهذا الموكب. أصبح ذكر سالغاري في ذلك اليوم على ألسنة جميع الإيطاليين، أعيد إلى الذاكرة بعد أن كتبت عنه يومها كل الصحف الإيطالية واحتفت به وودعته كما يستحق. كانت الجماهير الغفيرة من سكان مدينة فيرونا ومن إيطاليا بشكل عام تنتظر تحت زخات المطر وصول الكاتب الذي عشقته، تنتظر بخشوع وحزن وقد تشربت ثيابها بالمطر وغاصت أرجلها في الوحل. عاد سالغاري إلى مدينته الأم بعد سنين الغياب الطويلة في تابوت خشبي أصفر، وسار على رأس الموكب عمدة المدينة وأعضاء مجلس البلدية وكل الشخصيات السياسية والإدارية، تتبعهم حشود الجماهير. وكان بحر مظلات المشيعين الذين تتوسطهم عربة تحمل جثمان سالغاري هو آخر بحر قطعه القبطان، حتى وصوله إلى مثواه الأخير، في مقبرة العائلة حيث كان يرقد أبواه.
وكانت حياة سالغاري مثارا للشكوك والجدل، بالذات مسألة رحلاته ومغامراته التي طالما روج لها سالغاري نفسه، رغم أنه ليس هناك أيّ وثائق أو حقائق تؤكد صدق ادعائه. وكما رأينا فقد كانت رتبته كقبطان مثارا للجدل والنقاش، رغم أن سالغاري نفسه قد تبنى تلك الرتبة. والحقيقة فإن من يطّلع على حياة الكاتب بشكل دقيق سيدرك أنه من الصعب تصديق سالغاري أو تكذيبه، ذلك أنه كان لا يميز حقيقة بين ما يتخيله وبين ما يحصل فعلا. ليس لأنه كان مجنونا، ولو كان صاحب هذا الإبداع مجنونا فليت كل الناس كانوا مجانين. ربما كان يفعل ذلك ليضفي على رواياته صبغة حقيقية، ولم تكن الحقيقة ببعيدة عن سالغاري وهو الذي كان يتابع بدأبِ أخبار ما يجري حقا في مسرح رواياته، عن طريق اطلاعه وعمله في الصحف. ومن زاوية أخرى فإن سالغاري، ككل كاتب، كان يعيش مغامراته التي يكتبها على الورق بشكل حي، يشعر بكامل إحساسه بكل ما يشعر به أبطاله، يرتجف معهم ويشهر السيف معهم، ويشعر بالنسيم يداعب وجهه وهو يصور أحد أبطاله على متن سفينة ما. وهذا هو سر نجاح سالغاري، وهو السر الذي يجعل القارئ يعيش أجواء الرواية فعلا، ويشعر أنه أحد المغامرين. ورغم انتفاء الأدلة على كون سالغاري قد غامر في البحر وفي البلدان القصية، إلا أنه كتب سيرته الذاتية بصيغة رواية، وقد ضمّنها من المغامرات ما يصعب تصديقه، مغامرات لا تختلف بشيء عن تلك التي عاشها أبطال رواياته الخيالية. وقد يكون بوسعنا تصديق كل رحلاته ومغامراته إذا ما سمعنا مقولته الشهيرة «الكتابة رحلة لا يشوبها عناء حقائب السفر». يبدو أن سالغاري امتزج تماما مع خياله، وعاشه بعمق وصدق حتى تلاشت الحدود ما بين الحقيقة والخيال، وصار كل ما يرويه، عن مغامراته ومغامرات أبطال رواياته، يحتمل الشك واليقين.
كاتب المغامرات
كان سالغاري أعظم كاتب لرواية المغامرة في إيطاليا، وقد ترك ميراثا عظيما من القصص والروايات، وبلغ نتاجه الأدبي أكثر من ثمانين رواية ومئة قصة، فضلا عن الروايات التي أُصدرت بعد موته ونسبت إليه. والحقيقة لم تكن تلك الروايات بقلمه، فبعد موته أصبح سالغاري يمثل مدرسة قائمة بذاتها، وقد بدأ الكتاب يحذون حذوه ويقلدون أسلوبه، وأُصدر إثر ذلك عدد هائل من الروايات التي اتخذ كُتّابها من أسلوب سالغاري وطريقته في الكتابة منهلا لهم. وكان معظم تلك الروايات بصدر بتوقيع كاتبٍ ما بالإضافة إلى اسم أحد أبناء سالغاري.
ويعد سالغاري، كما الحال مع أمبرتو إيكو وإيتالو كالفينو، أكثر الروائيين الإيطاليين ترجمة وانتشارا في العالم. وكان نتاج سالغاري الأدبي مصدر إلهام للكثير من عظماء الأدباء والسينمائيين الذين شغفوا بحب رواياته. وقد أنتج من رواياته ما يقارب الاثنين وأربعين فيلما سينمائيا. وكان في مكتبة المخرج الإيطالي الشهير فيديريكو فيلليني أكثر من خمسين رواية لسالغاري. ومن بين عظماء الكتاب الذين عشقوا سلغاري وقرأوه وألهمت خيالهم رواياته: أمبرتو إيكو، غابريل غارسيا ماركيز، كارلوس فوينتس، خورخي لويس بورخس وبابلو نيرودا. وقد ألهمت أعماله كبار المخرجين، أمثال ستيفن سبيلبيرغ وسرجو ليون. وقد قرأ تشي جيفارا اثنتين وستين رواية من روايات سالغاري، حتى أن الكاتب والصحفي باكو إنياثيو تايبو الذي كتب سيرة تشي جيفارا، عزا أفكاره ضد الإمبريالية إلى سالغاري.
وفي أحد مقالاته كتب أمبرتو إيكو عن سالغاري، قائلاً «كم حلمنا، ونحن نقرأ سالغاري، بأشجار البالاتوفيري، وجنبها أشجار البابيروسا والتين البنغالي والباوباب! وأنا اليوم أقرأ بأنها آيلة للانقراض، بفعل الأطعمة الكيميائية المصنعة التي تمنح للروبيان. أظن أن بوسعنا الاستغناء عن الروبيان، على أن نرى مجددا أشجار البالاتوفيري الحبيبة وهي تداعب سطح الماء».
وكان الشاعر والروائي الإيطالي تشيزاري بافيزي من هواة روايات سالغاري، بل كانت مصدر إيحاء لألعاب الصبا، وقد ذكر، بحنين شديد، في إحدى أروع وأشهر قصائده «بحار الجنوب» عنوان إحدى أشهر روايات سالغيري «قراصنة ماليزيا»، وقد كانت لعبة يجسدها مع أصدقائه:
«آه، كم من السنين قد مضت
مذ لعبت «قراصنة ماليزيا»
وغصت في الماء آخر مرة
حتى شارفت على الموت
ولحقت رفيق اللعب على شجرة
وقد قصمت جميل أغصانها
وأبرحت بالضرب غرمائي
وأشبعني الآخرون ضربا
كم من السنين قد مضت!».