الكتابة الكسيحة
بدهي القول إنّ للفكر دورة حياة متكاملة، وإلغاء حلقة في تلك الدورة، أو تهميشها، لا شكّ يؤدّي إلى تعطّل يتخللها أو تأخّر ينتابها، وقد تخرج عن سياقها، أو تظلّ تراوح في مكانها.
تكون الاستعانة بالحكمة الفلسفيّة القائلة “إنّ الإنسان لا يستطيع أن يستحمّ في مياه النهر مرّتين”، إشارة إلى ضرورة تجديد منابع الفكر، وعدم الاكتفاء بما يمكن أن ينعَت من باب التسخيف بـ”الاجترار الفكريّ”، و”الاجترار الأسلوبيّ” وما بينهما من إشكالية تكرار السابق في أردية يفترض أنّها معاصرة، لكنّها لا تحمل أيّ جديد أو تجديد، بل تعيد ترقيع المهترئ، وتلملم شتات المنثور، وتحاول إسعاف الذات بنثار الأفكار التي تتسطّح بعد تقادم العهد عليها، ودخولها نفق المهجور والمتحجّر.
تثير الإحصائيّات المعلنة عن القراءة في العالم العربيّ ضرورة إطلاق صفّارات الإنذار لتدارك الهاوية المحتّمة، ذلك أنّ هناك شعوراً متنامياً بلا جدوى القراءة والمطالعة، أو أنّها باتت من أفعال الماضي الظريفة، وأنّ الواقع فرض مقتضيات جديدة توافق التطوّر الحاصل في وسائل الاتّصال.
لا يخفى أنّ الشريحة الكبرى في المجتمعات العربيّة لا تقرأ، حيث أنّ الكتاب أصبح غريباً لدى كثير من المتعلّمين، ومَن يفترض أنّهم أكاديميّون أو خرّيجون جامعيّون، وتراهم يكتفون بانشغالاتهم الحياتيّة والعمليّة، بعيداً عن تخصيص ساعات أو دقائق قليلة للقراءة التي من شأنها إعادة تأهيل الدواخل، وإعادة ترتيب الفوضى الداخليّة، حيث تساهم في التهدئة والتعريف بالتخبّطات بعيداً عن الانزلاق خلفها أو التهافت وراء السراب الذي تنتجه الدعاية للمنتجات الاستهلاكيّة فقط.
الحديث عن عزوف كثير من الناس عن القراءة قد يورد في سياق الانشغال بالبحث عن لقمة العيش، وأنّ القراءة تحتاج إلى أجواء هادئة مريحة ونفسيّة مرتاحة وذهن خالٍ من المشاكل والعقد، ويتأزّم الحديث أكثر في الواقع حين يتمّ توصيفه بأنّه يحجب الرؤية ويبعد عن الكتاب، ويجبر على السير في أميّة معاصرة، قوامها أشخاص يتقنون القراءة والكتابة، لكنّهم يكرهون القراءة، أو لا يطيقونها، أو أنّهم لا يجدون أيّ مبرّر أو دافع لقراءة كتاب، سواء كان أدبيّاً أو علميّاً، أو حسب الاختصاص والاهتمام.
ظواهر خطيرة
لعلّ الحديث عن مستقبل الكتاب يثير حفيظة المتأمّل في الواقع، ويبعث على حيرة حين يتعلّق الأمر بمَن يفترض أنّهم أدباء وكتاب ومبدعون.
مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعيّ، انتشرت معها ظاهرة خطيرة على الأدب والإبداع، تمثّلت في الاكتفاء بالمطالعات الفيسبوكيّة، أو قراءة سريعة للعناوين، والاكتفاء بأخبار موجزة، ثمّ الانتقال إلى غيرها، وهكذا في سلسلة أشبه ما تكون بدوّامة منشورات لا تتجاوز بضع جمل، والتذرّع بمقولات وحكم من قبيل أنّ “البلاغة في الإيجاز″، حيث لا يهمّ استخدام المثل أو إيراده في غير موضعه، طالما أنّه يتمّ تطويعه ليخدم غاية بعينها، وهي التهرّب من استحقاق القراءة، أو اختلاق ما يجمّل ذلك، ولو كان من باب التحايل على الذات.
لو اقتصر الأمر على مستخدمي وسائل التواصل الذين لا يقدّمون أنفسهم أدباء أو روائيّين أو شعراء، لكان الأمر أبسط، ولكانت المصيبة أهون، لكن ما يجري هو أنّ هناك مَن يظنّ نفسه روائيّاً أو أديباً، ويعرّف بنفسه على هذا الأساس، ويدعم ذلك بأنّ له أعمالاً منشورة، وأنّ هناك صحفاً نشرت له وكتبت عن نتاجه، يكون أكثر بعداً عن القراءة من متصفّح الفيسبوك الذي يروم تبديد الملل، وسدّ الفراغ، دون أن يزعم أيّ مزاعم أدبيّة تدّعي الفرادة والتميّز.
قد يكون الشعر أكثر جنس أدبيّ يتمّ الفتك به في فضاء العالم الافتراضيّ، ذلك نظراً للمفاهيم الخاطئة التي تحيط به، وما يصاحب التعريف من لَبس وإيهام، فأغلب ما قد يكتبه الفيسبوكيّ أو ينشره من منشورات، قابل لديه للتصنيف في خانة الشعر، ويتعزّز الوهم مع الإعجابات المتهاطلة، ويكون الإيهام أخطر بالنسبة إلى بعض مَن يعتبرن أنفسهنّ شاعرات، وإن لم يكن لهنّ أيّ معرفة مسبقة بالشعر ومدارسه، ولا بأيّ تراكم علمي أو ثقافي أو معرفيّ في هذا الحقل. وقد شجّع الأمر كثيراً من الفيسبوكيّين على نشر منشوراتهم كأشعار أو شذرات في كتب، طالما هناك فوضى في المعايير، وغياب للحدّ الأدنى من المسؤوليّة الأدبيّة.
حين تقرأ رواية يظهر لك أنّ كاتبها اعتمد على اقتباسات فيسبوكيّة، يعيد الدوران في فلك الذات، لا يستطيع الخروج من قيده الشخصيّ، يسترجع تجاربه كبطل أوحد في فضاء لا يسعه، فهذا إيذان باغتيال الجنس الأدبيّ، وتمثيل بالرواية وتشويه لها، وما يدعم هذا الوهم هو الاصطلاح الفضفاض القابل للتأويلات، وما يمكن إدراجه بين دفّتي كتاب، وإلصاق صفة الرواية به. أو في حالة الشعر توصيفه بالنثر أو قصائد “الهايكو”.
يبدو أنّ التندّر يبلغ ذروته مع أناس يتهافتون على عالم النشر بغية تصدير الأسماء بالألقاب، دون تجشّم عناء المتابعة والقراءة والبحث، ثمّ النظر إلى مَن يقرأ كقادم من عصور غابرة أو خارج من كهوف المكتبات المهجورة، وقد يظهر مَن يشفق عليه لتضييعه الوقت بالقراءة، وهذا ما ينذر بظهور فئة من أدباء لا يقرؤون، أو كُتّاب يكرهون القراءة. وهذا زمن “المعجزات” الخلّبيّة، ذلك أنّ بعض الإعلام شريك في خلق فقاقيع أدبيّة، وتضخيمها، وتصدير “انتفاخات” ودفعها كنماذج ينبغي الاقتداء بتجربتها في عصر السرعة.
هناك مواقف تثير الضحك المختوم بدمعة الوداع على دفن عزيز، من ذلك مثلاً زعم بعض الأدباء الذين يعتبرون أنفسهم “كباراً”، أنّهم قرؤوا سابقاً كثيراً من الكتب، وذلك في محاماة مواربة عن رغبتهم الحالية عن القراءة، واكتفائهم بقراءاتهم السابقة، وكأنّ رحم الأدب والإبداع قد جفّ، أو أنّ ينبوع العطاء استنزف طاقته وعاد إلى نقطة الصفر ليحاول البدء من جديد، وذلك في تشويه للعملية التراكمية، أو تتفيه لها، لتبرير “الخطيئة” الأدبيّة والقرائيّة في الكتابة من دون قراءة.
ربّما يمكن توصيف الكتابة المنطلقة من مطالعات سطحيّة بـ”الكتابة الكسيحة”، أو أنّها كتابة “منذورة للموت”، تولد مشوّهة، لأنّها ستظلّ عاجزة عن التأثير، طالما هي مقيّدة في قشور العناوين العريضة فقط، ولا تسبر أغوار النفوس ولا تتغلغل في الوقائع ولا تحاول استجلاء الألغاز واستكناه الأعماق.
الكاتب الذي لا يقرأ يبدو كبائع الألبسة المستعملة البالية، يعرض بضاعة منتهية الصلاحية للقرّاء -على قلّتهم- ويسعى إلى تغطية “السما بالعمى”. كما يقول المثل الشعبيّ. ولا يجدي التشاطر أو التحذلق بتمثيل الغموض في الفكرة، ولا في اللجوء إلى التزيينات والتزويقات اللغويّة، لأنّ مرآة الأدب معرّية تكشف الخلل ولا تخفي العلل.
من دون إدراك أنّ القراءة تبقى جوهر التغيير والإبداع لن يكون هناك أيّ تغيير أو إبداع، وسنكون شهوداً على واقع يحمل فيروسات تدميره الذاتيّ في رحمه، ويسير مفخّخاً إلى غده. والذي يقرأ وحده يعرف كيف أنّ القراءة تصقل شخصيّة المرء، تهذّب، تنوّر، تغيّر، تجمّل، تمنح السكينة والراحة، تبقيه أسير فردوسه الخاص.