القناع سبيلا إلى البوح
عدّ تضمين الكاتب العربي نصه الروائي عناصر من حياته الحقيقية مظهرا من مظاهر التقنع والتخفي. وعلى هذا الأساس اعتبرت الرواية السيرذاتية العربية سيرة ذاتية مقنّعة، وقرئت روايات من قبيل “إبراهيم الكاتب” للمازني، و”سارة” للعقاد، و”الحي اللاتيني” لسهيل إدريس، و”التجليات” للغيطاني، و”ثلاثة وجوه لبغداد” لغالب هلسا وغيرها، سيرا ذاتية مكبوتة مقموعة تتوكأ التخييل الروائي لتخفي ما عاشه الكتّاب فعلا لا رواتهم التخييليون. ومطمح هذه المقالة أن تناقش هذا الرأي النقدي الذي سار مسار المسلمات، وتبيّن تعدد وجوه هذه المسألة وتشابكها، وتكشف أنّ القناع وإن كان يطلب للحماية، فإنّ له قدرة على التعرية ودفع الكاتب إلى الاعتراف وحسن اكتشاف الذات.
لعلّ أهمّ وظائف القناع توفيـر الحماية لمن يكتب قصّة حياته وحيـاة ذويه وأحبابه. فمن شأن القناع أن يقيم حاجزا بين الأحداث المرويّة وحياة المؤلّف الحقيقيّة، فيضمن له ولمن يحيطون به قدرا من الصيانة والستر يقيه ويقيهم من الافتضاح والهتك. وعلى عكس السيرة الذاتيّة، يمنح المتخيّل الروائيّ الكاتب فضاء من الحريّة وسيعا. وتتجاوز هذه الحريّة النصّ لتتوسّط علاقة الكاتب بالقارئ، إذ تضمن الرواية للكاتب انفراده بوجوده التاريخيّ الشخصيّ في استقلال عن النصّ والقارئ. فبفضل الراوي التخييليّ، يستطيع الروائيّ أن يخلق عالما روائيّا مشاكلا للواقع دون أن يضطرّ إلى أن يبرّر للقارئ خياراته ويدافع عن مواقف شخصيّاته، إذ حمل الرّاوي عبء ذلك كلّه. أمّا كاتب السيرة الذاتيّة، فإنّ تعهّده برواية قصّة حياته الشخصيّة، يجعله في نظر القارئ المسؤول الأوّل المباشر عن النصّ ومضمونه. ذلك أنّه قبل طوعا أن يتحمّل هذه المسؤوليّة وحده وأن يعرض شخصيته عارية أمام الجمهور مع كلّ ما يحفّ بهذا العرض من مخاطر. وليس يعني ذلك طبعا أنّ الرواية فضاء آمن من الرقابة، يوفّر الحماية الكاملة من سوء الفهم والاتّهام. فالواقع يكذّب هذا الأمل الذي ينتظره الكاتب من الرواية. وتاريخ كل من الروايتين الغربيّة والعربيّة معا من “فلوبير” إلى “نجيب محفوظ” و”حيدر حيدر” مليء بأمثلة قاسية ممّا قد يتعرّض له الروائيّ بسبب ما يكتب من المحاصرة والمحاكمة وحتّى التحريض على القتل.
ومع ذلك فإنّ سخط السلطة الدينيّة أو النظام السياسيّ أو المجتمع ينصبّ على الروائيّ حين يقترب من الدّين أو السياسة أو الأخلاق، بوصفه مبدعا لأثر أدبيّ تخييليّ يحسب له حساب في إفساد المعتقد أو التّأليب على صاحب السّلطان أو نشر سوء الخلق، ولا ينصبّ عليه بوصفه الممثّل الواقعيّ للعالم الروائيّ التخييليّ. فإذا كان البطل في الرواية ملحدا فلا يعني ذلك أنّ الكاتب بالضرورة ملحد، وقد تمنع الرواية من التداول ولكن دون أن يحاسب الكاتب على عقيدته الدينيّة. وإذا ما قام العالم الروائي على اختراق المحظور الديني والأخلاقي في ما يهمّ الجنس، فقد تصادر الرواية “حفاظا على الأخلاق العامّة” ولكن لا يحاسب الكاتب بوصفه المخترق الحقيقيّ للأخلاق، الآثم الفعلي في النصّ.
فمهما تكن شدّة الرقابة ومهما تكن قراءة السلطة أو المجتمع عدائية سطحيّة في ربطها بين النصّ الروائيّ وصاحبه، يظلّ المتخيّل الروائيّ مع ذلك، قادرا على أن يضمن مسافة فاصلة بين النص والواقع التاريخيّ وبين الشخصيّة الروائيّة وخالقها الكاتب. وإذا ما حوسب الكاتب فإنّما يحاسب لأنّه خلق تلك الشخصيّة لا لأنّه اعتقد ما اعتقدت في الرواية من آراء دينيّة أو تمرّد مثلها على ما تمرّدت عليه من نظم سياسيّة أو اجترح ما اجترحت هي من آثام أخلاقيّة وعاش ما عاشت من تجارب جنسيّة.
للرواية إذن مقدرة عالية على المباعدة بين النصّ وشخصيّة المؤلّف وحماية حياته الخاصّة ومواقفه الدينيّة والسياسية من التعرّي والافتضاح. وقد يصل هذا التباعد إلى حدّ التنافر التام بين الروائيّ وبطله وبين حياته وأحداث الرواية. وليس “بلزاك” المنتصر للأرستقراطيين في الواقع، السّاخر منهم في رواياته مثالا فريدا على ذلك. فلطالما انقلب الروائيّ في نصه على شخصيّته الاجتماعية ليبتدع شخصيّات بعيدة عنه ومال إلى رؤى للعالم غريبة عمّا عرف عنه في الواقع. وما بالأمر النّادر أن تشهد علاقة الكاتب بنظم المجتمع ومواضعاته وطابوهاته تحوّلا جذريّا في الرواية. فكثير من الكتّاب المتديّنين، المطمئنّين إلى معتقداتهم، أبدعوا شخصيّات قلقة تنزع إلى التصادم مع الدّين، وكثير ممن كانوا في وفاق مع النظام السياسي، تمرّدت عليهم شخصيّاتهم واتّخذت من السلطة غير ما اتّخذوا من مواقف…
على نقيض الروائيّ، يجد كاتب السيرة الذاتيّة نفسه محروما من الحماية التي توفّرها الرواية، مجبرا على أن يعرّي نفسه أو يصمت. فبغضّ النظر عن صدق كاتب السيرة الذاتيّة أو كذبه، فإنّ التزامه بالميثاق السيرذاتيّ يجعل كل ما يرويه عن نفسه دليلا إلى شخصيّته ووثيقة يمكن أن يحاسب عليها ويساءل عنها وقد تغيّر نظرة معاصريه إليه. ولذلك فإنّ كلّ اقتراب من المحرّمات الدينية والسياسية والأخلاقية في السيرة الذاتيّة عمل حرج ومجلبة للشكوك وقفز إلى المجهول، إذ لا يمكن أن يتخيّل الكاتب لا سيّما إذا كان شخصيّة مشهورة من أيّ المواقع يمكن أن تنطلق إليه السهام بدءا من العائلة فالأصدقاء والصحافة وممّن عرف من الأدباء والسياسيين وممّن لم يعرف أيضا. ويكفي أن نتذكّر هنا الضجّة الكبيرة التي أحدثها اعتراف نجيب محفوظ بتردّده قبل الزواج، على دور البغاء السريّ في القاهرة. ولعلّه ليس من باب الصّدفة أن عدّ حديث الكاتب عن علاقته بالدّين والجنس والسياسة محرارا تقاس به درجة نزاهته وتحدّد على أساس جرأته والتزامه الحقيقة قيمةُ سيرته الذاتيّة.
على أنّ كاتب السيرة الذاتيّة سواء اعترف بالحقيقة أو تستّر، لا يسلم في كلتا الحالتين من انتقاد النّاس. فإذا اختار أن يقول كلّ شيء في ما يهمّ الجنس، فإنّه واقع لا محالة، لا سيّما إزاء أقاربه، موقع الاتّهام والمساءلة وغالبا ما ينظر إليه على أنّه مثال أخلاقيّ أعلى تهاوى وسقط. وإذا اختار أن يقول حقيقة آرائه السياسية ومواقفه من النظام الحاكم، فإنّه سيجلب لنفسه غضب السّلطة ومحاصرتها إيّاه، هذا إن سمح للكتاب أن يرى النور أصلا. أمّا إذا اختار الكاتب أن يتجنّب “المحرّمات” فيبرز خضوعه للسلطة الدينية والسياسية والأخلاقية، وهو ما قد يكون حقيقة فعلا، فإنّ أغلب القرّاء سيصابون بخيبة أمل. فستبدو لهم حياة المؤلّف عاديّة لا بطولة فيها، ولن يجدوا فيها من التمرّد والتحدّي والفوضى ما يؤهّلها لتكون موضوع سيرة ذاتيّة يقبل عليها القرّاء.
لهذا ربما وفرّت الرواية بما تتيح من فرص للتخفّي والتقنّع، فضاء مناسبا للحديث عنّ الذّات في حقيقتها وجوهرها، بآثامها وآلامها وعقدها دونما خشية من الافتضاح والتعرّي. فقد حمل الراوي عن المؤلّف وزر كلّ ما أتى البطل من “كبائر” واجترح من آثام.
على هذا النّحو تبدو الرواية الملاذ الذي لجأ إليه الكاتب العربيّ لتدوين قصّة حياته وتجاوز العوائق النفسية والاجتماعية والحضارية التي تحول دونه وصياغة هذه القصّة في نصّ سيرذاتيّ صريح. وبذلك كانت وظيفة المتخيّل الروائيّ بما يوفّر من أقنعة، سدّ نقائص الواقع وتلبية حاجة المؤلّف إلى الحرية الغائبة وحمايته وصيانته من الرقيب الذاتي والخارجي معا. أمّا فضل القناع الروائيّ على الأدب فهو فتح منفذ يستطيع به جنس السيرة الذاتيّة وإن على سبيل الاستعارة والمواربة أن يفتكّ له موقع قدم في ساحة الأدب العربيّ.
وهــم القناع
بيد أنّ العودة إلى الروايات السيرذاتية العربية وقبول تجديد النظر في قضيّة القناع فيها بعد أن غدت مسلّمة محسوما أمرها، يكشفان لنا أنّ كلّ مظاهر التقنّع تجاورها وتداخلها وتزاحمها شواهد على نزوع مؤلّفي الرواية السيرذاتيّة إلى التعرّي والافتضاح والتخلّي عن غطاء المتخيّل الروائيّ لكشف الذّات ورواية قصّة الأنا. ومن شأن ذلك أن يدعونا إلى النظر إلى القناع في الرواية السيرذاتيّة نظرة نسبيّة وإعادة البحث عن دوافع الكاتب إلى اختيار الرواية بديلا للسيرة الذاتيّة ووضع ما سلّم به عدد من النقّاد موضع شكّ وسؤال: فهل إنّ الرواية السيرذاتيّة لا تزيد فعلا عن أن تكون مجرّد سيرة ذاتيّة مقنّعة؟
إنّ القناع في الرواية السيرذاتيّة قناع شفيف كشّاف يفضح أكثر ممّا يستر ويبرز أكثر ممّا يخفي. فالحدود تبدو ضبابيّة زلاّقة بين القناع ونزع القناع، وبين الهروب والمواجهة، والتخفّي والتجلّي، والتستّر والبوح. وإذا كان هذا الاستنتاج لا يعني بالمرّة أنّنا ننكص على أعقابنا وننفي ما كنّا قد أثبتناه سابقا من أهميّة القناع في الرواية السيرذاتيّة، فإنّه يؤكّد ما لمسناه في نصوص الرواية السيرذاتية من تأرجح قلق ونوسان لا يكلّ بين الظهور الخفيّ والخفاء الظّاهر.
يدفعنا هذا الرأي إلى أن نعيد النظر في ما توصّل إليه كثير من النقّاد من اعتبار الرواية السيرذاتيّة العربيّة سيرة ذاتيّة مقنّعة. فأحد وجوه الخطأ في هذا القول ليس الحديث عن صلة الرواية السيرذاتيّة بالقناع وإنّما النظر إلى القناع على أنّه مطلق ثابت. لكنّ الحقيقة التي قادتنا إليها النصوص هي عكس هذا الحكم تماما. فرغم أنّ مبتدأ أيّ مشروع روائيّ سيرذاتيّ والأسّ الذي ينهض عليه هما المواربة والتقنّع والحديث عن الذّات داخل غطاء المتخيّل، فإنّ المسار الذي يتّخذه هذا المشروع في ما بعد داخل السّرد ليس غير نزع الأقنعة والانعتاق من المتخيّل إلى شفافيّة الإحالة المرجعيّة. فلعلّ من الأسلم أن نصف الرواية السيرذاتيّة بأنّها الرواية التي تضع القناع لا لتثبته بل لتقتلعه وتدكّ الحواجز بين العالم التخييليّ والعالم المرجعيّ.
إنّ القناع متاح لكاتب قصّة حياته سهل الوصول إليه منذ أن يختار التخييل الروائي أداة للتعبير. فكلّ أدوات الكتابة الروائيّة من الميثاق الروائيّ والراوي إلى الشخصيّات والأحداث والأطر، كفيلة بأن توفّر الغطاء الذي يستطيع المؤلّف أن يختفي وراءه فلا يقع له القارئ على أثر ولا يأخذه أيّ ارتياب في بعد المسافة بين الشخص التاريخيّ كاتب النصّ، والشخصيّة الروائيّة بطلة الأحداث. ولهذا أمكن بيسر للرواية التاريخيّة مثلا بفضل القناع الروائيّ تعمّد الإسقاط التاريخيّ والحديث عن الحاضر في لبوس من الماضي وسرد أخبار الذّات متلفعة بقصص من أقاصيص الماضين. وليس ذلك بمقصور على الرواية التاريخيّة فمن اليسير جدّا على كلّ روائيّ أن يتحدّث عن نفسه وعن أشخاص يعرفهم في الواقع دون أن يتفطّن إليه ويفتضح أمره بشرط أن لا يفضح هو نفسه ويحافظ على صرامة القناع.
أمّا كاتب الرواية السيرذاتيّة فلا شيء أحبّ إليه من أن يبثّ الإشارة تلو الإشارة دالاّ على حضوره في النصّ، ولا أمتع عنده من أن يراكم بين يدي القارئ القرائن التي تهدي إليه وتعرّيه وهو في ذلك لا يبخل ولا يقتصد وكأنّ أكبر خشيته أن لا يفطن إليه القارئ فيهمل اقتفاء أثره. إنّنا ونحن نقرأ الروايات السيرذاتية العربية، نكاد نسمع أصوات المؤلّفين وهي تتعالى همسا أحيانا وجهرا أحيانا أخرى، تخترق حجب المتخيّل وتهتك أستاره لتدلّنا إلى أصحابها وتدعونا في رفق يخالطه إلحاح إلى أن نغادر نحن القرّاء كذلك سديم المتخيّل ونخرج منه وإن إلى حين، إلى العالم المرجعيّ الواقعي. فليس القناع في حدّ ذاته هو بغية الروائيّ السيرذاتيّ بل وهم القناع. لذلك فما إن يزرع في أذهاننا الوهم بأنّ النصّ قائم على التقنّع حتّى يسارع فيأخذ بأيدينا لننزع معه القناع ونرى الوجه الحقيقيّ.
على نقيض الروائيّ، يجد كاتب السيرة الذاتيّة نفسه محروما من الحماية التي توفّرها الرواية، مجبرا على أن يعرّي نفسه أو يصمت. فبغضّ النظر عن صدق كاتب السيرة الذاتيّة أو كذبه، فإنّ التزامه بالميثاق السيرذاتيّ يجعل كل ما يرويه عن نفسه دليلا إلى شخصيّته ووثيقة يمكن أن يحاسب عليها ويساءل عنها وقد تغيّر نظرة معاصريه إليه. ولذلك فإنّ كلّ اقتراب من المحرّمات الدينية والسياسية والأخلاقية في السيرة الذاتيّة عمل حرج ومجلبة للشكوك وقفز إلى المجهول
فطلب الحماية من المتخيّل الروائيّ واتّقاء التعرّي وهما السببان اللذان تؤوّل على أساسهما الرواية السيرذاتيّة ليسا مطلقين ثابتين. ذلك أنّ الروائيّ السيرذاتيّ يعشق دائما التأرجح بين حبل المتخيّل وحبل المرجع والقفز من سجلّ إلى آخر، وهو إلى ذلك في علاقته بالطّابوهات يتوسّل الكتابة الروائيّة غطاء يحمي شخصيّته التاريخيّة من الافتضاح ويمنع به القرّاء من محاسبته على مضمون النصّ، لكنّه لا يلبث أن يسرّب من الإشارات والقرائن ما يحرّض القارئ على تجاوز المتخيّل إلى الواقع وتأويل الأحداث على أنّها اعتراف ذاتيّ.
يبدو لنا إذن أنّ تفسير اللّجوء إلى الرواية بديلا للسيرة الذاتيّة بطلب الحماية واتّقاء المجتمع والأعراف والسلط والنواميس، مسألة في غاية النسبيّة. فذلك يفترض أنّ الرواة لا يألون جهدا لإخفاء الكتّاب وإحاطة وجودهم بالسريّة التامّة. إلاّ أنّ النصوص تخبرنا بما يناقض ذلك تماما. فلعلّ القناع الحقيقيّ هو ذاك الذي يضعه المؤلّف قبل تخطّي عتبة الكتابة الروائيّة، وهو بين الناس صامتا أو متحدّثا عن نفسه حديثا كلّه مواربة وزيف وكذب. أمّا لحظة الكتابة، لحظة الاختفاء داخل التخييل، فهي لحظة الصدق ونزع الأقنعة. ولعلّ ما يبدو لنا في الوهلة الأولى ونحن نكتشف أنّ الرواية رواية سيرذاتيّة، تقنّعا وتقيّة وطلبا للحماية، ليس في الحقيقة غير وهم أدرجتنا فيه ألاعيب هذا الجنس الروائي.
وإذا ما خرجنا عن إطار الرواية السيرذاتيّة العربيّة ونظرنا في نظيرتها الغربيّة، فهل يمكن لنا حقّا ونحن نقرأ “آلام فيرتر” لغوته و”البحث عن الزمن الضائع″ لبروست و”صورة الفنان في شبابه” لجيمس جويس أن نقرّ بأنّ هذه الروايات التي تعجّ بمعلومات مرجعيّة وافية عن مؤلّفيها، قد كتبت فقط بحثا عن الأمان ومداراة للمجتمع؟؟
تبدو الإجابة أميل إلى النفي. فما كان لهؤلاء الكتّاب لو أرادوا مجرّد الحماية فعلا أن يدعوا رواتهم يكشفونهم ويبالغون في الإشارة إليهم. والأصوب عندنا أنّ القناع في الرواية السيرذاتيّة قناع مضاعف ذو طبقات بعضها فوق بعض فيعسر تبيّن الوجه الحقيقيّ، إذ تقوم الرواية في المنطلق قناعا للسيرة الذاتيّة ولكن ما إن نشرع مع الكاتب في ارتداء هذا القناع حتّى نجده يحتوي قناعا آخر به ينزع السيرذاتيّ إلى طرد المتخيّل الروائي، باعثا في القارئ الوهم بأنّ الأحداث ليس مجالها الرواية بل الحياة. فتلتبس علينا السبل ولا ندري أيّهما يحمي الآخر ويصونه. وبذلك يكون القناع ركنا أساسا في خطّة الرواية السيرذاتيّة المتلاعبة بالحدود، المتأرجحة بين المرجعيّ والتخييلي، الممتنعة عن أن تمسك وتضبط فما إن تبرم عقدا للقراءة حتّى تخلّ به وتبرم عقدا ثانيا فثالثا…
ومع ذلك حتّى لو قلّلنا من أهميّة طلب الحماية سببا في كتابة الرواية السيرذاتية، فإنّ السؤال يظلّ قائما ملحاحا: لماذا يترك كاتب قصّة حياته السيرة الذاتيّة ويلوذ بالرواية؟ ولماذا يتّخذ الكاتب التخييل الروائيّ قناعا ولا يتحدّث عن نفسه في بيان لا لبس فيه وصراحة لا مداورة فيها؟
الحاجة إلى القناع
نجيب عن هذين السؤالين بالعودة مرّة أخرى إلى الأطروحة التي تعرّف الرواية السيرذاتيّة بأنّها سيرة ذاتيّة مقنّعة. فأصحاب هذه الأطروحة ينطلقون من مسلّمتين واضحتين: أولاهما التسليم ضمنيّا على سبيل التعريف بالسّلب، بأنّ السيرة الذاتيّة على عكس الرواية، خلو من الأقنعة، بريئة منها. أمّا الثّانية فالإقرار بأنّ اللجوء إلى القناع الروائي إجبار لا اختيار فلو أمكن لكتّاب الرواية السيرذاتيّة الاستغناء عن القناع لفعلوا. وهاتان المسلّمتان جديرتان بالتأمّل والنقد والنقاش.
لقد عدّ مبدأ التطابق أهمّ عناصر الإحالة المرجعيّة في السّيرة الذاتيّة وأبرز مميّز لها من الكتابة التخييليّة. ولئن كان من اليسير جدّا أن تضمن السّيرة الذاتيّة التطابق في الاسم بين المؤلّف خارج النصّ وذاته الماضية داخل القصّة، فإنّ التطابق في الشخصيّة أمر عسير المنال بل هو أقرب إلى الوهم والتمنّي منه إلى اليقين والتحقّق.
فلو أعدنا تأمّل مسلمة التطابق بين الذّات الكاتبة والذّات المتحدّث عنها في السيرة الذاتيّة، لأمكننا أن ننظر إلى العلاقة بين مبدأ التطابق وطبيعة الكتابة السيرذاتيّة المرجعيّة في اتّجاه مخالف لما هو سائد. إذ يبدو لنا أنّ السيرة الذاتيّة لا تستمدّ انتماءها إلى الكتابة المرجعيّة من ثبات مبدأ التطابق بل ربّما كان الأصوب أنّ مبدأ التطابق قد التصق بالسيرة الذاتيّة واستقرّ مكوّنا أساسيّا من مكوّناتها بعد أن تسلّل من مسلّمة طبيعة السيرة الذاتيّة المرجعيّة نفسها. فهو نتيجة لها وليس سببا فيها. ذلك أنّ التسليم بأنّ السيرة الذاتيّة كتابة مرجعيّة خالصة ييسّر بل يستلزم الظنّ بأنّ من يصنع الكتابة ومن يصنع الحياة ذات واحدة لا انفصام لها.
ولا شكّ في أنّ وهم التطابق يجد سندا له في إحدى الأفكار العامّة الشّائعة التي أسهم التحليل النفسيّ عند فرويد في تثبيتها، وتقوم على الاعتقاد بأنّ الذّات محتوى نفسيّ وذهني يكتمل في زمن الطّفولة ثمّ يثبت إلى الأبد وليس من دور للتّحليل النفسيّ إلاّ كشف الشخصيّة الأصل بنفض الغبار عن ركام الذّكريات.
وهكذا فكما يسعى المحلّل النفسيّ إلى وضع يده على أسباب علل المريض بتنشيط ذاكرته ناقلا إيّاه في رحلة زمنيّة بعيدة إلى أولى سنوات طفولته منقّبا عن العوامل اللاّواعية في تكوينه النفسيّ، يعتقد كاتب السّيرة الذاتيّة أنّه إذ يستحضر ذكرياته عن حياته الماضية، ينقل إلى القرّاء معرفة “حقيقيّة” بذاته، مجيبا عن سؤال تنطلق منه كلّ سيرة ذاتيّة: من أنا؟
ولكن مهما عمل كاتب السيرة الذاتيّة على أن يكون وفيّا لماضيه ومهما كان حرصه كبيرا على الالتزام بالصّدق والنزاهة، فإنّ “الأنا” الذي سيرسم ملامحه ويروي قصّة وجوده لن يحيل إلى ذات واحدة معروفة تاريخيّا بل سيحيل إلى ذاتين على قدر مهم من التباعد والاختلاف، لأنّ “الأنا” حتّى في السيرة الذاتية هو دائما شخص آخر.
فالتباعد الزمنيّ بين لحظة الكتابة ولحظة الحياة، وهو خصيصة كلّ مشروع سيرذاتيّ، ليس مجرد عدد من السنين كبر أو ضؤل فحسب، بل هو إلى ذلك تباعد في الأهواء والأفكار والمشاعر والرؤى والأحكام، هو تباعد في الهويّة والشخصيّة، يجعل من باب المجاز أن نتحدّث عن شخص واحد فقط فاعل في السيرة الذاتيّة. ويكفي لفهم ذلك أن نتذكّر حقيقة هي على بساطتها بالغة الدلالة على هذا التباعد، ألا وهي أنّ من يتحدّث في السيرة الذاتيّة كهل متقدّم في السنّ عادة بينما المتحدّث عنه طفل أو شابّ في مقتبل العمر.
يؤكّد لنا ذلك كلّه أنّ الخطاب السيرذاتيّ، رغم ما يتعهّد به من صدق ونزاهة، خطاب خادع يوهم بالتوحّد بينما جوهره التعدّد ويطلب منّا التسليم بالتطابق في حين أنّ الاختلاف حقيقته. فعماد السيرة الذاتيّة كعماد النصّ التخييلي شخصيّة من ورق هي وليدة الكتابة لا الحياة، وما إن ينوي كاتب السيرة الذاتيّة نزع القناع ويقتحم غمار الكتابة حتّى يجد نفسه يضع فوق القناع قناعا ويتّخذ لنفسه قرينا وليس له إلى نقل معرفة صادقة بالذّات دون ذاك القناع وذاك القرين سبيل. فما ظنّه وجها حقيقيّا كامنا تحت القناع إن هو إلاّ فراغ وصورة هلاميّة من وجه قديم ومجموعة متداخلة من الوجوه والأقنعة، ولم تلبث ذاته التي حسب أنّه سيروي قصّة وجودها ويبوح بحقيقتها كاملة أن ظهرت له شخصا آخـر لا تختلف علاقته به حين يقصّ سيرته اختلافا كبيرا عن علاقته بشخصيّة قصصيّة مـا. ولا يستطيع التصريح بالاسم العلم إنقاذ الكتابة السيرالذاتيّة من هذا الانفصام المؤلم بين أنا الكاتب والأنا المتحدّث عنه، ولا تحطيم الأقنعة المتراكمة فوق الوجه وتحته.
للسيرة الذاتيّة إذن أقنعتها تلازمها كما يلازمها ميثاقها الائتمانيّ المرجعيّ وإنّ ما تدّعيه السيرة الذاتيّة من تطابق بين أعوان السرد الثلاثة أمر لا تحقّق له إلاّ على سبيل المجاز. فما إن يقرّ المرء بأنّه سيقول حقيقته ويروي قصتّه ويشتقّ من ذاته الماضية أنموذجا وشخصيّة سرديّة، حتّى يحدث ما لا بدّ منه وهو ذلك التباعد القسريّ بين الأنا الراوي والأنا المتحدّث عنه ويكتشف المؤلّف أنّ القناع لم يسقط، ويجد نفسه على حافّة التخييل.
تقودنا هذه النتيجة إلى مناقشة المسلّمة الثانية القائمة على فكرة أنّ القناع في الرواية السيرذاتيّة اضطرار لا اختيار، فلو أمكن لمؤلّفها نزع القناع وكتابة سيرة ذاتيّة صريحة لفعل. فبالإضافة إلى ما رأيناه لدى مناقشة المسلّمة الأولى من أنّ المؤلّف ليس بمنجاة من القناع حتّى لو كتب سيرة ذاتيّة لا مواربة فيها، نذكّر بما توصّلنا إليه من قبل من دحض اختزال أغلب النقّاد وظيفة القناع في الرواية السيرذاتيّة في طلب التقيّة والاحتماء من السلطة الدينيّة والسياسية والاجتماعية. فقد بيّنا أنّ الأمر لو كان على هذا النّحو خالصا، لما كانت الرواية السيرذاتيّة أكثر أجناس الرواية نزوعا إلى التعرّي والكشف. والذي نذهب إليه الآن ونحن نناقش هذه المسلّمة هو أنّ وظيفة القناع في الرواية السيرذاتيّة، وإن لم نستطع طبعا تخليصها من طلب التقيّة، فإنّها أوسع من ذلك مدى وأبعد شأوا.
تبدو الرواية الملاذ الذي لجأ إليه الكاتب العربيّ لتدوين قصّة حياته وتجاوز العوائق النفسية والاجتماعية والحضارية التي تحول دونه وصياغة هذه القصّة في نصّ سيرذاتيّ صريح. وبذلك كانت وظيفة المتخيّل الروائيّ بما يوفّر من أقنعة، سدّ نقائص الواقع وتلبية حاجة المؤلّف إلى الحرية الغائبة وحمايته وصيانته من الرقيب الذاتي والخارجي معا. أمّا فضل القناع الروائيّ على الأدب فهو فتح منفذ يستطيع به جنس السيرة الذاتيّة وإن على سبيل الاستعارة
أولى المهمّات التي يتكفّل القناع بتحقيقها، هي مهمة فتح باب التخييل وإيصال الكاتب إلى رحاب الرواية. فالقناع عنصر أساسيّ ضمن العناصر المكوّنة لهويّة النصّ التخييليّة به يؤكّد المؤلّف الميثاق الروائيّ ويحقّق التباعد بينه وبين عالمه الروائيّ وبه كذلك يدير لعبة النوسان بين المرجعيّ والتخييليّ.
المهمّة الثانية هي منح المؤلّف فضاء للتحرّر والانعتاق من حدود ذاته الضيّقة المعهودة المستنفدة اجتماعيّا، ليبعث كائنا جديدا وشخصا آخر يقترب من الشخص الأوّل ويختلف عنه في ماضيه وطفولته وفي جسده وفي أعماق نفسه وفي صلاته بالآخرين. إنّ القناع قادر على أن يحقّق حلما طالما راود الإنسان منذ القدم، الحلم بالتنكّر والاختفاء وسط الناس على مرأى منهم ومسمع، والحلم باستعارة وجوه الآخرين وأصواتهم وملامحهم وأعمارهم. ولعلّ تقنّع الروائيّ السيرذاتيّ وجه من وجوه تقنّع القاصّ عامّة. ففعل القصّ في جوهره فعل تقنّع وحلول في الآخرين. ويكفي أن نستحضر صورة الراوي الشفويّ سواء أكان أبا يقصّ على ابنه حكاية أو جدّة تروي لأحفادها قصص ألف ليلة وليلة أو راويا شعبيّا محترفا يمتهن القصّ، فإنّهم كلّهم يعمدون كلّما ظهرت في القصّة شخصيّة جديدة، إلى تقليدها في صوتها وملامحها وحركاتها. لكنّ الروائيّ السيرذاتيّ لا يكتفي بالاختفاء عن الآخرين بل يرغب في أن يختفي عن نفسه كذلك وينفصل عنها، فينظر إليها عن بعد وتنظر إليه وكأنّهما شخصان لا وحدة لهما.
فهو يرغب دائما في أن يكون هو ذاته بطل الرواية وأن لا يكونه في الوقت نفسه، أن يهدي القرّاء إلى اكتشاف حضوره في العالم الروائيّ وأن يصدّهم في الآن عينه عن مطالبته بأن يكون حضوره صريحا، لا لبس فيه كما هو الحال في أدب السيرة الذاتيّة. وداخل هذه اللعبة يحتلّ القناع حجر الأساس. فهو مقصود لذاته يسعى الكاتب إليه سعيا لما يوفّر له القناع من إمكان تحرّر وانعتاق من حدود الهُويّة الذاتيّة القائمة قبل الكتابة، بخلق هويّة جديدة في الكتابة وبالكتابة. وبذلك فالقناع يعطي الرواية السيرذاتيّة خصوصيّتها الجوهريّة ويميّزها من السيرة الذاتيّة.
فكاتب السيرة الذاتيّة يسعى إلى أن يقصّ حكاية وجوده الفرديّ أمّا كاتب الرواية السيرذاتيّة فيروم بوضع القناع وابتداع شخصيّة القرين أن يخلق هذا الوجود خلقا آخر جديدا. ولعلّه بسبب من هذا نجد أنّ السيرة الذاتيّة يكتبها المرء عادة مرّة واحدة في حياته، أمّا الرواية السيرذاتيّة فتكتب عدّة مرات في حياة واحدة.
وأحد مظاهر تخلّص كاتب الرواية السيرذاتيّة من هويّته الحاضرة، عودته باستعمال ضمير الغائب عند سرد قصّة حياته، إلى الطّفل البعيد النائم في أعماقه. فيستعير منه طريقة الطّفل في التّعبير عن ذاته بإحلال ضمير “هو” محلّ “أنا”. وإذا كان استبدال الطّفل أوّل تدرّبه على الكلام، ضمير “الأنا” بضمير “هو” دليلا على صعوبة ولادة الوعي بالذّات وعمق التمزّق الذي يحدثه الانفصال عن الأمّ، فإنّ هذا الاستبدال لدى الروائيّ الكهل، محاولة للتحرّر من إسار الذّات التي اكتسبها مع الأيّام وصاغ حدودها المجتمع والدّين والقانون ليوزّع ملامحه في ذوات أخرى عديدة، فيتسنّى له أن يروي من حياته ما يذكره وما لم يعد يذكره، ما يريد أن يبوح به وما لا يريد، ما هو واع به وما هو عنه غافل.
ومن مظاهر الحرّية التي يتيحها القناع، القدرة على تحدّي الموت والفقدان، إذ يغدو العالم الروائيّ التخييليّ مكانا للقاء الأموات من الأحبّة والإخوة والآباء، يعيدهم السّرد إلى العالم “أحياء يرزقون” وإن لبسوا وجوها جديدة واتّخذوا أسماء غير أسمائهم الأولى. فيكونون بحضورهم في النصّ، أعوانا للمؤلّف على استعادة جزء مهمّ من حياته، لا استعادة استذكاريّة إخباريّة كما هو شأن كاتب السيرة الذاتيّة بل استعادة إحيائيّة خلاّقة، تعجن الماضي بالحاضر وتصل بين الموت والحياة وبين الصوت والصدى.
غير أنّه لا بدّ من التنبيه هنا إلى أنّ القناع قد لا ينحصر في الشخصيّة الرئيسيّة بل قد تحمله، شخصيّات عديدة تتعاور كلّها على رسم ملامح ذات الكاتب. ولعلّ من شأن تعدّد الأقنعة أن يعود بالمنفعة على مشروع معرفة الذّات الذي يسعى الكاتب إليه. فإلى جانب أنّ هذا التعدّد يشبع في النفس حلم الإنسان الأزليّ بالتكاثر الذّاتي ومقاومة الموت والحلول في نفوس كثيرة وأمكنة متباعدة، فإنّه يساعد كذلك على تقصّي أبعاد الذّات في تعدّدها وتنوّعها وتناقضها. فتغدو كلّ شخصيّة مرآة تعكس للكاتب والقارئ وجها من وجوه الذّات. إنّ الاستعارة التي تنشئها الرواية السيرذاتيّة هي أنّ الوحدة لا تحقّق لها إلاّ بالانقسام وأنّ الاكتمال لا يتمّ إلاّ بالتشظّي. وبهذه الحركة التي يتلازم فيها الكسر بالجبر، تستمدّ الرواية السيرذاتيّة ميزتها.
فالقناع إذن ملازم لسعي الفرد إلى معرفة ذاته معرفة عميقة، إذ يوصله إلى ذاته الأخرى الثاوية تحت ركام سميك من النسيان والكبت واللاّوعي. وطريق المرء إلى ذلك أن يشتقّ من نفسه مرايا يرى فيها أشتاتا من ذاته الحقيقيّة البعيدة، تقوم الكتابة في ما بعد بسبكها وتجليتها. ولا غنى للمرء عن هذه المرايا إذا أراد أن يعرف نفسه. فالإنسان يرى الآخرين أكثر ممّا يرى نفسه وليس بمستطاعه أن يرى وجهه إلاّ بواسطة المرآة. فهي التي رسّخت في ذاكرتنا صورة وجوهنا وهي التي تمكّننا من أن نتأمّل ذواتنا ونخاطبها ونعاتبها ونبتسم لها ونكشّر.