القصّة النسائيّة في تونس
“القصّة النسائية في تونس” عنوان لا يعبّر عن نظرة تجزيئيّة للأدب، بل عنوان تخيّرناه منهجيّا من أجل الوقوف على الكتابة القصصيّة النسائيّة في تونس من الاستقلال إلى اليوم، في محاولة إبراز تطوّرات السّرد الأنثوي والقضايا المطروحة في الكتابة النسائيّة، ومدى تحوّلها وفاعليّتها في المشهد الثقافي التونسي والعربي. كما نسعى من خلاله إلى تحسّس اللّمسات الخاصّة بالنّصوص النسائيّة لمعرفة كيف تمارس المرأة فعل الكتابة بمختلف مستوياتها كأفق للإبداع وللحريّة، وكيف تمارس عنف المتخيّل لنقد الواقع.
كان للمرأة التونسيّة بدايتها في كتابة القصّة القصيرة والرّواية والمقالة والشّعر.. وكما هو شأن البدايات، كانت تلك البداية لا تخلو من ارتباك واحتشام وميل إلى التّبسيط وأحيانا “المباشرتية”.
ورغم ما تميّزت به الكتابة النسائيّة في فترة الخمسينات والستينات في تونس من محدوديّة واحتشام، ورغم غياب التشجيع على الإقبال والبروز، فإنّ المرأة في تلك الفترة وضعت بصماتها، فكتبت ونشرت وعبّرت عن رأيها وطموحاتها بواسطة القصّة والرّواية والمقالة والشّعر.. فعلى مستوى السّرد القصصي، وهو موضوع بحثنا، ظلّت الكتابة القصصيّة النسائيّة شحيحة في تلك الفترة، مع غياب كلّي للمجموعات القصصيّة المنشورة، حيث لا ظهور للقصص سوى في أعمدة الصّحف والمجلاّت. لذلك سنعوّل في مقالنا هذا على إيراد اسم الكاتبات القاصّات مرتّبا حسب تواريخ نشر مجموعاتهم القصصيّة. وهنّ كالتّالي:
نجد في بدايات السّرد القصصي ناجية ثامر في مجموعتها القصصيّة “عدالة السماء” الصّادرة بتونس سنة 1956، و”أردنا الحياة” (1956)، وهند عزوز التي كتبت القصّة في بداية الاستقلال ونشرت بعضها في الصّحف والمجلاّت، ولم تتمكّن من نشر مجموعتها الأولى “في الدّرب الطويل” إلاّ سنة 1969.
إنّ الكاتبتين هند عزوز وناجية ثامر ظهرتا في بداية الاستقلال وكتبتا القصّة من منطلق نضالي دفاعا عن الدّولة التونسية واستقلاليتها من أجل ترسيخ القيم الجديدة، وذلك من خلال التّعبير عن دور المرأة في المقاومة ضدّ الاستعمار الفرنسي إلى جانب الرّجل، ونجد ذلك بصورة جليّة خاصّة لدى هند عزوز في قصتيها “الخائن الأمين” و”من شظايا الثورة”، حيث بيّنت دور المرأة في معاضدة الرّجل والوقوف إلى جانبه في أعماله النضاليّة رغم ما تعترضه من صعوبات وعراقيل في تلك الفترة.
ونجد أيضا فاطمة سليم، وقد أصدرت “نداء المستقبل” (1972) و”تجديف في النيل” (1974)، وكانت قد نشرت أعمالها في الصّحف والمجلات منذ 1961. وعروسية النالوتي في مجموعتها “البعد الخامس” (1975)، وحياة بن الشيخ “بلا رجل” (1979) وليلى مامي “صومعة تحترق”. هؤلاء الكاتبات سلّطن الأضواء على قضايا المرأة وركّزن تحديدا على إثبات قدرتهن على فعل الكتابة الأدبيّة، وضرورة انخراطهن في المجال الثّقافي.
ويمكن القول عموما إنّ المساهمة النسائية في الكتابة القصصيّة في فترتي الخمسينات والستينات كانت شحيحة وضئيلة وتتّسم بالمحدوديّة سواء على مستوى أسماء الكاتبات القاصّات أو على مستوى الإنتاج الأدبي الذي أصدرته النّساء. هذا من حيث الجانب الكمّي، وأمّا من حيث الجانب الكيفي، فإنّ مرحلة البدايات، أي الرّائدات في تاريخ الكتابة النسائيّة في تونس في مجال القصّة القصيرة، تميّزت بالاتّجاه الواقعي وطرح قضايا تتعلّق بالحرّية والوطن والتّعبير عن الواقع الاجتماعي، والغوص في أعماق المجتمع التونسي، وتأكيد دور المرأة في إدارة الاقتصاد العائلي والوقوف على جانب يعرّي المجتمع التونسي الذّكوري سواء أكان الأب أم الابن الأكبر أم الزّوج، ومدى امتثال المرأة وطاعتها له. كما أنّها لم تغفل عن الإشارة إلى تحضّر الرّجل وبيان فكره التّحرري خاصّة بعد صدور “مجلّة الأحوال الشخصيّة” الدّاعية إلى المساواة والتكافؤ بين الطّرفين، وتمكن الإشارة في هذا المجال إلى القصّة القصيرة “أسلم السير في الضياء” لهند عزوز.
وبناء على ذلك، يبدو أنّ نضج الكتابة السرديّة النسائيّة التونسيّة على احتشامها وتأخّرها، بمثابة إبداع استطاع أن يجعل من تاريخ القصّة العربية تاريخا له، حتى لكأنّ تاريخ ما حققته المرأة العربية، منذ زمن الريادة، هو أيضا تاريخ للمرأة التونسيّة تعايشه، وتشارك في كتابته، لكن بكتابة الصّمت والانتظار ثمّ التحدّي والانفتاح.
ولكن هل حافظت المرأة الكاتبة على نفس المنظور الذي انبنى عليه العالم المتخيّل في قصصها القصيرة؟ أم تجاوزت ذلك إلى منظورات أخرى ربّما دفعت بأعمالها نحو الانفتاح والتّجاوز؟
لعلّ أهمّ ما لاحظناه في الكتابة القصصية النسائيّة التونسيّة هو تجاوز القصص القصيرة للمنظور القائم على الثنائيّة الضدية بين الرّجل والمرأة، وهي ثنائية بنيت على خلفيّة أخلاقيّة تعتبر الرّجل متحكّما في المرأة، يقمعها ويحرمها من حقها في الحرية وتحقيق طموحاتها، وهو ما تناولته هند عزوز في بعض قصصها القصيرة كما أسلفنا.
فالقصص القصيرة تحرّرت من النمطيّة وشهدت تحوّلا جديدا، حيث تجاوزت الكاتبات تلك الثنائية، ليبنين عالم القصّة المتخيل بعلاقات منسوجة بين الشّخصيات من جهة، وبينها وبين انتماءاتها الاجتماعيّة وما يعانيه بعضها بعلاقته مع واقع مرجعي معيش من جهة أخرى.
ولعلّنا، في ما سنبيّنه لاحقا، سنقف على المنظور السّردي الجديد في كتابة القصّة النسائيّة التي تحرّرت من السّرد الواقعي، لتحدث مصالحة بين المرأة والرّجل داخل أنساق ثقافيّة متعدّدة، وفي تنويعات سرديّة فنيّة، لها أكثر من مثال مميّز في كتابات المرأة التونسيّة.
الانفتاح والتجاوز
مرحلة الانفتاح والتجاوز وتعدّ أيضا مرحلة التّجديد، انطلقت في مطلع الثمانينات كبداية مرحلة النّضج الفنّي للكتابة النسائيّة التونسية، حيث ظهرت الكتابة القصصيّة بمنظورات وتصوّرات جديدة أوسع من سابقاتها، فارتفع عدد الكاتبات بعدما كان يحصى على الأصابع قبل الثمانينات. وبدأ ظهور نماذج من الكتابة القصصيّة التي تنطبق عليها إلى حدّ كبير شروط كتابة القصّة كفنّ وكجنس أدبي له خصائصه ومميّزاته وشروطه الكتابيّة، وهو ما يؤكّد أنّ المرأة التونسيّة أظهرت قدرتها الفائقة على تتبّع القضايا الكبرى للوطن وأسهمت في بلورتها بالتفاعل والإقناع والتضحية الشخصية، حيث أضافت الكتابة النسائية التونسية إلى المشهد الثقافي الكثير على المستوى الشّكلي والقضايا المطروحة. لذلك فإن مرحلة ثمانينات القرن الماضي شكّلت مرحلة تأسيس بداية التراكم المفتوح على التنوّع في تجربة كتابة القصّة القصيرة لدى المرأة التونسية، وهو تراكم شهد تطوّرا كميّا ونوعيّا خاصّة مع العقد التسعيني، وما زال يشهد تحوّلات مستمرّة. حيث تجاوزت المرأة القضايا الواقعيّة المطروحة في الكتابة القصصية مثل علاقتها بالزوج والظّروف الاجتماعيّة والوصف الواقعي والسّرد المباشر للحالات والوقائع الاجتماعيّة، والانفتاح على التعدّد والتنوّع والتحرّر في الكتابة للتعبير عن القضايا الجريئة والمسكوت عنها والإفصاح عن مشاكلها وهمومها وعذاباتها النفسيّة ورغباتها وطموحاتها وتطلّعاتها. وهي إضافات متميّزة، لها أثرها في الكتابة القصصيّة النسائيّة في تونس، حيث كسّرت المرأة قيود المجتمع والبيت لتعبّر عن حرّيتها بامتلاء وبقدرة كبيرة على نحت أفق لغوي مغاير للسّائد ومكسّر لكلّ حواجز الكتابة التقليديّة ونمطيّتها، لأنّ التحرّر الفعلي هو الإقامة في اللغة، في لفظها ومعناها، في منظومها ومكتوبها ومسموعها، وهو ما يقيم لها علاقة جمالية تصالحية مع الواقع، مع الذات ومع الآخر/العالم ليتسع بذلك وقع حضورها الزماني والمكاني على حدّ سواء.
ذلك أنّ الكتابة النسائيّة في تونس تعدّ من أبرز المحاولات النسائيّة الجريئة في معالجة الواقع وفي متابعة اختلاف القيم وتيّاراتها المتضادّة. ولعلّ أبرز هاجس في أعمالها هو التحرّر والبحث عن جوهر المفاهيم والعلاقات في الواقع الجديد المعقّد عموما، وفي ما يتّصل بشخصيّة المرأة على وجه الخصوص.
وقد تميّزت مرحلة التسعينات بالتحوّل الفعلي في الكتابة القصصيّة النسائيّة التونسيّة لأنّها الفترة الحاسمة التي عرفت تراكما إبداعيّا تصاعديّا في مجال الإبداع القصصي، وبروز تجارب جديدة لها حضور فاعل ومؤثّر في المشهد الثقافي.
لذلك نجد تحوّلا على مستوى البناء الفنيّ والدّلالي لدى الكاتبات، وهو ما يفسّر وعيهنّ بالأساليب الفعليّة للقصّة القصيرة، وبمقوّمات السّرد القصصي الحديث، لذلك تراكمت التّجارب القصصيّة وتنوّعت مضامينها وأساليبها حتى أنّنا نجد لدى الكاتبة الواحدة أكثر من ثلاث قصص، ونذكر على سبيل المثال أهمّ الكاتبات المختصّات في السّرد القصصي:
نافلة ذهب وقد نشرت أوّل مجموعة قصصية لها “أعمدة من دخان” (1979)، ثم تتالت مجاميعها مثل “الشمس والإسمنت” (1983) و”الصمت” (1993)، و”حكايات الليل” (2003) و”شرفة على البحر”(2017). ونعيمة الصيد بمجموعة “الزحف” (1983)، وحفيظة قارة بيبان في “الطفلة انتحرت” (1984)، و”في ظلمة النور” (1993)، و”قهوة إكسبريس” (2018). ومسعودة بوبكر وقد صدر لها “طعم الأناناس” (1994) و”وليمة خاصّة جدا” (2004)، و”أظلّ أحكي” (2012)، و”الرحيل إلى تسنيم” (2017). وجنات إسماعيل وقد كتبت “يوم طاعتي الأخيرة” (1994) و”يد تبحث عن أختها” (1997). في حين نشرت حفيظة القاسمي “مدينة الريم” (1997). أما آمنة الرميلي ففي رصيدها “يوميات تلميذ.. حزين” (1998) و”صخر المرايا” (1999) و”سيدة العلب” (2006). وفتحية الهاشمي لها “الشيطان يعود من المنفى” (2012)، وبسمة البوعبيدي وقد بدأت مسيرتها القصصية سنة 2001 لمّا أصدرت مجموعتها الأولى بعنوان “تغريد خارج السرب” ثم مجموعتها الثانية “أحترف الصمت” سنة 2004. ورشيدة الشارني بكتاب “الحياة على حافة الدنيا” (1997) وحياة الرايس “ليت هندا” (1991). وآمال مختار كتبت “لا تعشقي هذا الرجل” (2003) ومجموعتها القصصية الثانية “للمارد وجه جميل” (2004)، وصفية قم وقد أصدرت مؤخرا مجموعة قصصية بعنوان “أزهار الخشخاش”. وهناك أصوات أخرى لقاصات مبدعات في مجال القصّة القصيرة.
هؤلاء القاصّات جدّدن على مستوى الثيمات القصصية وكذلك على مستوى البناء الفني والأسلوب، حيث برعن في تحليل أوضاع البلاد سياسيا واجتماعيا وثقافيا وفكريا مبرزات رغبتهنّ في فكّ الأغلال التي تأسر اللّغة والسّرد والذّات من أجل الانطلاق وبناء الخصوصيّة المميّزة للكتابة عند المرأة. فقد كتبن نصوصا قصصية جمعت بين جدّة البناء وثراء الدلالة، وهي نصوص شكّلت نقلة نوعيّة في توليد الدّلالات وصوغ المتخيّل القصصي، ما جعلها تمثّل نموذجا قصصيّا نسائيّا تونسيّا جديدا، وهو ما يعني أنّ الكاتبة التونسيّة كانت تنحت نصّها بين سياق المجتمع والانفتاح على التاريخ في بنائية سرديّة لها خصوصيتها وأسلوبها ولغتها.
إنّ تطوّر الكتابة القصصيّة النسائيّة التونسيّة يعكس بكلّ جرأة وإبداعيّة جوانب من المسار التطوّري في الكتابة القصصيّة النسائيّة الجديدة في تونس وتحوّلها وانفتاحها على المغاير والمختلف نحو التجديد والتجاوز. وأمّا عن الثيمات التي تناولتها القصص القصيرة، فقد تنوّعت وتشظّت بين الذّات والأمكنة والأزمنة والمرأة والجسد… وهي ثيمات تتداخل مع أخرى مجاورة لها ولا تقلّ عنها أهميّة. وأمّا من جهة الخصائص الأسلوبيّة والبنائيّة التي ميّزت هذه التّجارب القصصيّة المنفلتة في نشدانها للحداثة والمغايرة، فنجد توظيف العديد من التقنيات السردية واللّغة القصصيّة الجديدة والشّاعرية سواء في توسّلها بالجرأة في الكتابة والبوح، أو في ارتياد عالم الذّكورة والحديث عن التابو والمسكوت عنه.
والأمثلة على ذلك كثيرة ومتنوّعة لكنّنا سنقتصر على أنموذجين لكاتبتين نرى أنّهما وفيّتان لكتابة القصّة القصيرة.
الأولى نافلة ذهب ونلاحظ أنّها منذ أواخر الستينات من القرن الماضي إلى الآن، ومن خلال مجمل ما أبدعته من قصص، تبدو مشدودة دائما إلى البيئة التي احتضنتها في طفولتها، وسنوات مراهقتها. وظلت وفية للقصّة القصيرة، جاعلة منها الأداة المفضلة للتّعبير عن أفكارها وتصوّراتها ورؤاها، وخوالج نفسها، وتصوير خفايا النفس البشرية في خيباتها المرة تحديدا. والقصة القصيرة عند نافلة ذهب تتميّز بالقصر والتكثيف والإيجاز على مستوى العبارة. وهي قصّة ترميزية تنحت الموضوع بدقّة، فيها من التشويق وشاعرية اللغة الشيء الكثير ممّا يضفي عليها جمالية فنيّة متميّزة. ففي مجموعتها القصصيّة “أعمدة من دخان” (وهو أول كتاب لها ويضم 17 قصّة)، طرحت علاقة المرأة بالرّجل، وقد تغيّرت ملامحها بعد الاستقلال فنقلت الكاتبة صورا من تحرّر المرأة: من جهة الملابس والخروج للعمل مبرزة قيمته في حياة الإنسان. أمّا على مستوى البناء، فتميّزت المجموعة القصصيّة بشاعرية اللّغة وبساطة الأسلوب، وأحيانا تقحم الحيوانات كشخصيات قصصية ترميزية مثلما هو الشّأن في قصّة “حكاية الثعلب والأرنب”.
والثانية مسعودة بوبكر، فهي أيضا كتبت القصّة القصيرة ونوّعت فيها على مستوى الشّكل والمضمون، ففي مجموعتها القصصية “أظلّ أحكي”، على سبيل المثال، نلاحظ ارتباطها بالواقع الاجتماعي والثقافي، والواقعية هي ميزة من ميزات الكاتبة، حيث تغلب على جلّ كتاباتها، غير أنّ هذه النزعة الواقعية لم تمنع كتاباتها من التنويع والحداثة على مستوى البناء والتركيب، لذلك يمكن اعتبار أقاصيصها صورة من صور تحوّل الكتابة القصصية في تونس. فقد أشارت إلى أحداث الثورة وما خلّفته من وقع على المثقف الذي أصبح يعاني ضبابية المشهد الثقافي الذي تحول إلى فسيفساء. وهذا ما عبّرت عنه قصّتها “فوق عرش السلطان”، هذا الذي تسبب في تفقير الشعب وإذلاله ومحاصرته والقضاء على حقوقه.
وأمّا في مجموعتها القصصية “الرحيل إلى تسنيم”، فنلاحظ تنوّعا على مستوى مضمون هذه القصص من جهة البعد الاجتماعي العامّ، من ذلك مثلا تطرّق الكاتبة إلى ظاهرة التهريب كما في قصّة “خيط أحمر في الصحراء”، والعنف والتطرّف والهجرة السريّة كما في قصّة “حيث لا ظلّ يتبعني”، حيث تتحرّر القاصّة بهذا الانفتاح على الكوني من المحلية لتعانق الكونية والانخراط في الأشمل والأعمّ لأنّ الهجرة السريّة ظاهرة كونيّة عالمية، أتت على كلّ الشعوب المهمّشة والمنسيّة، ولم تقتصر على جهة بعينها. وفي قصة “الرحيل إلى تسنيم”، يحضر التطرف بكلّ لغاته وأسلحته، الشيء الذي ينعكس على أسلوب القصّ، وتتخلّص القصة من السّرد الأحادي، لتنفتح على التعدّد والتنوّع على مستوى الأسلوب والخطاب.
هكذا يحفل المشهد الإبداعي النسائي التونسي بكتابة القصّة القصيرة، حيث نجد أصواتا رسّخت للتجربة القصصية وأخرى انخرطت منذ الثمانينات في تعزيز المشهد القصصي التونسي وهنّ كثيرات وقد سبقت الإشارة إليهنّ. وأخريات يكتبن القصّة القصيرة بطرق مختلفة، ولكنّهن يراكمن نصوصا أصبحت الآن مؤهلة للقراءة النقديّة الموضوعيّة.
نلاحظ أنّ الكاتبات القاصّات وجدن في القصّة القصيرة مساحة لغوية لتشييد حكاياتهن كما رأينا مع نافلة ذهب التي ظلّت وفية للقصّة القصيرة، حيث حققت تراكما مهمّا، فالقصة القصيرة بالنسبة إليها هي فضاء البوح والمناجاة فيها تمارس رؤيتها وتصوّرها للواقع وللكون بصفة عامّة في نصّ قائم على الإيجاز والتكثيف ودقّة العبارة وشعرية اللغة. لذلك ترى أنّ كتابة القصّة القصيرة وحدها كافية للتعبير عمّا يختلج بداخلها وعن رسم أهدافها وتصوّراتها.
أما الرواية، فقد تأخّر ظهورها مقارنة بالقصّة القصيرة، حيث نجد رواية “آمنة” لزكية عبدالقادر التي صدرت لأول مرة سنة 1983. ثم تلتها رواية “مراتيج” (1985) لعروسية النالوتي ثم تواصلت كتابة الرواية مع حياة بن الشيخ وعلياء التابعي… وظهرت نصوص تختلف في أسلوبها وثيماتها، وفي مرجعياتها أيضا، وهي نصوص بعضها يدخل في جنس الرّواية، وآخر يمتزج فيه ما هو روائي بما هو سيرذاتي، والبعض الآخر يهيمن على سرديته البوح الاعترافي، وهي أشكال كتابيّة تُعبّر عن مسألة مهمّة في الكتابة الأدبيّة التونسيّة بشكل عامّ، هي مسألة التّجريب التي شملت كلّ الأشكال التعبيريّة، وبناء على ذلك تتالت الكتابة الروائيّة وبرز في هذا المجال العديد من الروائيات اللاتي تخلّين عن كتابة القصّة القصيرة ونحين نحو الرواية، وبرزت بالتالي أقلام نسائية كثيرة منها حفيظة قارة بيبان ومسعودة بوبكر وأمال مختار، وآمنة الرميلي، وإلهام بوصفارة…. وأخريات بدأن ينخرطن في التعبير الرّوائي.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الكتابة القصصية النسائية قد تراجعت، وربّما أصبحت نادرة باستثناء بعض الكاتبات اللاتي بقين وفيات للقصّة القصيرة من ذلك مثلا نافلة ذهب ومسعودة بوبكر.
هكذا ننتهي إلى القول بأنّ مشهد الكتابة القصصية النسائية التونسية قد شهد تطوّرا وتحوّلا على مستوى الثيمات والتناول، وهو تطوّر يحيل على مدى قدرة الكاتبات التونسيات على توظيف الإمكانيات الفنيّة والمعرفيّة والجماليّة التي ينفتح عليها النصّ النسائي والتي تُغني المشهد الإبداعي التونسي من حيث خصوصية النص القصصي ونوعيته، ومن حيث المساهمة في تطوير أسئلة القراءة وأسئلة النقد الأدبي.
ختاما يمكن القول إنّ الكتابة النسائية في تونس ظلّت في بداياتها متعثّرة نتيجة عدّة ظروف تاريخيّة عاشتها البلاد في فجر الاستقلال، وقد تطوّر السّرد النسائي التونسي نتيجة وعي المرأة بقضايا الواقع الاجتماعيّة والثقافيّة والفكرية وضرورة التّعبير عنها بالكتابة، لذلك نوّعت على مستوى الأجناس الفنيّة من قصّة وشعر ورواية ومقالة ومسرح… ونوّعت أيضا على مستوى البناء الفنّي، فحطّمت النموذج التقليدي القديم ورسمت لنفسها مسارا قائما على التحرّر والانعتاق من القديم، وحاملا لرؤية تسعى إلى تحقيقها عبر الكتابة، لذلك خاضت التجريب وجدّدت في أساليب الكتابة والتّعبير إيمانا منها بأنّ الكتابة هي فعل ممارسة، وفعل اختلاف، فلا كتابة خارج الاختلاف، ولا كتابة خارج الأسئلة الكبرى التي لا جواب لها.