القناع والقناع النقيض
بثَّتْ قصائدُ السَّياب التي أعقبت قصيدته "المسيح بعد الصَّلب" شبكاتٍ دلاليةً تُومئ إلى استمرار واقع الحياة في القبر، وذلك بسببٍ من "أفضال" ثورة 14 تموز 1958 وإنجازاتها التي تكشَّفت عن ظلاماتٍ ومظالمَ جسَّدت حقيقتها، فقد هيمنت على نسيج تلك القصائد، وعلى شبكاتها الدَّلالية، رموزُ الموت والانبعاث الزائف المُشوَّه، ومن بينها رمز "إلعازر" النقيض؛ أي "إلعازر" الذي يبتعثهُ "يهوذا" لا "المسيح"، فيظلُّ مقترناً بباعثه، مسكوناً بخصائصه، ودالاً على حضوره فيه.
ولئن كان السَّياب قد وظَّف هذا الرَّمزَ توظيفاً جزئياً في قصائد من مثل "مدينة السِّندباد"، و"رؤيا في عام 1956"، و"سفر أيُّوب"، ليُحمِّلهُ دلالات الموت في الحياة على المستويات المختلفة، فليس بلا دلالة أنْ يتحوَّلَ هذا الرَّمزُ، المُوظَّفُ جزئياً في قصائد السَّياب، إلى رمزٍ محوريٍّ كُلِّيّ يتشكَّل في سياق بناء قناعٍ سالبٍ، أو قناعٍ نقيض، يخوض تجربة ابتعاث مُشوَّه، فتتملَّكه شهوة موتٍ تُحَجِّرهُ، وتُحوِّله إلى إله خصبٍ زائفٍ، إلى تنيِّن قحطٍ وهلاكٍ وموت، وذلك في قصيدة "لعازر 1962" للشاعر خليل حاوي.
لطالما آمنَ الشَّاعر خليل حاوي بانبعاث الذّات العربية، والحضارة العربية، من رقادهما الذي طال أمدهُ إلى ما يزيد على الألفِ عام، فاشتعلت في دمه ووجدانه وقصائده رؤى انبعاثٍ أصيلٍ يخرجهما من الانحطاط والجمود ويدخلهما في صيرورة نهضةٍ تكتنزُ تحوِّلاً إنسانيِّاً وحضاريِّاً يتواصلُ تحقيقهُ، ويتعزَّزُ حضورهُ ويرسخً، جيلاً بعدَ جيل. وما أنْ انبثقت هذه الرؤى في القصائد الأخيرة من ديوانه الأول "نهرُ الرَّماد"، الذي عاين فيه واقع الانحطاط والتَّرَدِّي في الحضارة الإنسانية؛ الغربية والشَّرقية، كاشفاً حقيقة أنَّ "بعضها طينٌ مُحَمَّى، بعضها طينٌ مَوَات"، حتَّى راحَ يغني انبعاث هذه الحضارة، ويُنبىئُ بحدوثه، في قصائده اللاحقة، ففي قصيدة "وجوه السِّندباد" تنفتحُ ذاتهُ الشَّاعرة على رؤيا انبعاثٍ جذريٍّ، أصيلٍ وكُلِّي:
أسندي الأنقاضَ بالأنقاضِ
شُدِّيها .. على صَدْرِي اطْمَئِني،
سَوفَ تخضَرُّ،
غداً تَخْضَرُّ في أعضاءِ طِفلٍ
عُمْرُهُ مِنْكِ ومِنِّي.
ثُمَّ سرعانَ ما تصبحُ هذه الرؤيا، النابعة عن تصوُّر وجودِ تفاعلٍ خلاَّقٍ منفتحٍ على الحياة بين الإنسانِ والحضارة، مصدراً لتوليد رؤيا تُجَسِّدُ انبثاق هذا الانبعاث، وتدلُّ على اقتراب موعد تحقُّقه في الواقع الفعليِّ، وما تلك إلا رؤيا تحقُّق "الوحدة العربية" التي تنبَّأ بها الشَّاعر في قصيدة "النَّاي والريح في صومعة كمبردج":
ماذا سِوى عَقْدِ القبابِ البيضِ
بيتاً واحداً يزهو بأعمدة الجباه
يزهو بغاباتٍ من المُدنِ الصَّبايا
لِينَ أرصفةٍ وجاه
أَيَصِحُّ عبرَ البحرِ تفسيخُ المياه؟!
ثُمَّ عاينَ الشَّاعرُ هذه الرُّؤيا يقيناً يتحقَّقُ في الواقع، لا خبراً تحدو به الرّواةُ، ففي العام 1958، أُبْرِمَت الوحدة بين مصر وسوريا، فرأى فيها إرهاصاً بانبعاثٍ حضاريٍّ أصيل، وبنهضةٍ تحملُ الحضارة العربية الجديدة، ومبدعتها الذات العربية الجديدة، إلى أفاقٍ أبعد، عُمقياً وأفقياً، بحيثُ تنهضُ الوحدة العربية الشَّاملة على تَفجُّرٍ من أعماقِ الذَّات، فتشملُ العرب كلَّهم، وتُنهي تشظِّيهم إذْ تجمعُ شتات أقطارهم، فتحتضنُ البحرَ الذي لا يَصِحُّ تفسيخَ مياهه، فغنَّى هذه الوحدة التي تصوَّرها ناهضةً على مشروع نهضةٍ تتأسَّس عليه وتنهضُ بإنجازه، وذلك في قصيدته "السِّندباد في رحلته الثَّامنة":
ما كانَ لي أنْ أحتفي
بالشَّمسِ لو لم أرَكُمْ تَغْتَسِلُونَ
الصُّبحَ في النِّيلِ وفي الأردُنِّ والفُراتْ
من دَمْغةِ الخطيئةْ
وكلُّ جسمٍ ربْوَةٌ تَجَوهرت في الشَّمسِ،
ظِلٌ طيِّبٌ، بُحيرةٌ بريئة،
أمَا التَّماسيحُ مضوا عن أرضِنَا
وفارَ فيهم بحرُنا وغار
وسوفَ يأتي زمنٌ أحتضنُ
الأرضَ وأجلوا صَدْرَها
وأمسحُ الحدودْ.
ولكن سرعان ما كَذَّبَ الواقعُ الرؤيا، مثلما كذَّبَ ما بدا أنَّه تَجَسُّدٌ لحقيقتها فيه، وذلك على غرار ما كذَّب واقعٌ قريبٌ منه فرضَ تجسُّد رؤيا السَّيَّاب في اندلاع ثورة تموز 1958 العراقية، فعوضاً عن ترسيخِ الوحدة وتوسيعها عبر "مسحِ الحدود" وعبور الجسور صوبَ الذَّات العربية الجديدة والحضارة العربية الجديدة و"الشَّرق الجديد"، تنهارُ الوحدة المصرية – السُّورية في العام 1961 جرَّاءَ انقلابٍ انفصاليٍّ، فَيُفجَعُ الشَّاعرُ في رؤياهُ، وفي أحوال العرب المتشبِّثين بالبقاء العاجز في أقبية العتمة. وإذْ بدا الانفصالُ تجلياً إضافياً من تجليات الاستبداد والانحطاط والانبعاث الزَّائف المًشوَّه، استعادت رؤيا "الكهفِ المُظْلِمِ" حضورها الرَّاسخ في الواقع العربي، وفي ديوان "بيادر الجوع"، لتحلَّ محلَّ ومضةٍ أبرقت، في الشِّعر المُسْتَشْرِفِ وفي الواقع المُتطلَّع إليه، برؤيا "القبَّةِ المُنِيرة" والانبعاث المُضيء.
زيف الانبعاث ووهم القيامة
في أعماق هذا الكهف المُعتم وأغواره السَّوداء، تتحجَّرُ الذَّاتُ الإنسانيةُ وتنحطُّ الحضارة، ويصيرُ الزَّمن ثقيلاً باهظاً تُعاني الذَّات الشَّاعرةُ وطأته، فقد استحالت دقائقهُ إلى دُهُورٍ، وما عاد أمام الشَّاعر من خيارٍ سوى استبدال الأقنعة والرُّموز؛ فمن المُغامر الجوَّال الجوَّاب المنفتح على الحياة والعالم؛ أي من "البحَّار" و"السِّندباد" و"النَّاي" و"الرِّيح"، و"الجسر" المفتوحة جميعاً على كل أُفُقٍ وبُعْد، والمنطوية على دلالة الاتصال والانفصال والصيرورة والتَّحوُّل، إلى "الكهف" و"الكاهن" كرمزين على احتقان الذَّات والحضارة وتحوُّل حَيَوِيَّتِهما الخلاَّقة إلى كبريتٍ حارقٍ ونارٍ مُجرِمة، ثُمَّ إلى "لعازر عام 1962" الَّذي يَدلُّ اسمه، استناداً إلى زيف انبعاثه ووهم قيامته من الموت، على جوهر كيانه ومكونات هُويَّته المُعتمة التي تُتأسَّسُ على حياةٍ في الموت وموتٍ في الحياة، والذي يُجسِّد في ذاته واقعَ أجيالٍ "يُبتلى فيها القويُّ الخيِّرُ بالمحال فيتحوَّلُ إلى نقيضه" مُحيلاً الحياة إلى رُعبٍ وموت، مُحَجِّراً الواقع في جحيم شهوات مُتحجِّرةٍ تنبعُ من "شهوة الموت" التي تتملَّكهُ فيجسِّدها عبر حضُورُهُ المُتحجِّرُ في الحياة.
لطالما آمن الشاعر خليل حاوي بانبعاث الذات العربية، والحضارة العربية، من رقادها الذي طال أمده إلى ما يزيد على الألف عام، فانشغلت في دمه ووجدانه وقصائده رؤى انبعاث حضاري
المرجعية الزَّمكانية والنَّصية
تنهض صيغة عنوان القصيدة "لِعازر عام 1962" بتوليد دلالةٍ مؤدَّاها أنَّ هذه القصيدة، الموسومة بهذا العنوان، تتمحورُ حولَ لِعازر مُتَعيَّن ومُحَدَّد هو لِعازر المنسوب زمنياً إلى العام 1962. ولأنَّ الزَّمان لا يتجسَّدُ إلا في المكان، فإنَّ هذه النِّسبة الزَّمنية تظلُّ منطويةً على نسبة مكانية تتوضَّحُ من خلال علاقة العنوان بالقصيدة، وعلاقة القصيدة بالسياق الشَّعري للثقافة التي تنتمي إليها، وبالثَّقافة على وُسْعِها وعبرَ تَعَدُّد سياقاتها، وبالمجتمع الذي أُنتجت في رحابه، وبالشَّاعر الذي أبدعها؛ فإذْ نعرف من خلال تقصِّي تلك العلاقات وإدراكها أنَّ العنوان يسمُ قصيدة عربية تنتمي إلى الشعر العربي الحديث، وإلى الثقافة العربية، وأنَّ هذه القصيدة قد كُتبت ونُشرت في حقبة زمنية كانت فيها الذَّات الشَّاعرةُ التي أبدعتها حاضرةً في قلب الواقع العربي، وفي مدينة عربية عاينت فيها تلك الذَّات وقائعَ وأحدائاً، فإنَّ ذلك يُحيِّلُ النِّسبة الزَّمنية المكانية إلى أداء وظيفة "نعتٍ" لاسم العلم "لعازر" فيوضِّحهُ ويُزيده تعيُّناً إذْ يجعل من العام 1962 صفةً أساسية من الصفات الكامنه فيه، أي غير المُسْقَطَة من خارجه عليه، وذلك لأنه يرتبطُ بها ارتباطً انتسابٍ وعيش، بحيثُ يُمكننا، في ضوء دلالة الزمان على المكان الذي فيه يتجسَّدُ متمرئياً به ومتناظراً معه، أنْ ننسب "لعازر عام 1962" إلى أي من المدن العربية، ولا سيما منها بيروت ودمشق والقاهرة، فهو البيروتي، والدمشقي، والقاهري، ...إلخ، كما يُمكننا أنْ ننسبه إلى الذات العربية الكلية التي تحتضُ ذوات المدن العربية جميعاً، فنكونُ إزاء لعازر العربي المتشكِّل في مُخيلة الشَّاعر خليل حاوي التي جسَّدت حضورهُ في واقع الحياة نصَّاً هو القصيدة التي تقول تجربته المديدة والمتغايرة عبر الأزمنة.
وإذْ يحملنا تحديد المرجعية الزمنية المكانية على هذا النَّحو إلى استرجاع الأحداث التي وقعت في العام 1962 وما سبقها من أحداث وقعت في أعوام سابقة عليه فأفضت إلى ما وقع فيه، فإنَّ اقتران اسم لعازر بهذا العام يُولِّدُ مفارقتين متداخلتين: زمنية ونصِّية.
أما المُفارقة الزَّمنية، فإنها تنبعُ من نسبة "لعازر" إلى عام بعينه بغية تمييزه عن آخرين يحملون الاسم نفسه وينتسبون إلى أعوام أخرى سابقة أو لاحقة، أو بغية الإيحاء باستمرار وجود "لعازر" واحدٍ خاضعٍ لصيرورة تجارب وتحولاتٍ لا تتناهى إذْ تتواصلُ، متغايرةً ومتبدِّلةً في تساوقٍ منسجمٍ أو في تناقضٍ فادحٍ، عبر الأزمنة بحيثُ تتعدَّد تجليات "لعازر" بتعدُّد تجاربه وتحولاته.
وإذْ تتحرك هذه المُفارقة الزَّمنية على المستويات الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، فإنها ترتبطُ بمفارقة نصِّية تتحرَّك على المستويات الزمنية الثلاثة نفسها، حيثُ يدعونا اقتران اسم "لعازر" بالماضي إلى البحث عن شخصيات حقيقية أو إبداعية حملت الاسم نفسه وحقَّقت لنفسها حضوراً في التاريخ والنَّص، فتذهبُ الذَّاكرة، مشفوعةً بالتنقيب والاستقصاء والبحث، إلى استدعاء سَمِيِّيه وردائفه وإلى تعرُّف ما تُواريه ذاكراة الثقافة التي حفظت أسماءهم من تجاربهم المنقولة إليها عبر أيٍّ من وسائل التوصيل والبثَّ، أو عبر الاتصال المُباشر بالنُّصوص الأُول التي حملت أسماءهم وحفظت تجاربهم.
ولعلَّ "لعازر" الأرسخُ حضوراً في الحياة والتَّاريخ، وفي ذاكرة الثَّقافة والذَّوات القارئة، ألا يكون أحداً إلا "لعازر" المرتبط بالسَّيد المسيح، وذلك لأنه الأكثرَ هيمنةً على وسائل التوصيل والبث، ولأنه الأقدم تحقٌّقا في النص، ولأن نصوصاً لا تُحصى قد تناصت، بطريقة أو بأخرى، مع تجربته المروية، لأول مرة في "إنجيل يوحنا"، تناصاً مباشراً، أو عبر نصوص وسيطة تحقق له تواصلاً واستمراريةَ حضورٍ في الأزمنة والأمكنة والثقافات. وعلى ذلك، فإن لعازر الإنجيلي المرتبط بالمسيح؛ لعازر العِنْياوي (نسبة إلى القرية الفلسطينية بيت عِنْيا)، هو الأسرع حضوراً إلى سطح الذاكرة، بحيث تتولد عن حضوره مفارقة زمنية تفصل ما بين لعازر العام 1962 ميلادي ولعازر الذي بعثه المسيح من الأموات في يوم من أيام العام 29 ميلادي. فيما هي تصل بينهما عبر تجديد حضور لعازر القديم في نص شعري يتحقق بعد ألف وتسعمائة وثلاثة وثلاثين عاماً من زمن معجزة انبعاثه، وبعد ما يقرب من تسعة عشر قرناً من التحقق النصي الأول لقصة تلك المعجزة التي لم يكن لعازر غير موضوعٍ لتجليتها.
وبانبثاق هذه المفارقة الزمنية وتداعياتها، تنبثقُ مفارقةٌ نصيةٌ، إذْ نكون إزاء لعارز القديم المتحقق في "إنجيل يوحنا"، ولعازر الجديد الذي سنتعرَّفهُ في قصيدة خليل حاوي التي يدلنا عنوانها على أنها تتمحور حوله، وذلك على النحو الذي يُنتجُ فرضيةً نصِّيةً تتجاوب مع الفرضية الزمنية من وجهة الاتصال والانفصال والتواصل والانقطاع، بحيث نفترض حضور تجربة لعازر القديم في قاع القصيدة التي تتمحور حول لعازر الجديد المتصل بالقديم والمنفصل عنه، وبحيث ينتجُ عن ذلك احتمال أنْ يتواصل النص الجديد - القصيدة، مع النص القديم - الإنجيل، كنصٍّ رئيسٍ، ومع النصوص المصدرية الأخرى: الأناجيل وغيرها، فيما هو يغايرها، وينقطع عنها.
أما اقتران اسم لعازر بزمن كتابة القصيدة ونشرها لأول مرة في الناس، أي بالزمن الحاضر المُزَامِنِ إنتاج القصيدة ونشرها، فإنه يعطي دلالة تكرار جوهر تجربة لعازر القديم في الحقبة التي استدعت إعادة إنتاج تجربته في نص جديد، فيضعنا أمام فرضية أن القصيدة ستنهض على قول تجربة انبعاث تحقَّقَ في تلك الحقبة، أو في ذلك العام على وجه التحديد، أو أنها، على أقل تقدير، ستُومِئُ إلى بشائر انبعاثٍ صائر نحو الاكتمال، وذلك على اعتبار أن تجربة لعازر القديم تلقي ظلالها على العنوان، فَتُرّشِّحُ القصيدة لأن تحمل تجربة موازيةً لتجربة لعازر الإنجيلية، ومتجاوبةً معها، وذلك في سياق اتصال وانفصال يتحركان في إطار من التوازي المتجاوب، فنكون إزاء مفارقة نصية تُمَوضِعُ النص القديم في زمن كتابة النص الجديد، وتذهب بالنص الجديد صوب اختراق الأزمنة والنصوص القديمة، فيما هي تذهب به صوب اختراق أزمنة المستقبل الآتية لتموضعه في أحقابها المتواصلة، ولتحفر له في سياقها سياقا خاصاً به في الحقل الإبداعي الذي ينتمي إليه، وفي المجال الثقافي العام، سياقا يتغير موضوعه بتغير مكونات كل من الحقل والمجال، بحيث يحقق حضُورُه على ذلك النحو المُتَغَيِّر حضوراً مُتعيَّناً لتحقُّقه كنصٍّ جديد، وحضوراً إضافيا للنصوص الكامنة في قاعه والتي تخترق نسيجه، مثلما تخترقُ السياق والحقل الإبداعيين، والمجال الثقافي العام، وتسكنها جميعاً وتنحمل عليها.
الزَّمن ومُستقبل النَّص
وليس المستقبل بالنسبة للنص، إلا رديفا لأزمنة قراءته، أو مشاهدته المتواصلة بعد تجسده في شريط مُصَوَّر، أي أنَّ مستقبل القصيدة التي نحنُ بصددها وكلُّ قصيدة/ هو زمن إعادة إنتاجها عبر القراءة التي تحقق لها حضوراً في حاضر القراءة وفي الحياة، فيكون حاضر القراءة هو المستقبل المستمر للقصيدة، فيما النص الذي يكمن في قاعها هو ماضيها ويكون حاضر كتابتها هو حلقة من حلقات سلسلة الماضي بالنسبة لزمن القراءة، فيما مستقبل زمن القراءة هو القراءات اللاحقة التي ستتواصل في الزمن. وعلى ذلك فإن اتصالنا بالقصيدة، في هذه اللحظة من العام 2015، أو في أي لحظة من أي عام قادم، سيحقق حضورها في زمن القراءة، أي سيجعل حاضرها هو لحظة القراءة، أو الحقبة الزمنية التي تحتضن هذه اللحظة (وليس لحظة الإبداع أو لحظة النشر لأول مرة)، بينما سيكون ماضي القصيدة متجسداً في زمن كتابتها من جهة، وفي الأحقاب الزمنية التي تملأ المسافة ما بين زمن كتابتها ونشرها وزمن قراءتنا لها، من جهة ثانية، وفي أزمنة النصوص الكامنة في قاعها، والمنسربة في نسيجها من وجهة ثالثة.
وعلى ذلك، فإننا إذْ نقرأ قصيدة "لعازر عام 1962"، في هذه اللحظة من لحظات عامنا هذا، فإننا نقرأ فيها تجربة لعازر العام 29 ميلادي، وتجربة لعازر العام 1962 ميلادي، وذلك في الوقت الذي نبحث فيه عن لعازر اللَّحظة التي نعيش، أي لعازر الذي يخصنا، والذي ينتسب إلى زمننا وإلينا، وهكذا نكون إزاء ثلاثة نصوص، على الأقل، تسكن نصاً واحداً هو القصيدة التي نقرأ، ويكون النص الأول (القديم) مجسداً في طريقة إعادة إنتاجه في القصيدة، ويكون النص الثاني هو القصيدة، فيما النص الثالث هو قراءتنا لها في ضوء معطيات رؤيتنا الواقعَ الذي نعيش، وهي القراءة التي تتفاعل مع الرؤية التي تبثها القصيدة في واقعنا، وتلك التي تبثها في الواقع الذي استدعى إنتاجها، وفي الأزمنة التي تلته.
ذاك جانب من المعطيات والدَّلالات والمفارقات التي تنطوي عليها، وتولدها، صيغة عنوان القصيدة عبر العلاقات الداخلية المنسوجة بين مكوناتها من جهة، وعبر العلاقات التي تنسجها تلك المكونات مع القصيدة ومصاحباتها النصية والنصوص المصدرية التي يحتمل أن تُنشيءُ القاع الذي ستنهضُ عليه من جهة أخرى.
وإذ أفضى تحليل تلك العلاقات إلى تحديد المرجعيات الزمنية والنصية على مستوياتها المختلفة وإلى تأكيد أن الواقع العربي في العام 1962، هو المرجعية الواقعية المزامنة كتابة القصيدة ونشرها لأول مرة، وأنَّ "إنجيل يوحنا"، الذي ينفرد وحده برواية قصة بعث لعازر من الأموات، هو المرجعية النصية والزمنية القديمة للقصيدة، فإنَّ المصاحب النصي (المقتبس) المرتبط بالعنوان في علاقة مجاورة سياقية ودلالية، يُؤّصِّل فرضية أنْ يكون "إنجيل يوحنا" هو النص المصدري الرئيس الذي تنهض عليه القصيدة وتتناص معه.
ما إنْ نُكملَ قراءة العنوان حتى نجدَ المُصَاحب النَّصي التالي، فنقرأ: "وذهبت مريم، أخت لعازر، إلى حيث كان الناصري، وقالت له: "لو كنت هنا لما مات أخي"، فقال لها: "إن أخاك سوف يقوم"."، ثمَّ نجد إشارة تدلُّ على انَّ هذا المُصاحبَ النَّصيَّ مُقتبس من إنجيل يوحنا. وإذْ نُدقق في الأمر بالرجوع إلى هذا الإنجيل لمقارنة ما ورد فيه بما هو وارد في المُصاحب النَّصي (المقتبس)، نجد أنَّ آليات الأخذ والحذف والتعديل والتحويل والإضافة قد اعتمدت في بناء صيغته بغية إنتاج دلالاتٍ جديدة لعلَّ أبرزها إدراج النَّص في زمكانٍ متغاير لا يتناهى، وتوليد احتمالات عديدة بشأن الصَّوت الذي سنسمعه في القصيدة، وبشأن النَّصوص التي ستتفاعل معاً في بناء هُويَّة ناطقها، وتشكيل تجربته المروية فيها، وبناء قاعها العميق.
وظائف التَّقديم النَّثري
ما إنْ نهيء أنفسنا، ونحن نقلب الصفحة الأولى التي تتضمن العنوان والمصاحب النصي، للدخول في القصيدة، ولتعرٌّف طبيعة حضور "لعازر عام 1962" فيها، بما يكفل إزاحة الفروض والاحتمالات المتباينة حول صوت ناطقها، وبما يهيئنا لاعتماد آليات قرائية موائمة للنص الذي سنقرأ، حتى نواجه بتقديم نثري يستغرق الصفحات الأربع اللاحقة، فنحمل الفروض والاحتمالات، ونواصل القراءة، فماذا يقول التقديم؟ وما الوظائف التي يؤديها بوصفه جزءاً أساسياً من القصيدة، كالعنوان والمصاحبات النصية الأخرى؟ وما الدلالات المتولدة عنه على مستويي التماهي والتناص وما يتصلُ بهما من فروض واحتمالات؟ فلنقرأ إذنْ:
"كُنْتَ صدى انهيارٍ في مُسْتَهَلِّ النِّضال، فغدوتَ ضجيجَ انهياراتٍ حين تطاولت مراحلهُ. ثُمَّ راحت ملامحُكَ تُكَوِّنُ ذاتَها في ذاتِي، وتعتصرُ من كُلِّ مُناضلٍ ينهار أخصَّ صفاته وأَعَمَّها، كذلك راحَ الضَّجيجُ يستقرُّ على صورةٍ صافيةِ الإيقاع تشفُّ عن أعماقه المُعْتَكِرة. ويوم تمَّ تكوينُكَ، يوم طلعتَ من بخار الرَّحم ودخان المصهر، كُنْتَ لعينيَّ وجعاً ورعباً. حاولتُ أنْ أهدمكَ وأبنيكَ، وكانت مراراتٌ عانيتها طويلاً قبل أن أنتهي عن رغبتي في أنْ تكون أبهى طلعةً وأصلبَ إيماناً وأجلَّ مصيرا."
تلكم هي الفقراتُ الثلاث الأولى من التقديم، تضعنا الفقرة الأولى إزاء ذات متكلمة، وأخرى مخاطبة، فنفترض أنَّ الذَّات الشاعرة، أو المؤلف الضمني، تخاطب ذاتا لها خصائص مناضل موسوم بالسقوط الذَّريع، والانهيار المدوي. أما مطلع الفقرة الثانية: "ثُمَّ راحت ملامحُكَ تكون ذاتها في ذاتي" فإنها تضعنا إزاء ذات واحدة، هي الذَّات الشاعرة وقد انشطرت إلى متكلم ومخاطب، أو إلى مُتَأَمِّلٍ ومُتأَمَّلٍ فيه، أو إلى أنا هو (المتكلم)، وأنا مغاير هو الأنت (المخاطب)، بحيث تتعرف الأنا المتكلمة ذاتها، وتكشف خصائصها، في ذات اللحظة التي تتأمل فيها الأنتَ (المخاطب) لتتعرفه عبر اكتشاف مميزاته وخصائصه ومكونات هُوِيَّته.
ذاتٌ مُشظَّاةٌ واصطراعٌ داخليٌّ
هكذا تكون الأنا المتكلمة قد وضعت نفسها إزاء نفسها، في تضاد حاد يعكسه التضاد مع الأنت المخاطب، كتضاد يُمظهر الاصطراع الداخلي العنيف الذي يمور في أعماقها، إذ يتناقض واقع حالها مع تطلعاتها تناقضَ واقع إحالتها الموضوعية لذاتها في الواقع الفعلي وفي الممارسة والسلوك مع الرؤى والتَّصورات التي بنتها لنفسها عن ذاتٍ جوهرية عميقة تطلعت إلى اكتسابها، وإلى تحقيق حضورها الفاعل في الحياة.
وهكذا يصيرُ المتكلمُ نقيضَ المُخَاطَب، المُتَأَمِّلُ نقيض المًتَأَمَّل فيه، فلئن كانت الأنا المتكلمة قد دفعت نفسها في مجرى النضال لتعثر على ذاتها، فإن تطاول مراحل النضال، وتصاعد وتائر الضجيج الصاخب الذي رافقه، تكشفا عن واقع انهيارات صارخة لازمت ذلك النضال مذ مستهله، وحتى آخر مراحله، بحيث خرجت الذات المكونة داخل هذا الرحم - المصهر، ذاتاً مُشَوَّهَةً هي النقيضُ الصارخُ للذات التي تطلَّعت الأنا المتكلمة إلى اكتسابها، وإلى تحقيق حضورها في أعماق كيانها كجوهرٍ لكينونتها.
خضرٌ متروك وتنيِّنٌ مُهيمن
يُؤسِّسُ التقديم النَّثري هوية "لعازر" على "خضر" متروك، و"تنين" مهيمن، فيجعلهُ قناعاً نقيضاً، فليعازر الإنجيلي؛ لعازر – الإنسان، يتكَّشفُ عن نقيضه: الهولة الحيوانية الخرافية المتوحشة. ولأن الترك والاكتساب والتكشف قد تحققوا جميعاً في مجرى تجربة واقعية استدعت، في سياق عملية تحويلها إلى شعر يقتنص الرؤى ويجسدها، استلهام موازياتها الأسطورية، ونقائضها التاريخية - الدينية المسكونة بمعجزات تصلنا بأساطير الموت والانبعاث، فإن هذه المنابع الثلاثة: التجربة الواقعية، أساطير الموت والانبعاث، قصة "لعازر" المروية في "إنجيل يوحنا"، تتفاعل في قاع النص، وتتصارع مفرداتها في نسيجه، لتبني رؤية الأنا النَّاطقة، أي الذات الشاعرة، لنقيضها: "لعازر"، ولتنهض بتعميم حضوره في الزمان والمكان، وفي كثرة لامتناهية من الذوات، على امتداد الأزمنة والأحقاب، والمجتمعات والثقافات.
ولئن اكتسب لعازر من الأسطورة طبيعة التنين، فإنه يكتسب اسمه من إنجيل يوحنا، بينما تعطيه التجربة الواقعية المتجسدة في انبعاثٍ مُشَوَّه خصائص مناقضة للعازر الإنجيلي، وتكسبه صفة "الطاغية"، "والعميل"، الذي تكون مذلته مصدر تعاظمه: "مارداً عاينتهُ يَطْلُعُ من جيبِ السَّفير".
وفي سياق تأسيس التناقض بين لعازر العام 29 ميلادي، و"لعازر عام 1962" تتكشف ملامح التجربة التي خاضها كلاهما، وتنكشف الأسباب الكامنة خلف انبعاث الأول انبعاثا مُعْجزا أصيلاً، وتمخض تجربة الثاني عن انبعاث مشوه زائف، وتتوازى التجربة الواقعية مع نقيض التجربة الدينية - الأسطورية التي تومئ إلى التجربة الواقعية، أو تقولها من خلال رمزيتها: "وما شأني إنْ تَكُنْ عنايةُ الناصريِّ أبت عليك أنْ تموتَ وأنتَ بطلٌ تراجيديٌ يتوهَّجُ بجلالِ التَّضحية ونشوتها بالجراح: "مُبْحِرٌ، سكران، ملتفٌ بزهر الأرجوان" وكيف تبعثك العناية وأنت مَيْتٌ حجَّرته شهوةُ الموت، وفي طبيعة الانبعاث أنْ يكونَ تفجُّراً من أعماق الذَّات".
ترى الذات المتكلمة هنا أن "لعازر" الذي أقامه "الناصري" من الموت كانَ "خضراً" حقيقياً، بطلاً تراجيدياً مسكوناً بالوفاء، أي موازياً لباعثه الناصري. غير أنَّ اصطدامه بالمحال، ويأسه من تطاول مراحل النضال، ثم سقوطه وعمالته، أحالته، بتضافرها، إلى نقيضه، فعوضا عن موته في الموت، بطلاً تراجيدياً عظيماً، أصبح ميتاً في الحياة، فما إنْ تملكته شهوة الموت وحجّرته، حتى صار مستحيلاً على "الناصري" أنْ يبعثه من جديد، وذلك لأنَّ "في طبيعة الانبعاث أنْ يكون تفجراً من أعماق الذات"، لا مجردَ إسقاط خارجي. وليس للناصري طالما هو حاضرٌ حضوراً مفارقاً، أنْ يقدرَ على بعثِ من لا تَسْكُنُهُ رغبةٌ عارمةٌ في الانبعاث، أي من لا يسكن الناصريُّ المُتَصَوَّرُ أعماقَهُ.
إذ نقرأ قصيدة "لعازر 1962"، في هذه اللحظة من لحظات عامنا هذا، فإننا نقرأ فيها تجربة لعازر العام 29 ميلادي، وتجربة لعازر العام 1962، في الوقت الذي نبحث فيه عن لعازر اللحظة التي نعيش
قناع الحياة والعالم
ومثلما حاولت الذات الشاعرة، في سياق التقديم النَّثري، هدمَ "لعازر" وإعادة بنائه ليكون هو الأبهى والأصلب والأجل كذلك تفعل زوجة لعازر، التي هي بمثابة مُعادلٍ إليغوري للذَّات الشَّاعرة، ومثلما اصطدمت الذات الشاعرة في محاولتها تلك بالمحال إذْ لم تمتلك القدرة على أن تُعِيدَ صَوغَ إنسانٍ حجَّرته شهوة الموت، فسقطت لعجزها عن فعل ذلك في العدمية المطلقة واكتسبت خصائص نقيضها "لعازر"- القناع النقيض، كذلك يكون شأن الزوجة مع زوجها فقد "كانت تنزعُ إلى كمالٍ وجوديٍّ يشبع النفس والجسد، فخذلتَها أنتَ زوجها الحاقدُ المَيْت"، و"ظلَّت تتهاوى إلى أن بلغت قرار جحيمك وحفرتك، نزفتَ في دمها الكبريت فارتدتْ عليك بالنَّاب والمخلب".
ومثلما استنكفت الذات الشاعرة عن رغبتها في إعادة بناء ذاتها، عبر هدم وإعادة بناء لعازر، كذلك تستنكف الزوجة (قناع الذَّات الشَّاعرة أو مُعادلها الإليغوري) عن رفع الصلوات "لإلهٍ لم يعرف الجوعَ ولا الأفاعي المتولِّدة من شهوةٍ مُتَدَافِعَةٍ"، فتكبتُ شهواتها في أعماقها، ليحولها الكبت وعجز لعازر، إلى نقيضٍ لجوهر فطرتها، فتصير إلهة موتْ، بل إلهة عدم مطلق، أي تصير أفعى تُعانق عنفواناً في قرارات جحيم.
تقع الذات الشاعرة، مباشرةً، أو من خلال القناع الإيجابي الذي هو "زوجة لعازر"، ما بين مطرقة القناع النقيض "لعازر"، الذي يعمل على صوغ تلك الذات على صورته ومثاله، وسندان "الناصري" المترفع عن التجربة الحسية، والغارق في مثاليات العقيدة القومية التي تقولها النظرية الناصرية الشمولية، أو في روحانيات الترفع الملائكي التي تقولها تجربة السيد المسيح مع مريم المجدلية.
وفي ظل فاعلية لعازر في نشر الموت في الحياة، واستنكاف "الناصري"، مسيحاً ومناضلاً ناصرياً، عن التجربة الواقعية الملموسة، الحياتية الحية، ونزوعه إلى كمال ملائكي، لا وجودي، تنشطرُ الذات الإنسانية، مُجَسَّدةً في الذات الشاعرة، ما بين "مثالية غيبية" و"مادية متسفلة"، فتتعطل الحياة، وتتغور الحيوية، ويخلع "الوهم ظلَّه المُخّدِّر على فجائعِ الواقع"، وتتجسَّدُ الفجعية في اكتشاف الذَّات الشاعرة قناعها المهيمن المرعب، قناعها النَّقيض: "لعازر عام 1962"، وليس ذلك باعتبار هذا القناع قناعاً لها فحسب، أو قناعاً لجماعة بعينها، أو لحقبة زمنية أو جيل، أو عصر، أو عصور وأجيال، بل بوصفه قناعاً للحياة بأسرها، وللعالم: "وبَعْدُ فأنتَ لا تختصُّ بجماعةٍ دونَ جماعةٍ. كنتُ شاهداً ورأيتك في صفوفهم جميعاً".
إضافةً إلى كونه تكثيفاً لشبكة دلالاتِ القصيدة، وإيماءً إلى مكونات القاع الذي تنهض عليه، وإفصاحاً عن الرؤية الفلسفية التي تبثها التجربة المروية فيها، وإشعاراً بالاتجاه السلبي العدمي الذي تتخذه تلك التجربة، وفضاً لشفرات الرَّمزين المركزيين الكبيرين: "لعازر" و"زوجة لعازر"، وهي الأمور التي نحسب أنْ تحميلها للتقديم النثري يفرغ شحنة التلقي لدى القارئ، إذ يفقدهُ متعة الاكتشاف والكشف التي تتأتَّى من الرَّحيل في سراديب النَّص، وتنجمُ عن القراءة الإنتاجية التي تجعلُ القارئ كاتباً، فإننا نلحظُ أنَّ هذا التقديم النثري قد توخى النهوض بوظيفة أساسية تتحرك على مستوى ديالكتيك التماهي، فتساعد القارئ، إذا ما واصل السَّعي للتَّخلُّص من إسقاطات قراءة الشاعر للقصيدة على قرائته هو لها، على تحقيق تلك القراءة التفاعلية المنتجة، فقد بيَّنَ التقديم انشطار الذات الشاعرة على نفسها، وأفصح عن أهمية تلقي القصيدة في ضوء إدراك أنَّ هذه الذات توزِّع مكونات هويِّتها المتحقِّقة على نقيضين: لعازر وزوجة لعازر، وأن هذا التوزيع يتم وفق آليتين متناقضتين تناقضاً مطلقاً، فإذ تختار الذات الشاعرة التماهي بزوجة لعازر، أو بالرموز الجزئية الأخرى المنطوية على دلالات الزوجة "رمز الحياة"، فإنها ترفضُ رفضاً مطلقاً أنْ ترى ذاتها العميقة في لعازر "رمز الموت في الحياة". غير أنَّ لعازر الطاغية المستبد ينتصر على الذَّات الشاعرة، فيَصُبُّ ملامح ذاته وخصائص هُويَّته في كيانها، فَيُكَوِّنُهَا ويجعلها تتحقَّقُ على صورته ومثاله.
هكذا نكون إزاء قناعٍ وقناعٍ نقيض يُشكلان هُويَّة الذات الشاعرة لحظة كتابتها القصيدة. ونظراً لأن القناع النقيض هو القناع المكتسب بالفعل، فيما القناع الأصيل هو الذات المتطلع إليها، فإنَّ القناع الأخير للشاعر، أي القناع الذي يجسد المغزى العميق للقصيدة - التجربة، ورؤية الشاعر لذاته المكتسبة في سياق إنتاج القصيدة، سيتشكَّلُ ويتكوَّنُ في صيرورة تجربة تفتح القناع والقناع النقيض على تفاعلٍ صراعيٍّ يكشف خصائص كلٍّ منهما، ويُجلِّي طبيعة العلاقة القائمة بينهما، وصلة كل منهما بأقطابٍ ورموز أخرى متفاعلة في صوغ القناع، وفي المقدمة منها (المسيح ـ الناصري)، بحيث تتشكل في سياق ذلك التفاعل شبكات دلالية تنسج، بتعالقها وتفاعلها، الدلالةَ الكلية للقصيدة، فيما هي تصوغ الهوية العميقة للقناع الناتج عن جدل النقيضين، والذي تُجَسِّد نهايةُ هذا الجدل طبيعته الأخيرة ومغزاه.
وبدهيٌّ أنْ يُفضي تَكَفُّلَ التقديم النَّثري بتوضيح انشطار الذات الشاعرة على نفسها ما بين نقيضين إلى توليد فرضية ذهاب هذه الذات إلى توزيع نفسها، في القصيدة، على قناع وقناع نقيض، فنكون على الأقل إزاء صوتين وذاتين ينطقان القصيدة ويخوضان تجربتها: زوجة لعازر ولعازر عام 1962، وذلك دون إلغاء إمكان أنْ نُصغي إلى أصوات الذوات ـ الرموز الأخرى الحاضرة في شبكة العلاقات التي تكشفت لنا حتى الآن: لعازر 29 ميلادي، مريم (أخت عازر)، الناصري (المسيح القديم والمناضل الناصري)، يوحنا (راوي قصة لعازر الإنجيلي أو كاتبها)، أو ربما إمكانية الإصغاء إلى أصوات ليستْ حاضرةً في تلك الشبكة، حيث يظلُّ إمكان توسيع هذه الشَّبكة، أو تعميقها، باستدعاء أنماط أصليةٍ يتواصل معها أو يناقضها أيٌّ من الرموز الحاضرة فيها، إمكاناً مفتوحاً حتى اللَّحظة الأخيرة من صيرورة القصيدة.
ونظرا لتكفل التقديم النثري بإعطاء الدلالة الكلية لكلٍّ من القناع والقناع النقيض، ولرموز جزئية أخرى كالخضر والتنين والناصري، فإن ذلك يسرِّعُ إمكانية تَعَرُّف الذوات ـ الرموز التي تذهب إليها حركة إحالات الضمائر، وذلك في حالة غياب أي إشارة نصية تُعَوِّضُ غياب المقام في النص المكتوب. كما أنَّ ذلك يمكننا من تعرُّف هوية صاحب الصوت الذي ينطق هذا المقطع او ذاك، أو هذه المتتالية أو تلك، عبر مقاربة دلالتهما بالمنطويات الدلالية للذوات ـ الرموز، وذلك لما لتعرُّفِ هُوِيَّةِ قائل القول من أهمية تساعد على اكتشاف مستويات الدلالة وأبعادها وعلى إدراك النصوص المصدرية الكامنة في قاع النص، والمتداخلة، بخفاء في نسيجه.
وعلى الرَّغم من أنَّ الشاعر قد أعطى في التقديم النثري، قراءته الخاصة لقصيدته، وكشف عن دلالتها الكلِّية، وعن هوية القناع المتحقق فيها، فإنَّه ليس لأي قراءة للقصيدة تريد أن تكون قراءةً تتسمُ بالحيوية والثَّراء إلا أنْ تتعامل مع قراءة الشَّاعر، أي التقديم النَّثري، بوصفها جزءاً من النَّص يحمل قراءةً مُقترحةً لهُ على مستوياتٍ بعينها، ويندرجُ ضمن قراءات كثيرة محتملة ليس آخرها أيُّ قراءة قادمةٍ قد تتأسَّس على المقدِّمات والملامح والأسس المنهجية التي بيناها، والتي نقترحُ اعتمادها لإنجاز قراءة تتوخَّى تعرُّف طريقة بناء النَّص وتكوين كُلٍّ من القناع، والقناع النَّقيض، والقناع المًتشكِّل عبر صراعهما المفتوح، وذلك إلى جانب تعرُّف كيفية تكوين غيرهما من الأنماط الأصلية والرموز المتدافعة في صيرورة هذه القصيدة ـ التجربة.