الكارثة الجويّة
وصلتني الأخبار التي تفيد بأنّ أكبر طائرة في العالم سقطت في البحر بجوار أكابولكو مع ألف راكب على متنها، خلال تغطيتي المهرجان السينمائي السنوي في تلك المدينة. حين بُثّت أولى التقارير الإخبارية الإذاعية، عبر مكبّرات الصوت في قاعة العرض، تركت وزملائي الصحافيون مقاعدنا وهرعنا إلى الشارع، وأخذنا نحملق بصمت في المحيط المضاء بنور الشمس، متوقّعين ربما أن نشهد ارتفاع الموج في الأفق.
أدركت مثل الجميع، أنّ هذه أكبر كارثة في تاريخ الطيران، وأنها مأساة تضاهي زوال بلدة كبيرة من الوجود. وإذ فقدت كلّ اهتمامي في المهرجان السينمائي، فقد سررت حين أمرني مدير المحطّة التلفزيونية التي أعمل لصالحها في مكسيكو سيتي، بأن أتوجّه بسيارتي إلى موقع الحادث، على بعد نحو ثلاثين كيلومتراً باتجاه الجنوب.
خلال رحلتي بالسيارة تذكّرت بداية عمل تلك الطائرات العملاقة. على الرغم من أنها لم تمثّل تطوّراً كبيراً في تكنولوجيا الطيران، إذ كانت في حقيقة الأمر نسخة من طائرة سابقة، كان ثمة ما لامس المخيلة في الرقم ألف، مطلقاً كلّ النذر التشاؤمية التي لم تستطع جميع الإعلانات الترويجية تبديدها.
ألف مسافر؛ رجال أعمال، راهبات مسنّات، أطفال عائدون إلى ذويهم، عشاق فارّون، دبلوماسيون، وحتى خاطف طائرات محتمل. كان هذا التقاطع شبه الكامل للإنسانية، مثل عيّنة رأي إحصائية، هو الذي تسبّب في وقوع الكارثة. وجدت نفسي أحدّق لا إرادياً بالبحر، متوقّعاً أن أرى أولى الحقائب وسترات النجاة تنجرف إلى الشواطئ الفارغة.
كلما أسرعت في الحصول على صورة فوتوغرافية للحطام العائم وعدت إلى أكابولكو، وحتى إلى تفاهة المهرجان السينمائي، كنت سأشعر بسعادة أكبر. لسوء الحظّ كان الطريق مزدحماً بالسيارات المتجهة جنوباً. من الواضح أنّ كلّ صحافي، أجنبي ومكسيكي مشارك في المهرجان، أُمر بالتوجّه إلى موقع الكارثة. عربات الكاميرات التلفزيونية، سيارات الشرطة وسيارات النظّارة المتحمّسين، سرعان ما تكدّست خلف بعضها البعض على الطريق. منزعجاً من هذا الاهتمام النهم بالكارثة، صار يحدوني الأمل بألا يكون هناك أثر للطائرة حين نصل إلى الشاطئ.
في الحقيقة، خلت النشرات الإخبارية، من المعلومات عن الحادث. وأفاد المراسلون الذين يجوبون مياه المحيط الهادئ المتلاطمة في قوارب مستأجرة، بأنه ليس من علامات على أيّ بقع نفطيّة أو حطام.
بيد أنه للأسف لم يكن هناك ريب في أنّ الطائرة تحطّمت بالفعل في مكان ما. فطاقم طيران طائرة أخرى رآها تنفجر في الجو، ضحية عملية تخريبية ربما. وبصورة غريبة، فالمعلومة الوحيدة الأكيدة، ظلت تعاد وتعاد عبر الأثير، وهي البثّ الأخير من قبطان الطائرة، التي يخبر فيها عن حريق في مستودع الأمتعة.
إذن فقد سقطت الطائرة، لكنْ أين بالضبط؟ رغم غياب المعلومات التام، فقد استمرّت الزحمة جنوباً. خلفي، قرّر فريق إخباري أميركي متعجّل، أن يسبق سائر السيارات عبر سلوك حافة رصيف المشاة، وسرعان ما اندلعت أولى المشاجرات. وقفت الشرطة عند التقاطعات الرئيسة ونجحت في إبطاء تقدّم السيارات. بعد ساعة من ذلك، بدأ محرّك سيارتي بالغليان، وأجبرت على التوقف في محطّة وقود على جانب الطريق.
جلست باستياء في الفناء الأمامي، إذ أدركت أنني من غير المرجّح أن أصل إلى موقع الحادث حتى وقت متأخر من بعد الظهر، فيمّمت نظري بعيداً عن زحمة السير شبه الساكنة نحو الجبال على بعد كيلومترات قليلة. كانت تلك سفوح التلال الساحلية، وقد ارتفعت عالياً في سماء صافية عديمة الغيوم، وقممها المنحدرة غارقة بأشعّة الشمس. خطر لي حينئذ أنه لم يشهد أحد في حقيقة الأمر ارتطام الطائرة بالبحر. في مكان ما فوق الجبال وقع الانفجار، والمسار المرجّح سيكون قد حمل الطائرة التعسة إلى المحيط الهادئ. في المقابل، فإنّ هامش خطأ بسيط في الحساب من قبل طاقم الطيران الذي شهد الانفجار، يجعل من المحتمل أن يكون الارتطام وقع على اليابسة.
بالمصادفة، كان هناك صحافيان في سيارة قريبة يناقشان الفرضية نفسها مع عامل المحطّة خلال ملئه خزّان الوقود في سيارتهما. هذا الشاب كان يومئ نحو الجبال، حيث ثمة طريق وعر يلتفّ عبر واد منحدر. صفق بيديه كأنّه يقلد الانفجار.
أخذ الصحافيان ينظران إليه بتشكّك غير مقتنعين بالقصة وقد ذوى اهتمامهما بسبب مظهر الشاب الفجّ وطريقته البسيطة في الكلام. بعد أن سدّدا له ثمن الوقود عادا بسيارتهما إلى الطريق وانضمّا إلى القافلة المتجهة ببطء نحو الجنوب.
شاهدهما العامل وهما يرحلان وفكره منصبّ على أمور أخرى. حين ملأ المشعاع الخاص بسيارتي بالماء، سألته: “هل شهدت الانفجار في الجبال؟”.
“قد أكون شاهدته، يصعب الجزم في ذلك. قد يكون برقاً أو انهياراً ثلجياً”
“ألم ترَ الطائرة؟”.
“لا، لا أستطيع قول ذلك”.
رفع كتفيه بلا مبالاة، مهتماً فقط بإنهاء نوبة عمله. ظللت واقفاً هناك بينما سلّم العمل لزميل له، وركب خلف صديق على دراجة نارية وانطلق على الطريق الساحلي مع الجميع.
يمّمت نظري نحو الوادي. لحسن الحظّ، فإنّ درب المزرعة خلف المرأب كان يصل إليه على بعد أربعمائة متر داخل اليابسة على الجانب القصيّ من الحقل.
بعد عشر دقائق كنت أقود سيارتي صاعداً الوادي بعيداً عن طريق الساحل. ما الذي جعلني أتبع هذا الحدس بأنّ الطائرة سقطت في الجبل؟ لا بدّ من أنه كان الأمل في أن أحقّق سبقاً أتفوّق به على جميع زملائي، وأنال تقدير رئيس التحرير أخيراً. قبالتي كانت قرية صغيرة، كناية عن مجموعة صغيرة من البيوت المتهالكة التي احتشدت حول جانبي ميدان منحدر. كانت حفنة من المزارعين تجلس أمام حانة لا تعدو عن كونها نافذة في جدار حجري. كان الطريق الساحلي بات بعيداً في الأسفل، جزءاً من عالم آخر. من ذلك المرتفع يمكن للمرء أن يلاحظ قطعاً الانفجار إن كانت الطائرة سقطت هناك. قرّرت أن أسأل بعض السكان؛ إن لم يكونوا قد شاهدوا شيئاً فسأعود أدراجي وأنضمّ إلى الجمع المتجه جنوباً.
حين دخلت القرية تذكّرت كيف كانت دوماً هذه المنطقة المعدمة من المكسيك، وكيف أنها لم تتغيّر تقريباً منذ مطلع القرن التاسع عشر. معظم البيوت الحجرية المتواضعة لا يزال دون كهرباء، وثمة هوائي تلفزيوني واحد، وبعض السيارات القديمة الأشبه بحطام على عجلات، تُركت على جانب الطريق بين المعدّات الزراعية الصدئة. وقد امتدّت منحدرات التلال عبر الوادي وتخلّت التربة الهامدة منذ زمن طويل عن الخصوبة الشحيحة التي كانت تتمتع بها.
غير أنه كان لا يزال هناك فرصة بأن يكون القرويون رأوا شيئاً ما، لمعاناً ما، ربما، أو حتى الطائرة وهي تسقط في البحر.
أوقفت سيارتي في الساحة المرصوفة بالحصى واقتربت من المزارعين أمام الحانة.
“أبحث عن الطائرة المتحطّمة، ربما تكون سقطت على مقربة من هنا. هل رأى أحدكم شيئاً؟”.
أخذوا يحدّقون بالسيارة، وهي آلة أكثر تألقاً من أيّ شيء قد يكون سقط من السماء. هزّوا رؤوسهم، ملوّحين بأيديهم بطريقة غامضة غريبة. أدركت أنني أضعت وقتي في هذه الحملة الاستكشافية الخاصة. كانت الجبال تحاصرني من كلّ صوب، والوديان من حولي تشكّل متاهة هائلة.
حين هممت بالعودة إلى سيارتي لمس أحد المزارعين الأكبر سنّاً ذراعي. وأشار بصورة عرضية إلى واد ضيّق بين قمّتين متجاورتين في الأعلى.
“الطائرة؟”.
“إنها هناك فوق”.
“ماذا؟ أأنتَ متأكّد؟”، حاولت السيطرة على حماستي خشية من أن يظهر ذلك عليّ.
أومأ الشيخ برأسه، وقد بدأ اهتمامه يتلاشى: “أجل، في نهاية الوادي، إنه طريق طويل”.
في غضون ثوان انطلقت ثانية، ممسكاً نفسي بصعوبة عن الإسراع أكثر مما ينبغي. أقنعتني الكلمات القليلة الغامضة التي قالها ذلك الشيخ، بأنني على الطريق الصحيح، وأنني سوف أحقّق السبق الصحافي الذي لطالما انتظرته. فرغم أنه تكلم بطريقة عرضية، لكنه كان جادّاً في كلامه.
واصلت المضي على الطريق الضيّق، مناوراً بالسيارة على الأرض المليئة بالحفر. وعند كلّ منعطف كنت أتوقع رؤية ذيل الطائرة يلوح في الأفق أمامي، ومئات الجثث تتناثر على المنحدرات مثل جنود في جيش مهزوم. بدأت أتخيّل الفقرات الافتتاحية لمقالتي، وأنا أمليها عبر الهاتف لرئيس التحرير الذاهل بينما منافسيّ على بعد ثمانين كيلومتراً يحدّقون بالبحر الفارغ. كان من الضروريّ أن أحقّق التوازن الضروري بين الحماسة والعاطفة، ذلك المزيج الذي لا يقاوَم من الواقعية الفجّة والتعاطف الحزين. سوف أصف أوّل اكتشاف لمقعد طائرة على سفح تلّة، حقيبة ممزّقة، دمية طفل، ثم الأرض المفروشة بالجثث.
واصلت السير لساعة مضطراً إلى التوقّف من وقت لآخر لإبعاد الصخور التي تسدّ الدرب. كانت هذه المنطقة النائية شبه مهجورة. في بعض المواضع كنت ألمح كوخاً معزولاً على السفح، جزءاً من سلك تلغراف يمتدّ نحو كيلومتر إلى الأعلى قبل أن ينتهي فجأة، وكأنّ شركة الهاتف أدركت قبل سنوات أنه ليس من أحد هنا سوف يتلقى اتصالاً.
مرة أخرى، بدأت أفكّر ثانية. أكان الشيخ القرويّ يعبث معي؟ بالتأكيد لو رأى الطائرة تسقط لأبدى اهتماماً أكبر من ذلك؟
بات الساحل والبحر على بعد كيلومترات خلفي، يلوحان للحظات وجيزة فحسب بينما أتبع الطريق المتعرّج صعوداً. رأيت عبر المرآة الخلفية الساحل المضاء بالشمس، وواصلت التقدّم دون مبالاة فوق بعض الركام الثقيل. بعد ذلك سمعت صوت حشرجة في أسفل السيارة وتغيّر صوت العادم فأدركت بأنه تضرّر.
انهلت بالسباب على نفسي لانغماسي في هذه المطاردة الجنونية، عرفت أنني سوف أعلق هنا بين الجبال. بدأ ضوء بعد الظهر يخبو. لحسن الحظّ كان لديّ ما يكفي من الوقود في السيارة، بيد أنه على هذا الطريق الضيّق من المستحيل الاستدارة بالسيارة والعودة.
أجبرت على مواصلة الطريق، حتى وصلت إلى قرية ثانية، هي كومة من الأكواخ المبنية قبل قرن حول كنيسة متهدّمة. وكان الموضع الوحيد المستوي الذي أستطيع فيه الاستدارة بالسيارة مسدوداً مؤقتاً بفلاحَين يحمّلان حطباً في عربة. بينما انتظرتهما حتى يبتعدا، لاحظت كم أنهما أفقر حتى من سكان القرية في الأسفل. كانت ملابسهما مصنوعة من الجلد ومن فراء الحيوانات، وكانا يمتشقان بندقيتين على كتفيهما، وعرفت من طريقة نظرهما إليّ أنهما لن يتردّدا في استخدامهما إذا ما بقيت هناك إلى ما بعد حلول الظلام.
بينما أعكس اتجاه السيارة، أخذا يتفرّسان بي وبمعدّات التصوير في المقعد بجانبي، وحتى بملابسي التي لا بدّ من أنها بدت جميعها غريبة تماماً لناظريهما.
لكي أفسّر لهما حضوري وأمنح نفسي حصانة رسمية ما يمكن أن تمنعهما من إطلاق النار عليّ من الخلف خلال ابتعادي بالسيارة، قلت لهما: “لديّ أوامر بالبحث عن الطائرة، لقد سقطت في موضع قريب من هنا”.
حرّكت التروس موشكاً على الانطلاق، حين أومأ لي أحد الرجلين. وضع يداً على حاجب الريح في السيارة وبالأخرى أشار إلى واد ضيّق بين القمتين الجبليتين على ارتفاع ألف قدم فوقنا.
في طريقي على الطريق الجبلي، كانت كلّ شكوكي قد تبدّدت. هذه المرة، وإلى الأبد، سوف أثبت قيمتي لرئيس التحرير المتشكّك. فثمة شاهدان منفصلان أكّدا وجود الطائرة. محاذراً لئلا ألحق الضرر بالسيارة على هذا الطريق البدائي، تقدّمت ببطء صعوداً على السفح.
طوال الساعتين التاليتين واصلت الصعود إلى أعلى تلك الجبال الكئيبة، وقد اختفى الساحل والبحر كلياً عن ناظري. مرّة لمحت بصورة سريعة أولى القرى التي أصادفها في طريقي، بعيداً أسفل الطريق مثل لطخة صغيرة على سجادة. لحسن حظّي، تواصل الطريق وحملني إلى هدفي. كان مجرّد طريق حجري ترابي، بالكاد يتّسع لعجلات السيارة وهي تتقدّم بين المنعطفات الضيّقة.
مرّتان أخريان توقّفت لسؤال بعض أهل الجبل الذين حدجوني من أبواب أكواخهم الترابيّة. وقد أبلغوني بحذر أنّ الطائرة المحطّمة تقبع في الأعلى.
عند الساعة الرابعة من بعد الظهر وصلت أخيراً إلى قرية نائية بين القمّتين الجبليتين واقتربت من آخر القرويين على هذا الدرب الطويل. هنا الطريق وصل إلى نهايته في ميدان حجري محاط بمجموعة من المساكن. بدا أنها بُنيت قبل مائتي عام وقد أمضت طوال هذا الوقت في محاولة الغرق في الجبل.
كان معظم القرية غير مأهول، لكنني فوجئت ببضعة أناس يخرجون من مساكنهم لرؤيتي، محملقين بعجب بالسيارة المغبرة. صدمني مدى فقرهم. أولئك الناس ما كانوا يملكون شيئاً على الإطلاق. لم يكونوا محرومين من السلع الدنيا فحسب بل من الدين والأمل وأيّ معرفة ببقية البشرية. حين ترجّلت من سيارتي وأشعلت سيجارة منتظراً بينما تجمّعوا حولي على مسافة كافية، صدمتني مفارقة أن ينتهي الأمر بتلك الطائرة الضخمة، وهي ثمرة نحو قرن من تكنولوجيا الطيران، بين أولئك السكان البدائيين.
تأمّلت تلك الوجوه الساذجة والسلبية، وشعرت أنني محاصر بمجموعة نادرة من الأناس الشاذين، قرية من المعوقين ذهنياً الودودين بما فيه الكفاية ليتركوا وحدهم، عالياً في هذه القرية البعيدة. ربما كان هناك بعض المعادن في التربة دمّرت نظامهم العصبي وجعلتهم بمستوى الحيوانات البسيطة.
“الطائرة، أرأيتم الطائرة؟”، هتفت. أحاط بي نحو عشرة من الرجال والنسوة، متسمّرين أمام السيارة وولاعة السجائر التي أحملها والنظارات ذات الإطار المذهب، وحتى أمام جلدي المنتفخ.
“طائرة؟.. هنا؟”، بسّطت طريقتي في الكلام، وأشرت إلى المنحدرات الصخرية والغدران فوق القرية، لكنّ أحداً منهم لم يبدُ أنه يفهم ما أقول. ربما كانوا صمّاً أو بكماً. كانوا سذجاً بما يكفي، لكنْ خطر لي أنهم ربما يخفون معرفتهم بتحطّم الطائرة. أيّ ثروة قد يجنونها من تلك الألف جثة، كنز يكفي لكي يغيّر حياتهم لقرن من الزمن. كان يجب أن أتوقّع أن يكون هذا الميدان الصغير مكوّماً بمقاعد الطائرة والحقائب والجثث فوق بعضها بعض مثل الحطب.
“طائرة…”، كرّر قائدهم وهو رجل ضئيل ذو وجه نحيل لا يزيد عن قبضة اليد. أدركت فوراً أنه لا فكرة لديهم عمّا أقوله. لسانهم ربما يكون بدائيّاً على شفير النطق العاقل.
رحت أبحث عن طريقة أتواصل بها معهم، فلاحظت حقيبة الطيران الخاصة بي التي تحتوي على معدّات التصوير، حيث بطاقة التعريف التي أحملها كان بها صورة ملوّنة لطائرة كبيرة. نزعتها من اللصاقة وعرضت الصورة عليهم.
فوراً، أخذوا يومئون برؤوسهم مبتعدين وأخذوا يهمهمون لبعضهم مشيرين إلى غدير ضيّق شكّل امتداداً وجيزاً للوادي على الطرف المقابل من القرية. كان ثمة طريق عربات يمتدّ نحوه قبل أن يتلاشى في التربة الحجرية.
“الطائرة؟ أهي فوق؟ جيد”، قلت بغبطة وحملت محفظتي وأريتهم الأوراق النقدية الضخمة، أموال الجيب السخية المخصّصة لفترة تغطيتي المهرجان السينمائي. ملوّحاً بالأوراق المالية، توجّهت إلى رئيسهم بالقول: “تقدّم الطريق. سوف نذهب إلى هناك. كثير من الجثث صح؟ جثث في كلّ مكان؟”.
أخذوا يومئون لبعضهم البعض، وعيونهم شاخصة نحو الأوراق المالية.
انطلقنا بالسيارة عبر الوادي متتبعين طريق العربات على السفح. بعد نحو ثمانمائة متر من القرية اضطررنا إلى التوقّف لأنّ المنحدر صار حادّاً. أشار الرئيس إلى مصبّ الغدير، وخرجنا من السيارة وانطلقنا سيراً على الأقدام. كنت ما زلت أرتدي الملابس الرسمية لحضور المهرجان، فوجدت السير شاقاً. كانت الأرض مغطّاة بالحجارة المروّسة التي قطّعت حذائي. فتأخّرت عن الدليل الذي كان يقفز فوق الحجارة كالمعزاة.
فوجئت بعدم ظهور أيّ علامات على الطائرة العملاقة، أيّ ركام أو جثث. نظرت حولي، متوقّعاً أن تكون الجبال مليئة بها.
وصلنا إلى نهاية الطريق. ارتفعت المائة متر الأخيرة من الجبل نحو القمة، مفصولة عن توأمها في الوادي والقرية في الأسفل. توقّف الدليل وراح يشير إلى الجدار الصخري، وقد علت وجهه الصغير نظرة كبرياء جريح.
“أين؟”، سألته محاولاً التقاط أنفاسي، وأزحت الغطاء عن عدسة الكاميرا، “ليس من شيء هنا”.
ثم رأيت إلى أين قادني، وما وصفه القرويون على امتداد خطّ الساحل. على أطراف الغدير كانت بقايا طائرة عسكرية ثلاثية المحرّكات، كان رأسها المرتطم وقمرة القيادة مدفونتين بين الصخور. وكان الهيكل قد جُرّد من الطلاء بفعل الريح منذ زمن طويل، وكانت الطائرة مجموعة ركام صدئ. من الواضح أنها كانت هنا منذ أكثر من ثلاثين عاماً، مطلّة مثل إله مهلهل على الجبال الجرداء. على نحو ما، كانت المعلومات عن وجودها هنا، قد انتقلت من قرية إلى أخرى في أرجاء الجبل.
أشار الدليل إلى هيكل الطائرة. ابتسم لي، لكنّ عينيه كانتا شاخصتين نحو صدري، نحو المحفظة في جيب صديري، وقد مدّ يده قليلاً نحوي. رغم ضآلة حجمه، بدا خطراً مثل كلب برّي.
أخرجت المحفظة وأعطيته ورقة واحدة تساوي أكثر مما يمكنه جنيه في شهر. ربما لأنّ المبلغ كان بلا معنى بالنسبة إليه، فقد أشار بعدوانية إلى الأوراق المالية الأخرى.
دفعته جانباً وصرخت به: “اسمع، لست مهتماً بهذه الطائرة. إنها الطائرة الخطأ أيها المغفل…”، حين حدّق بي غير فاهم ما أقول، أخرجت بطاقة الطيران من جيبي وأريته صورة طائرة الركاب الضخمة، قائلاً: “هذه الطائرة! ضخمة جداً. مئات الجثث”.
فقدت السيطرة على أعصابي، واستسلمت تماماً لغضبي وخيبة أملي، صحت به: “إنها الطائرة الخطأ! ألا تفهم؟ يجب أن يكون هناك جثث في كلّ مكان، مئات الجثث”. تركني حيث أصيح بين صخور الوادي المهجور عالياً في الجبال وهيكل طائرة الاستطلاع التي تعصف فيها الرياح.
بعدها بعشر دقائق، حين عدت إلى سيارتي، اكتشفت أنّ الثقب البطيء الذي ارتبت بأمره سابقاً أفرغ الهواء من إحدى العجلتين الأماميتين. مرهق، وحذائي مخرّق بالحجارة، وثيابي متسخة، ارتميت خلف المقود، مدركاً عقم هذه الرحلة العبثية. سأكون محظوظاً إن تمكّنت من العودة إلى الساحل بحلول المساء. حينئذ سيكون كلّ صحافي قد أرسل تقريره عن أوّل مشاهد الطائرة المحطّمة في المحيط الهادئ. سيكون رئيس التحرير قد عيل صبره وهو ينتظر تقريري لبثه وقت النشرة المسائية. بدلاً من ذلك، كنت في أعالي تلك الجبال الجرداء مع سيارة معطوبة، ومن المحتمل أن تكون حياتي مهدّدة من قبل أولئك الفلاحين المتخلّفين.
بعد قليل من الراحة لملمت شتات نفسي. احتجت نصف ساعة لكي أبدّل الإطار. وحين شغّلت المحرّك وبدأت رحلة العودة الطويلة إلى الساحل كان الضوء بدأ يخبو حتى هناك في الأعالي. كانت القرية إلى الأسفل بثلاثمائة متر حين رأيت أوّل الأكواخ عند منعطف الطريق. كان أحد القرويين واقفاً بجانب جدار واطئ، مع ما بدا سلاحاً بإحدى يديه. أبطأت من فوري، عالماً أنهم إذا قرّروا مهاجمتي ففرصتي في الفرار قليلة. تذكّرت المحفظة في جيبي فأخرجتها وفردت الأوراق المالية على المقعد. ربما أستطيع شراء طريق العبور بها.
حين اقتربت تقدّم الرجل إلى الطريق وتبيّن أن السلاح في يده، هو مجرفة. رجل ضئيل، كالآخرين، ووقفته لا تشكّل تهديداً بأيّ حال من الأحوال، بل بدا أنه سيطلب مني، بل سيتوسّل أمراً ما.
كان ثمة كومة من الملابس القديمة على الحافة بجانب الجدار. هل يريدني أن أشتريها؟ حين أبطأت، وأوشكت على مناولته إحدى الأوراق المالية، لاحظت أنها امرأة عجوز، ملفوفة مثل قرد بشال، وأخذت تحدّق بي بعينين ضعيفتين. ثم رأيت أنّ وجهها الشبيه بالجمجمة هو جمجمة بالفعل وأنّ الأسمال المعفّرة بالتراب ليست إلا كفنها.
“جثة…”، قال الرجل بعصبية، موجّهاً مجرفته في الضوء الباهت. ناولته المال وواصلت سيري نحو الطريق المؤدّي إلى القرية.
كان شاب آخر يقف على جانب الطريق على بعد خمسين متراً قدماً، أيضاً يحمل مجرفة. جسد طفل صغير، نُبش تواً من القبر، كان على حافة التابوت المفتوح.
“جثة..”.
طوال الطريق إلى القرية وقف الناس على الأبواب، بعضهم وحدهم، من لم يكن لديهم جثث يعرضونها، وآخرون مع مجارف. خارجة حديثاً من القبور، قبعت الجثث في الضوء الباهت أمام الأكواخ، مسنودة على جدران حجرية مثل أقارب منسيين، وقد استدعوا لكي يكسبوا أجرة مأواهم.
حين مررت بهم، معطياً إياهم ما تبقّى لديّ من مال، سمعت القرويين يتهامسون، وتبعني صدى أصواتهم إلى سفح الجبل.
1975