القديم هو الجديد
ليس هذا فقط، بل صارت موصل ضياء يونس والخوري يوسف، بتاريخها ودجلتها، مُلكاً لـ"داعش"! وحينذاك أنشد ضياء يونس لأحمد شوقي (ت 1932) مخاطباً رئيس الوزراء توفيق السويدي (ت 1968)، يحثه على حماية الآثار العراقية من البعثات الأجنبية:
أمَن سَرق الخليفةَ وهو حيُّ
يعفُ عن الملوك مكفنينا؟
قالها شوقي بما يخص الآثار المصرية التي تعرضت لموقف مشابه (1924). أقول: ماذا لو عاش نائبَا الموصل، الخوري ويونس، إلى عهد نهب المتحف العراقي وعبث "داعش"؟ ماذا سيقولان؟ أظن أنهما سيشجعان البعثات الأجنبية كي تكون الآثار بحماية المتاحف العالمية، ونُدهش بها نحن قبل غيرنا.
بعد ذلك بحين، أي العام 1965، تقرر إقامة مشروع سكني (دور المعلمين) على المنطقة الأثرية بنينوى، حيث العاصمة الآشورية، يقول المعمار محمد مكية في مذكراته (خواطر السنين): إن البلدوزرات كانت جاهزة لقلع الآثار، ويومها كان في زيارة إلى الموصل مع طارق مظلوم ممثل مديرية الآثار العامة، وفؤاد سفر الخبير الآثاري المعروف، وبعد العودة كتب تقريراً إلى مجلس السياحة الأعلى، وطلب من رئيس جامعة بغداد عبد العزيز الدُّوري (ت 2010) كي يمنح المشروع أرضاً مِن أراضي الجامعة لينقذ به الآثار، وكان بوقوف وزير الثَّقافة والإرشاد محمد النَّاصر متحمساً لحماية الآثار.
فأتفق على كتابة تقرير إلى وزير المالية، فهو القادر على إلغاء المشروع أو تعطيله مالياً، وقد تم ذلك في بداية العام 1966. أشار التقرير إلى ما حصل العام 1935 يوم منحت الدَّولة المنتفعين مِن الأرض الأثرية بحق التَّصرف، والعام 1936 قُطع منها لإقامة وحدة سكنية (مكية، خواطر السِّنين). كلُّ ما حصل سببه الجهل بقيمة الأثر، أو النُّزوع الشديد نحو الحداثة، مِن دون معرفة: “تقول أما عندك مِن جديد/فقلت لها القديم هو الجديدُ” (الجواهري مِن قصيدة أفتيان الخليج 1979).
على أيّ حال، كان المدافعون عن الآثار ينتصرون لها، والجهات الرَّسمية تتراجع بعد تبيان الأمر، لكن مَن لداعش؟ فقدكان يوم الخميس (26 فبراير 2015) فصلاً مِن فصول تنفيذ إعدام التَّاريخ العراقي الحضاري، وهو شواهد الحضارة الإنسانية جمعاء، في الفن والحياة. لقد هوت فؤوس أتباع الدولة الإسلامية (داعش) على خزائن مكتبة أشور بانيبال، وعلى تركة بقية ملوك آشور، التي حتى هذا اليوم لم يتمكن فن النحت من مجاراتها، فأيّ عقل نحت تلك اللُّقا وأيّ شرٍّ يحطمها، والزَّمن بين التعمير والتَّخريب يرقى إلى خمسة آلاف عام.
لم تخيل الشّذوذ أن تهوى الفؤوس، على أنها فؤوس النّبوة داخل الكعبة، بدافع ديني، على رأس تمثال، آية بالفن والجمال، صرف الفنان القديم جل حياته لينحته في صخر ، نحوت لم يُشاهد مَن يعبدها كي تعامل معاملة أصنام الكعبة، إنما يقف أمامها أبرع الفنانين العالميين مبهورين باليد التي نحتتها ونقشت عليها مِن جمال الطَّبيعة، أغصان وثمار أشجار، وأرخت للتقدم الذي لو استمر بلا انقطاع لصعد أهل الأرض إلى المريخ قبل ألف عام، لكن انقطاع تاريخي مفجع، مثلما هو الحال مع ثقافة داعش، جعلنا نتأخر بإزالة التراب مِن على تلك الذخائر، وندهش بها ونحن أبناء الألفية الثَّالثة بعد الميلاد!
إن للآثار العراقية قصة طويلة مع الأذى الذي أصابها عبر القرون، فلو قرأنا تاريخ عمران أيّ مدينة أو حاضرة نجد عمارها قد تم بهدم سابقتها، فالحجاج بن يوسف الثَّقفي (ت 95 هـ) بنى واسط بأحجار طاق المدائن، المعروف بطاق كسرى، وبأحجار خرائب بابل، ولأن الأثر لا قيمة له مع الجهل الحكومي والشَّعبي لم يمنع الأهلون مِن نقل بقايا بابل لبناء أحياء جديدة، ولا نثلب العهد العثماني الذي جعل المدرسة المستنصرية، التي تأسست (631 هـ) وسط بغداد، كدار علم ودرس وفي واجهتها نُصبت الساعة المائية، دائرة للكمارك تسرح قوافل الحمير فيها.
خلال العهد العثماني، كانت سرقات الآثار تجري على قدم وساق، ففي أواسط القرن التاسع عشر حملت السفن أنفس الآثار العراقية إلى المتاحف البريطانية والفرنسية والأميركية
عموماً تخريب الآثار لم يبدأ بداعش، فهذا عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255 هـ) يقول في ضياع آثار كثيرة ذات عمران راقٍ “لأن من شأن الملوك أن يطمسوا على آثار من قبلهم، وأن يميتوا ذكر أعدائهم، فقد هدموا بذلك السبب أكثر المدن وأكثر الحصون، كذلك كانوا أيام العجم وأيّام الجاهلية، وعلى ذلك هم في أيّام الإسلام، كما هدم عثمان صومعة غمدان، وكما هدم الحصون التي كانت بالمدينة، وكما هدم زياد (ابن أبيه) كل قصر لابن عامر (والي البصرة لعثمان بن عفان)، كما هدم أصحابنا (العباسيون) بناء مدن الشامات لبني مروان” (كتاب الحيوان).
لقد نهب المتحف العراقي بالكامل، صبيحة التَّاسع مِن نيسان (أبريل 2003)، وكأن عصرا جديدا لا يبدأ إلا بمحو آثارالأقدمين، على أن المظلومية تمتد إلى آلاف السنين وتلك شواهد العصور! إنه من أغنى متاحف العالم بالأثر الرافديني والعباسي، لا تعني تلك الممارسة غير إعدام التَّاريخ وسدل الستار على بقية حضارة وعمرانظلاشاهدين على تخلف وهمجية الحاضر، فمدينة أور توصلت، قبل ستة آلاف عام، إلى اختراع العجلة والشراع، والبصرة التي توصل مفكرها المعتزلي إلى مقدمات لقانون الجاذبية مستخدماً تفاحة نيوتن ذاتها، نجدها خالية اليوم من المراصد وأهلها حفاة يسعون وراء الماء، ويتراكضون خلف أكياس خبز المعونات.
أسئلة كثيرة تطرح نفسها لحظة ضياع ودائع حفظها تراب العراق ثم متاحفه عمرها آلاف السنين، وهي الشاهد الوحيد على رقيّ عمرانه. ولعل نهب المتحف العراقي وخزائن المخطوطات ومسحهما من الوجود، ثم تدمير داعش لآثار نينوى، بطريقة تزاوجت فيها الحضارة والبداوة، يدفعنا إلى التنازل عن محمية آثار سومر وبابل في المتحف البريطاني ومتحف اللوفر بباريس ومتحف بيركامون ببرلين، ما دمنا غير متحضرين إلى مستوى حماية تاريخنا من طارئات الثورات والحروب. وهنا أعلل النفس أن تتأكد إشاعة أن ما نهب من المتحف العراقي، قبل إحدى عشرة سنةً، على يد الغوغاء بتحريض خفي مِن تجار هذه النَّفائس، وما دُمر مِن متحف الموصل قبل أسابيع على يد عصابة داعش، لم يكن إلا مستنسخات جبسية عن الأُصول، التي قيل إنها ما زالت محفوظة تحت الأرض.
يغلب على الظَّن أن سحر بابل لم يرتبط بماروت وهاروت فقط، حسب ما ورد في الآية: "وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ" (البقرة:102)، إنما ببدائع الآثار أيضاً، ولأبي الطَّيبالمتنبي في نفائس بابل وسحرها، وهو يفخر بنفسه:
ما نال أهل الجاهلية كلهم
شعري ولا سمعت بسحري بابلُ
تأسس المتحف المنهوب في بداية العشرينات على يد المس بل البريطانية (ت 1926) في غرفة من غرف دار الحكومة، المعروفة منذ زمن مدحت باشا (أعدم 1883) بمحلة السَّراي وتوسع مع توسع عمليات اكتشاف الآثار، فنقل إلى بناية خاصة في شارع المأمون بالرصافة، ثم استقر، في عهد عبدالكريم قاسم (قُتل 1963) في مكانه الحالي بالصالحية غرب بغداد، بعد أن رفع من أمامه تمثال مؤسسته المس بل، ليحجب عن المشاهدين، مع أنها صاحبة الحق بتذكار لها أمام واجهته.
وذلك بعد تأسيس الدائرة الأركيولوجية (1920)، ملحقة بوزارة المعارف، أشرفت عليها (مس بل)، التي سعت إلى إلحاق الآثار بوزارة المواصلات والأشغال بدلاً عن المعارف، ولها الفضل بتأسيس أول متحف عراقي، وبعد وفاتها تولى الإدارة المستر كوك، لكنه سرق الآثار وطرد من العراق، فتولى الأمر (سدني سمث)، وكان يشغل وظيفة معاون مدير المتحف البريطاني، ثم استلمها الدكتور (يوردان)، وهكذا ظلت إدارة الآثار تحت المسؤولية البريطانية حتى تعيين ساطع الحصري مديراً (1934)، شريطة أن يبقى (يوردان) مستشاراً.
كانت لساطع لحصري (ت1968) جهود طيبة في حماية آثار العراق، ويذكر أن السفير البريطاني وجه رسالة إلى وزارة الخارجية العراقية محتجاً على تعيينه مديراً للآثار، بذريعة أن الحصري ليس مختصاً في الآثار، مما يؤدي إلى صعوبات عند التعامل مع بعثات التنقيب. فاضطرت الحكومة العراقية، ممثلة بوزير خارجيتها نوري السعيد، طمأنة السفير، مما أزعج الحصري أنها ألزمته مشاورة (يوردان)، والأخذ بمشورته، فوجّه رسالة إلى الحكومة يؤكد فيها أن الاستشارة متعددة، وهي ليست حكراً ليوردان.
تقسم الآثار المستكشفة، حسب قانون (1924)، مناصفة بين البعثة المنقبة ودائرة الآثار، هذا بالنسبة إلى الآثار المكررة، أما في الآثار الفريدة فيجري تقسيمها بالقرعة، وحسب الحصري هناك ما تأخذه بعثات التنقيب من حصة العراق بحجة صيانتها، ومعالجتها معالجة خاصة، وبالتالي تذهب إلى المتاحف الغربية دون عودة. أما قوانين الآثار اللاحقة فأخذت تضمن حق العراق في آثاره. وأهم ما تحقق وفقاً لتلك القوانين حرية دائرة الآثار في تعيين المراقبين، وفرض شروط إضافية على بعثات التنقيب، حتى أن عددها تنازل من إحدى عشرة بعثة إلى سبع بعثات.
لم تقتصر جهود الحصري على حماية الآثار المنقولة، وإنما بذل ما في وسعه لصد موجة إزالة المعالم الأثرية أو تحديث أبنيتها، بنظرة متعالية على الإرث الحضاري، جاء في مذكراته “عندما فكر أرشد العمري في إنشاء بهو الأمانة (أمانة العاصمة) خارج سور القلعة أخذ يهدم البرج القائم في نهاية السور من جهة الشط، فتدخلت المديرية (الآثار) في الأمر وأوقفت أعمال الهدم”.
لكن العمري استغل انقلاب (1936)، فأقنع قائد الانقلاب بكر صدقي لاستصدار قرار تتخلى بموجبه مديرية الآثار عن الموقع التاريخي المذكور لأمانة العاصمة، وبذلك تم هدم البرج الأثري. وإن فشلت إدارة الآثار في حماية المناطق الأثرية من تصرفات أمين العاصمة نجحت في إنقاذ خان مرجان التاريخي من خطة مدير الأوقاف رؤوف الكبيسي لإلغاء ملامحه التاريخية وتحويله إلى عمارة حديثة، فأسرعت إلى جعله متحفاً للآثار العربية الإسلامية. وعلى صعيد آخر عرقلت دائرة الأوقاف محاولة ترميم منارة الغزل وجامع الخلفاء، بحجة المصاريف الكبيرة، وعدم أهمية الجامع.
غير أن رئيس الوزراء عبدالكريم قاسم تحمس لعمليات تجديد الجامع المذكور، وتكليف المعماري محمد مكية بالمهمة، وشجع مخطط التجديد والتوسيع، بمد طريق مشجر بالنخيل من بوابة الجامع إلى ساحل دجلة، وفتح ميدان متصل بضفة النهر، يكون مركز بغداد الحضاري، ويليق بها كحاضرة عباسية، لكن العمل في الجامع توقف بعد انقلاب 8 فبراير 1963، وأعلن عن افتتاحه قبل إتمام العمل حسب خرائط التصميم.
في مجال الاهتمام الحكومي لصيانة الآثار وتطوير العمل فيها بالاعتماد على الكادر الوطني، نفذت الحكومة طلب البرلمان القاضي بإرسال طالبين للدراسة في المعاهد الغربية. وكان أول المبعوثين طه باقر، وفؤاد سفر، درسا في معهد شيكاغو علم الأنثربولوجيا (علم الإنسان) ومواد الآثار والتنقيب والتاريخ القديم، واللغات التي كُتبت بالخط المسماري، واللغة العبرية (فوزي رشيد، طه باقر حياته وآثاره). وبعد عودتهما من الدراسة احتلا مراكز هامة في مديرية الآثار العامة، وصدرت لهما مؤلفات عديدة في مجال الآثار والتنقيب وتاريخ العراق القديم، وبجهودهما تأسست مجلة “سومر” ذات البحوث العلمية، وتوسعت رقعة التنقيب، وازدانت المتاحف العراقية بآثار جديدة الاكتشاف، ودرب باقر وسفر جيلاً متفوقاً من الأثريين العراقيين. وتوافقاً مع مخزون التراب العراقي من الإرث النفيس، هناك مَنْ طالب بتدريس علم الآثار في المدارس الثانوية، انطلاقاً من أن الآثار هي ثروة العراق الكبيرة.
فقبل قيام الدولة العراقية، أي خلال العهد العثماني، كانت سرقات الآثار تجري على قدم وساق، ففي أواسط القرن التاسع عشر حملت السفن أنفس الآثار العراقية إلى المتاحف البريطانية والفرنسية والأميركية، والبعثة التي تحصل على فرمان سلطاني بالتنقيب تحمل ما تشاء من الآثار، دون رقيب. قال (سيتون لويد)، المستشار الفني لمديرية الآثار العامة، في مقال نشرته مجلة “سومر”: خلال تلك المدة سار على نهر دجلة الكثير من السفن والإكلال المسروقة بالمنحوتات الآشورية، المرسلة إلى المتاحف الرئيسية في أوروبا والعالم الجديد، والمستندات التاريخية التي لا تُثمن، تلك التي حلَّ رموزها علماء الغرب.
من تلك الآثار طول “ميلين من الألواح المنحوتة، وسبعة وعشرين مدخلاً مكوناً من ثيران مجنحة ضخمة، وأسود جاثمة”. أما ما حمله الألمان من آثار بابل إلى متحف (بيركامون) ببرلين، بعناية فائقة، كان بوابة عشتار، وضريح (نبوخذ نصر) الحجري، ومئات من القطع الأثرية الأخرى. لازالت بوابة عشتار، بكامل هيئتها تقريباً، تضفي على متحف برلين الهيبة والعمق التاريخي، فبين جدرانها يحلم الزائر أنه ببابل وليس ببرلين، يشم عبق القرون الخوالي، ويفيق من حلمه هذا على أجهزة الحراسة الحذرة جداً، أو صوت المترجم الآلي، أو على رطانة السياح المبهورين. وقفت أتأمل ألوان أحجار البوابة الزاهية، من أيّ مادة حضّرها الفنان البابلي، وكيف شكلها هذه التشكيلة العجيبة، فأعطاها قوة البقاء عبر الدُّهور.
شغل ضريح الملك (بوخذ نصر) غرفة كبيرة تحت الأرض، ويبدو المكان مثل مزار مقدس، هاجس الزائر وهو يطوف حول الضريح الحجري معرفة ما بداخله، فأين جسد الملك ومجوهراته المدفونة معه، كما ورد في الألواح؟ عموماً لم يبق من البشر البابلي، الذي صال وجال وشيد تلك الحضارة العظيمة، غير جثمان متفحم لصبي لازال محتفظا بهيئته الخارجية، معروضاً داخل صندوق زجاجي. أما عن كنوز بابل الذهبية فيؤكد أهل المدينة، أنهم يعثرون بين فترة وأخرى على ضريح مفتوح، فيه عظام وجماجم، تركها السراق بعد أن نهبوا ما فيها من المعدن النفيس والحجر الكريم.
قبل نهب المتحف العراقي بالكامل واجهت ثروة العراق الكبيرة استنزافاً، ليس من السطو على أماكن التنقيب فحسب بل سرقات مفضوحة من المتاحف، وآخرها كان الكنز الآشوري الذهبي
نقل البريطانيون أنفس الآثار السومرية والأكدية والعباسية إلى المتحف البريطاني بلندن، منها غنائم حرب، ومنها عن طريق بعثات التنقيب. تحدث ساطع الحصري حول حصة بعثات التنقيب من الآثار “عندما احتل البريطانيون العراق كانت الآثار التي اكتشفتها بعثة (هرسفلت) في حفريات دور سامراء باقية هناك نحو (150) صندوقاً، (و) عندما استولى الجيش البريطاني على سامراء نقلت الصناديق المذكورة، واعتبرها من غنائم الحرب، وأهداها للمتحف البريطاني في لندن” (مذكراتي في العراق).
أما السرقة المفضوحة تلك التي قام بها مدير الآثار العراقية البريطاني (مستر كوك)، أوان الانتداب على العراق، التي أثارت النائب جعفر أبو التمن (ت1945). وغيره من النواب وهم يدافعون عن مقترح تعيين مراقبين عراقيين في مواقع التنقيب، بينما رفض ذلك رئيس الوزراء توفيق السويدي. قال أبو التمن “ذكر فخامة رئيس الوزراء مسألة المراقبين ومصاريفهم، التي صرح القانون بلزوم تأديتها من قبل البعثات، غير أنه يشك في أن تعيين المراقبين ينتج منه فائدة… ولكن أشك بناء على التجارب التي مضت بأن هذه الدائرة أخذها على عهدته مَنْ كنّا نظن أنه يحميها من كل تلاعب، ولكن سمعنا أنه تاجر بكثير من الأحجار والأدوات والآثار” (المصدر نفسه، نص مداخلة أبى التمن في البرلمان).
قبل نهب المتحف العراقي بالكامل واجهت ثروة العراق الكبيرة استنزافاً، ليس من السطو على أماكن التنقيب فحسب بل سرقات مفضوحة من المتاحف، وآخرها كان الكنز الآشوري الذهبي، وقصة هذا الكنز كما قرأنا عنها، أنه حديث الاكتشاف، وطلب نقله لمعاينته من قبل جهات عليا، لكنه لم يعد إلى مكانه في المتحف العراقي. ورغم ما بذله الأثريون العراقيون لحماية الأثر العراقي عموماً إلا أن الغرور السلطوي السابق قاد إلى العبث في آثار بابل وسومر، فشوّه القصر الرئاسي المنطقة الأثرية، ومنها شارع الموكب الشهير، بإعادة تعبيده، وإضافة البنايات على جانبيه، وإعادة بناء المعابد بأسلوب معماري معاصر، لا علاقة له بنمط العمارة البابلية، ودهن الأبنية بالصبغ الأبيض، وبناء المسرح البابلي حتى يتسع للاحتفالات بميلاد الحاكم السابق.
من الآثار النفيسة التي ظلت بعيدة عن متناول البعثات الأجنبية وتجار السوق السوداء، وعمليات الفرهود المنظمة والعفوية التي اجتاحت المناطق الأثرية والمتحف العراقي وخزائن المخطوطات عشية سقوط النظام، هي آثار العتبات المقدسة، من هدايا وتحف بالنجف وكربلاء وبغداد وسامراء، فقد ظلت محفوظة بغرف حصينة داخل المراقد، كانت تحت رعاية الكليدارية (سدنة العتبات). يذكر ساطع الحصري أن دائرة الآثار قامت بتسجيل وتصوير تلك الهدايا والتحف، بعد أخذ الرخصة من الوجهاء والقائمين على خدمة المراقد، وبصفته مديراً للآثار حاول عرض تحف مرقد الإمام علي بن أبي طالب، التي يعود أقدمها إلى العهد البويهي، في متحف مرتبط بصحن المرقد، لكن المعارضة كانت شديدة، وقتذاك، ولعلَّ من دوافعها عدم استيعاب فكرة التشبه بالمتاحف الأوروبية، وأن قدسية متعلقات الأضرحة تبقى في سريّتها.
جُمع خزين المتحف العراقي، حتى نهاية السبعينات، من (6555) موقعاً أثرياً ثبتتها مديرية الآثار العامة على 136 خارطة، تظهر تسمية الموقع بالـ(إيشان) كلما انحدر المسّاحون صوب الأهوار، فقد عينوا بمركز الجبايش فقط ستة وعشرين موقعاً أثرياً، تسعة عشر منها تسمى بالـ(إيشان)، وهي كلمة سومرية لا زالت متداولة تعني التل المحاط بالمياه لخلوها وأثر الأقدمين فيها، ونسجت حولها حكايات مثيرة أخذت بلب الرحالة.
بعد إفراغ المتحف العراقي من متعلقات تاريخ الرافدين يبقى الأمل في ما سيستخرج من تلك المواقع، ومما اكتشف من مواقع جديدة بعدها، لكن العبرة في حمايتها من فرهود قادم، إن كُتب للعراق أن يمتلك متحفاً آخر يتناسب مع ثروته الأثرية الهائلة.
أختم بالقول: يبقى الأثر دليلاً لا يضاهيه دليل آخر على حوادث التَّاريخ، والشَّاهد مِن معروف عبدالغني الرُّصافي (ت 1945) في قصيدة “ظلال التَّاريخ” (الدِّيوان، طبعة1959 :)
فدع عنك لغو النَّاطقين وخُذْ بما
رواه مِن الآثار ما ليس ينطقُ
فإن ذكروا النُّعمان يوماً فلا تثق
بأكثر مما قال عنه الخورنق.