القلب النابض للغة
الشعر هو استعمال اللغة على غير الصيغ المألوفة بتحوير علاقة الدال بالمدلول وابتكار لغة جديدة مختلفة عما درج الناس على استعماله أثناء تواصلهم بين بعضهم البعض أو في خطبهم المكتوبة، هو إذن، لغة مارقة عن الميثاق الاجتماعي الذي يعتبر المرجع المحدد لمعانيها وسياقاتها، إذ يحولها الشعر بفضل “خيال الشاعر وانتقائه لمفرداتها الأكثر إيقاعا” إلى لغة التفرد، تلك المعبرة عن عالمه الخاص كي تمنحه إمكانية التحرر من سطوة النظام الاجتماعي الاقتصادي والسياسي، لقدرتها على أن تكون مرآة لذاتيته.
الشعر هو القلب النابض للغة الحامل لوجدانها وهو أيضا أحد مصادر تجديدها، فلو عدنا إلى التراث العربي الإسلامي إلى المعلقات السبع في العصر الجاهلي، لتبينا قيمة الشعر وعلاقته الوثيقة باللغة في تحديد خصائصها وملامحها الكبرى، لقد مكّن الشعراء من تقلد دور ريادي في إحياء اللغة وتجديدها على المستوى الرمزي والمعنوي بفضل قدرتهم على خلق تصورات جديدة للعالم وتغييرهم لموقع الإنسان في الحياة وفي الوجود .
في هذا المضمار، يمكن أن نذكر بعض الأمثلة بالرجوع إلى الشعر القديم من خلال ما أضافه المتنبي وأبو تمام والبحتري على المستوى اللغوي سواء من حيث الشكل مع ما يستلزمه من جماليات، أو المعنى وتعدده، أو استنادا إلى الشعر الحديث وما أضافه رواد الشعر الحر من بينهم بدر شاكر السياب، نازك الملائكة ومن بعدهم نزار قباني ومحمود درويش، وتجدر الإشارة إلى أن دور الشعر في تجديد اللغة لا يقتصر على الثقافة العربية الإسلامية رغم مكانته المتميزة، بل وكذلك في ثقافات أخرى فلو عدنا إلى قصائد أرتور رامبو أو ستيفان مالارميه أو شارل بودلير الشعراء الفرنسيين، أولئك الذين عرفوا بالملعونين لتبينا أنهم ابتدعوا لغة وإيقاعت جديدة (خاصة رامبو ومالارمي) وكذلك قدموا تصورات حديثة للعالم خاصة في قصائد شارل بودلير.
أما الرواية، فيمكن تعريفها على أنها تلك القصة التي تروي أحداثاً معينة وتدور في أزمنة وأمكنة متعددة تعيشها شخصيات رئيسية وثانوية وتقوم بنيتها الكلاسيكية على الحبكة وفكها، هي فن غربي بامتياز كما ذكر الروائي التشيكي ميلان كنديرا في كتابه “فن الرواية” نشأ إثر التحولات الكبرى للمجتمع الغربي على امتداد مراحل عديدة، بداية من تقهقر النظام الإقطاعي وظهور الفردانية ثم الطبقة البورجوازية ومع الانهيار التدريجي للقيم الموروثة وظهور الحداثة، ومعنى ذلك أن لكل رواية نظامها الداخلي بما يحمله من مناهضة أو ترسيخ أو كشف عن تناقضات النظام القائم الاجتماعي السياسي الثقافي والاقتصادي بواسطة فن الحكي بإبراز الصراعات المختلفة التي يعيشها أفراد مجتمع ما في حقبة معينة من تاريخه، من هذه الزاوية يمكن القول إن للرواية علاقة وطيدة بالتاريخ و الأمثلة على ذلك لا تعد ولا تحصى، نذكر منها رواية “جرمينال” للروائي إيميل زولا وعلاقتها بالثورة الفرنسية أو رواية “الأوهام الضّائعة” للروائي أونوريه دي بلزاك ما ترويه من الصراعات مردها التفاوت الطبقي الذي عرفه المجتمع الفرنسي خلال القرن التاسع عشر، أو ثلاثية نجيب محفوظ “بين القصرين، قصر الشوق، السكرية” وما ترويه من تفاصيل حول خصائص المجتمع المصري بتقاليده وعاداته ومشاغله وصراعاته، أو “البحث عن وليد مسعود” للروائي جبرا إبراهيم جبرا وطريقة تناوله للقضية الفلسطينية، أو “موسم الهجرة إلى الشمال” للروائي الطيب صالح وما رواه عن المجتمع السوداني وطريقة تناوله لإشكالية الحداثة وعلاقتها بالاستعمار الغربي.
والرأي عندنا، أن الشعر في أعلى مراتبه يجدد، بينما الرواية على تعدد مدارسها غالبا ما تؤرخ ولو بأشكال مختلفة، ولأن الرواية ما انفكت تجمع بين الأجناس الأدبية، فالشعر تجاوز بنيته الكلاسيكية ليدمج النثر ويحوله إلى صور وإيقاعات، فلا شك أن كلا منهما تأثر بالآخر، فما طرحناه تأسس على الملامح الكبرى لكل منهما، وهو يرمي في نهاية المطاف إلى طرح السؤال التالي :
لمَ أسندت جائزة نوبل للآداب لشاعرة أميركية هي لويز غلوك؟ هل يعني ذلك أن الشعر أفلح في افتكاك مكانة الرواية التي تصدرت المشهد الأدبي العالمي طيلة عقود عديدة، خاصة وأن الشاعرة الفائزة بنوبل لم تكن تحظى بشهرة واسعة؟
ما يمكن استنتاجه أن جوائز نوبل بالنسبة إلى سنة 2020 جاءت للاعتراف بأعمال النّساء وقدرتهن على المساهمة بإبداعية في تطور الإنسانية جمعاء، فقد أسندت جائزة الكيمياء لسيدتين أيضا هما جينفر دودنا وإيمانويل شاربنتيي. أما في خصوص جائزة نوبل للآداب، فقد اعتبرت لجنة التحكيم أن شعر لويز غلوك قد ارتقى بالوجود الفردي إلى أن يكتسب قيمة إنسانية عالمية .
بقطع النظر عن الأسباب الظاهرة أو الخفية لذلك الإسناد، فهل يدل حصول الشاعرة الأميركية لويز غلوك على جائزة نوبل على تقهقر مكانة الرواية التي عرفت منذ الخمسينات أزمة عميقة إثر نشأة الرواية الجديدة؟
إن كنّا قد طرحنا هذا السؤال فمرد ذلك ما أحدثته الرواية الجديدة من زعزعة في بنية الرواية الكلاسيكية كما عرفت لدى بلزاك وزولا بأن أعادت النظر في أسسها من زمان وتسلسل في الأحداث وارتباطها بالمكان وبتقنيات السرد والوصف التي اعتمدتها، فقد اختار تيار الرواية الجديدة القطيعة التامة مع النظام الاجتماعي القائم بكل ما يحمله ويعبر عنه من قيم.
وهو ما حدث منذ سبعين سنة تقريبا، ومع ذلك استمرت هيمنة الرواية على مشهد الأدبي بفضل تأثرها واستفادتها من الفنون الأخرى مثل المسرح والسينما ومن العلوم الصحيحة والإنسانية ومن الأجناس الأدبية الأخرى من بينها الشعر، إلى جانب ما عرفته من ظهور تيارات جديدة كتلك التي برزت في أميركا اللاتينية وسميت بالواقعية السحرية بأن منحت الرواية روحا جديدة ورؤية مختلفة للعالم.
حصول الشاعرة لويز غلوك ليس وليد مصادفة، بل هو مؤشر على أن العالم يشهد تحولات عميقة وجذرية، تتمثل في إعادة النظر في كل ما يصدر عن الأنظمة الاجتماعية والسياسية والأفراد المبدعين في عالم الكتابة والبحث عن لغة جديدة وعلاقات مغايرة بالذات والآخر في بالعالم.