الكاتبة الأم
لا يمكن الحديث عن المرأة دون الحديث عن الأمومة، وارتباط هذا المعنى عند المجتمعات القديمة بالألوهية، أي أن المرأة الأم مصدر الخلق، فانتشرت لسنوات طويلة الآلهة الأنثى بمسمّيات مختلفة؛ تقديسا لدور المرأة في الإنجاب وكونها مصدرا للحب والعطف والتضحية والإيثار، ورغم تجاوز الإنسانية هذه المراحل بمئات السنين، لازال يُطلب من المرأة أن تبقى رمزا لاستمرار تدفق الحياة بالإنجاب، وإلا وُصمت بـ”الأنانية”، الأنانية التي نعتتها الفيلسوفة الأميركية آين راند بـ”الفضيلة” وأنه ليس مرادفا للشر، بل الإيثارية –أحيانا – هي الرذيلة التي لا تسمح بأي رؤية للإنسان إلا على أنه كبش فداء!
بعض المجتمعات إلى الآن، لا تقبل من النساء أيّ تسوية مرضية لذات المرأة في هذا الشأن، تسوية قد تجعلها تعيش بارتياح في المنطقة الرمادية التي تتشكل أصلا من خليط اللونين الأبيض والأسود، فعليها أن تختار إما الأبيض، أو الأسود، إما الأمومة أو العيش لنفسها، وهو أمر بلا شك يستنزف طاقة أيّ أنثى، ويدفعها للشعور بالضياع والولوج في دوامة من الصراعات، مع ما يرافقه من إحساس عظيم بالذنب.
عانت الكاتبات من ذلك، البعض منهن قرّرن في وقت ما اختيار العيش لأنفسهن، فالكتابة بدلا من الإنجاب، سيبقيهن على الأقل أشخاصا مرئيين في الحياة بعقولهن، بدلا من البقاء في الظلام؛ في ظل الآخرين، وهي بمثابة منجاة لهن من الوقوع في نزاع طويل الأمد بين أمومتهن وطموحاتهن، نزاع قد يراه البعض تافها، أما الأمومة فهي تضحية غير مرئية، يتزايد معها الشعور بالثقل يوما بعد يوم، فتبقى المرأة مكبلة بشخص آخر (طفلها) غير قادرة على تحرير نفسها منه، يتملكها إحساس بأن الأوقات القادمة قاتمة مقلقة.
الكاتبة التركية أليف شافاك اختارت قبل أن ترتبط بزوجها، وتخوض لاحقا تجربتها الواقعية ككاتبة وأمّ، اختارت أن تبقى بلا أطفال، أن تظل عقلا لا جسدا، فقالت عن ذلك في إصدارها “حليب أسود”، “سافرت طولاً وسافرت عرضاً وجعلت الكتابة بؤرة حياتي. وفي النهاية توصلت إلى قرار بين الجسد والعقل. فمنذ الآن فصاعداً لا أريد إلا أن أكون عقلاً، عقلاً لا غير. ولن يسيطر الجسد عليّ بعد اليوم. ليست لي رغبة في الأنوثة أو في العمل المنزلي أو مهام الزوجة أو غرائز الأمومة أو الإنجاب. إنني أريد أن أكون كاتبة، وهذا كل ما أريد السعي إليه.”
فيما تصر بعض الكاتبات الأمهات على خوض المغامرة، بين المعاناة والمعايشة، وأن تنهك نفسها أكثر مما ينبغي، فتغادر بكامل إرادتها إلى المنطقة الرمادية بين الأمومة والكتابة. تعيد فيها تشييد بنائها الداخلي ككاتبة وأم بدلا من كاتبة فقط، وهي اللحظة الفارقة التي تنشق بها إلى نصفين، لحظة وصفتها الأديبة المصرية إيمان مرسال في كتابها “كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها” بأنها “جوهرية” تبدأ معها الكاتبة الأمّ رحلتها المضنية في البحث عن هوية تمتزج فيها الأمومة مع الكتابة، وهي لحظة “شرخ” تدفع بها نحو تشكيل شخصية مغايرة من شخصيتين متنافرتين، ولعب دور يقع بين الاختباء والظهور، بين دور الأمّ ودور الكاتبة.
وبقدر ما تكون الأمومة تجربة ذاتية عميقة وغنية تثري من مشاعر الكاتبة وأحاسيسها المنبعثة من ارتباطها بكائن صغير جميل ناعم الأطراف حضر إلى هذا الوجود بعد أن كان جزءا من جسدها الممتلئ، قد تتحول هذه التجربة في لحظة ما إلى سقف يرتطم به رأس الكاتبة ويصيبها بدوار مؤلم، مع نشوء هوية جديدة لها باتت تزاحم هويتها الأصلية ككاتبة، فتبتلع شيئا فشيئا من نفسها بدءا من اختفاء أوقات اللاشيء الملهمة للكتابة، ومرورا بفقدها القدرة على التخيل والتأمل والفهم، فالكائن الصغير ينام قليلا ويبكي بين ساعة وأخرى، وانتهاء بتلاشي رغبتها أصلا في خط الكلمات والسطور، فهي في حاجة إلى النوم أكثر من حاجتها إلى الكتابة، وإذا أرادت أن تكتب، فأين هي الأوراق والأقلام؟ لا تدري، ربما تحت أنقاض فوضى أغراض صغيرها المبعثرة في كل أرجاء غرفة المعيشة، أو نسيتها على طاولة المقهى، ترتاده لاحتساء قهوتها السوداء بحثا عن حقيقتها وعن دقائق من السكينة، أو بمنزل صديقتها المقربة، التي تزورها كي تطمئن. تلتقي بها وقت إحساسها بالهلع، وارتفاع ضجيج أصوات الأسئلة في رأسها حتى تكاد تنفجر حين تكون أمام هذا الكائن الضئيل الذي بالكاد تعرفه، وأخيرا تسعفها الذاكرة المشوشة؛ ربما وليس أكيدا أنها تركت كتاباتها المتفرقة سهوا في الصيدلية الكائنة على طرف شارع منزلها، تتردد عليه بشكل شبه يومي إما لاقتناء دواء لصغيرها أو شراء قائمة بحاجاته التي لا أفق لنهايتها، من المحتمل أن تكون نسيتها هناك كما نسيت أشياء أخرى كثيرة عن نفسها. نسيت أنها كاتبة. وإذا لم تصب بداء النسيان، فهي تدرك الآن أنها كاتبة مغمورة، شخصا غير مجدٍ للكتابة، ولحمل هوية كاتبة، ستكتب فقط لنفسها عن تناقضاتها وغرابتها، عن قسوتها ولطفها لتعالج بهذه الكتابة جسدها المنهك وروحها الشاردة، هي على يقين بأن ما تكتبه لن يُقرأ، وسيُمزق قبل أن يُقرأ، فلم يعد هناك أحد يتذكرها أو يتساءل عن غيابها، وستخذلها الكتابة هذه المرة أيضا مثل كل مرة قررت أن تكتب فيه وهي تحمل صغيرها الذي لا يتوقف عن البكاء إلا وهو على صدرها، ولا يهدأ وينام إلا بقرب أنفاسها.
هذه الفئة من الكاتبات ترى أنه من الضروري البقاء في المساحة الرمادية بين الأمومة والكتابة؛ بين رعاية الطفل؛ مدفوعة بفطرة الأمومة، وهائل الشعور بالذنب تجاه صغيرها، وأيضا كي تنفي عن نفسها تهمة الأنانية، وبين البقاء مع الكتب وممارسة الكتابة كي لا تنطفئ جذوتها، فهي طريقتها الوحيدة للانكشاف على الذات، واستيعاب ما يجري من تغييرات لا مفر منها على الروح والجسد، فتصوغ كل ذلك نصا ربما يدور حول الأمومة، إلا أن ذلك يعني ورطة جديدة، فهي تكتب هربا من الواقع عن الواقع ! وتمتزج في هذه المرحلة الهويتان الكاتبة والأمّ رغم شاسع الاختلاف بينهما، فالكتابة فعل ذاتي يتطلب العزلة، والأمومة فعل بذل مستمر وتضحية بلا حدود، ولكن الفطرة في مرات كثيرة تطغى عليها، ويختل التوازن مرة أخرى بين الكفتين، فهي الآن أقرب للأمومة منها إلى هوية الكاتبة، لا يمكنها دائما أن تسيطر على الوضع، أن ترسم حدودا بينها وبين طفلها الصغير، فهو لا ينفصل عنها. يبقى ملتصقا بها، غير عابئ برغبتها للانفراد بذاتها ولو لدقائق. هي لا تستطيع أن تبعده عنها، ولا تعرف أن تكتب نصوصها، وهو متنعم بين أحضانها الدافئة. الأمومة سيدة الموقف في هذه اللحظة، وتعود من جديد بحثا عن هوية بدأت تضمحل، هوية الكاتبة.
لم تكن الأمومة في حياة أيّ من الكاتبات عموما شيئا عابرا، فهناك من عاشت علاقة مهزوزة متزعزعة مع طفلها؛ فالكاتبة الأم سوزان سونتاج عانت من الجفاف العاطفي في طفولتها بسبب أمها التي انشغلت بذاتها وباهتماماتها على حساب صغيرتها سوزان، فعكست الأخيرة تلك العلاقة على ابنها الوحيد الذي تركته وهو في عامه الأول وهربت من حياة الأمومة، ثم قررت لاحقا أن تصطحبه معها حتى تكف روحها عن الشعور بالذنب، إلا أنها صُنّفت من قبل المجتمع كأمّ سيئة، فهي تصطحب صغيرها في حفلاتها الصاخبة وتفارقه شهورا للسفر، وانتهت حياة سوزان على فراش المرض بعد أن تضخمت روحها بالحزن والألم، وصراع مرير مع مرض السرطان.
كاتبة أخرى قتلت نفسها بسبب متاعبها النفسية كما حدث مع الروائية والشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث، التي انتحرت في العام 1963 وكانت قد شُخّصت قبل ذلك بإصابتها بمرض الاكتئاب، بعد ولادة طفلها الثاني في الوقت الذي هجرها زوجها على الرغم من قصة الحب التي جمعتهما، وأخريات شعرن بحياد غريب في مشاعرهن تجاه أطفالهن، وهو ما اعترفت به الكاتبة المصرية نورا ناجي عن إحساسها تجاه طفلتها الصغيرة، في إصدارها “الكاتبات والوحدة”، “وعندما أنجبت طفلتي، وحملتها وأرضعتها، لم أشعر بشيء، كنت أنام لمدة دقيقتين كل ساعتين، أفتح جفنيّ بأصابعي حتى لا ينغلقا وأنا أرضعها فأنام وتختنق”، كتبت نورا ذلك بكل شفافية مترقبة بشكل مسبق للأحكام التي ستلاحقها كامرأة تحب نفسها والكتابة، وأنهم سيشككون في أمومتها وأنوثتها؛ لأنها أقرّت بذلك.
الكاتبة الأمّ رغم هشاشتها، وشعورها بالإرهاق والمخاوف، هي في حقيقتها أكثر صلابة مما تبدو، فهي تستعد مع كل يوم تطلع فيه الشمس، لمجريات جديدة تدفعها للتأقلم والتكيف؛ تكتب كلماتها قبل أن تنفرط من رأسها وهي تحرّك مهد الصغير لينام، وبينما تراجع ما كتبته، تعد طعامه، ثم تنظفه لاحقا. تبحث عن فقرة تختم بها نصا بدأته منذ أيام طويلة وهي تحدق في وجهه النضر، فتضبط قلبها متلبسا وهو يقع في حب هذا الصغير. تعطف عليه، تلمسه بحنان. تقبًله كل حين، تغنّي له همسا كي يهدأ. بدأت روحها تبتهج لسكناته وحركاته، فيمنحها ذلك معنى لما تكتبه، ويفتح شهيتها أكثر على الكتابة، على الوقوف بطواعية وبتوازن مثير للدهشة في قلب المنطقة الرمادية بين الكتابة والأمومة رغم كل الأمواج. موجة تغمر وأخرى ترفع، ودون ضمانات أكيدة بأن يتوقف لديها الشعور بالذنب، أصبحت لديها بانوراما حياة الكتابة والأمومة؛ تجربة عظيمة حوت الكثير من القصص حول انسجامها مع نفسها وتماسكها، وتفاصيل البحث عن معنى المعاناة والتناقض في أدوارها، لا يمتلكها سوى الكاتبة الأمّ التي انشقت إلى نصفين ثم التأمت.