الكتابة العارية
في ظل ثقافة مؤطرة بأطر وأنساق أبوية تحكمها أنساق مهيمنة، مستمدة تارة من الدين، وتارة أخرى خاضعة لأنساق العرف والمجتمع. يبدو التساؤل عن كيفية تمثل الكتاب في الثقافة العربية، لمفهوم الاعتراف، محض هباء. فالاعتراف بما يثيره في الذهن من مفردات من قبيل: تعرية الذات والبوح والكشف؟ كما هو سائد في الثقافة الغربية. أو حتى التجرد بالتعرية كما في الأعراف الكنسيّة، حيث الاعتراف من الخطايا أمام القس، مقدمة للتطهر. لا نكاد نتلمسه إلا في نصوص قليلة ونادرة. وهو ما يتبعه سؤال: لماذا؟ ومن ثم تناقش هذه المقالة، مفهوم الاعتراف في الثقافة العربية. وطبيعة الاعترافات ذاتها، واختلافها ما بين الرجل والمرأة. والأهم أسباب انحسار هذا الجنس في المدونة السردية العربية، حتى صار شعار البيئات العربية “الاعتراف مرفوع حتى إشعار آخر؟” وهو ما يحيل إلى إكراهات وقيود متعددة. كما نرصد الحيل التي مرّر بها بعض الكتّاب على اختلاف جنسهم النوعي اعترافاتهم التي كانت صادمة نوعًا ما!
يندرج أدب الاعتراف تحت جنس كتابة الذات. وهو وثيق الصّلة بالسّيرة الذاتيّة، بما أنها بوح وكشف. وهناك مَن يرى أنه النوّاة الأولى التي خرجت من عباءته كتابة السيرة الذاتية بشكلها الذي تعارَف عليه النقاد، كما هي عند الغرب. وقد اكتسبت السيرة الذاتية شرعيتها مع الاعترافات التي بدأت باعترافات القديس أوغسطينوس (354-430) التي صدرت في القرن الرابع، ثم اعترافات جان جاك روسو(1712-1778) التي صدرت في القرن الثامن عشر.
يعتبر جورج ماي أن رواج الاعترافات “هو الذي كرّس السيرة الذاتية، وجعلها جديرة بالدخول في حرم الأجناس الأدبية” (ماي، السيرة الذاتية، ص 39). تتعدّد الوشائج الوثيقة بين الاعتراف والسيرة الذاتية، فلا يمكن أن تُدرج كتابة الذات إلى جنس السيرة الذاتية إلا بتحقّق الصدق العاري. فكما يقول ألفردويني في كتابه “مجد الجندية ورقها”: “إن المرء حين يتحدث عن نفسه لن يجد أفضل من الصراحة مصدرًا لوحيه” (إيهاب النجدي، أدب الاعتراف، ص 47).
الغريب أن معظم نُقاد الأدب والمهتمين بالنوع والأجناس الأدبية الوليدة، يُجمعون على أن مفهوم السيرة الذاتية الخالصة، بما تحمله من اعترافات بغية تعرية الذات كما جاء في أدبيات الغرب، غير موجود في الأدب العربي. وهو ما يشير إلى أن الاعتراف مرفوع حتى إشعار آخر، وإن تحقّق فلا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة. وبالمثل لا توجد كتابات مستقلة تحمل عنوان “اعترافات” يُدلي فيها الكتّاب بأحاديث عن المواقف التي تعرّضوا لها، أو عرّضهم الآخرون لها، أو صرف حديثه عن الأخطاء والذنوب فقط.
ربط الكثيرون بين الاعترافات الدينيّة أمام القسّ والاعترافات في السّرد. فكلتيهما يتحلّى بالسعي إلى التطهّر سواء بالمعنى الدينيّ، كما في الاعترافات أمام القسّ في الكنيسة، أو بتطهير الذّات بمواجهتها بالخطايا والآثام التي ارتكبتها عبر مسيرتها الحياتية. وفي هذا يشير ج م كوتسيا إلى “أن مشكلة الاعترافات العلمانية، غير الدينية تمييزًا لها عن الاعترافات أمام القس في الكنيسة، سواء في السرد أو حتى في السيرة الذاتية، تكمُن في كيف يواجه الكاتب أو حتى كيف يتهرب من مشكلة كيف يعرف الحقيقة حول الذات، بدون الوقوع في خداع الذات، وكيف ينهي الاعتراف بنفس الرُّوح التي تُماثل في العلمانية، ما يُعادل التطهّر الدينيّ الناجم عن الاعتراف الكنسي. لأن تحوُّل الاعتراف من طبيعته الدينية إلى المجال العلماني يحتم قدرًا من التحلّل من طبيعة الاعتراف الدينيّة، لتنقله إلى المجال العلماني”. (صبري حافظ، عالية ممدوح كتابة السيرة في الأجنبية، مجلة نزوى/ فبراير 2015).
لم تنفصل الاعترافات عن السيرة الذاتيّة الخالصة، حيث تضمنت السّير الكثير من الاعترافات الصريحة والصّادقة التي ألّبت الكثيرين على صاحب السيرة. لكن كثيرين جعلوا بينهما فرقًا على نحو ما ميّز فابيرو. ففي تعريفه للسيرة الذاتية يرى أن “السيرة الذاتيّة تتركُ مكانًا للاستيهام، ومَن يكتبها ليس مُلزمًا البتة بأن يكون دقيقًا حول الأحداث، كما هو الشأن في المذكرات، أو بأن يقول الحقيقة المطلقة كما في الاعترافات”، ثم يشير إلى رحابة السيرة الذاتية في احتضان عدة أنواع.
نفس الشيء فعله مجدي وهبة في معجمه؛ حيث يُعرِّف الاعترافات بمعزل عن السيرة الذاتية ويرى أنها “ذلك النوع من الترجمة الذاتية التي يروي فيها المؤلف مواقف نفسية أو عاطفية لا يعترف بها واضعو الترجمة الذاتية عادة” (ص، 49)، ضاربًا بـ”قصة حياة” إبراهيم عبدالقادر المازني كمثالٍ على الجنس.
يؤكد إيهاب النجدي على العلاقة بين الاعتراف والسيرة الذاتية، إلا أنه يفرّق بينهما من حيث الموضوع، فيجعل السيرة الذاتية متصلة بالإشادة والمديح، في حين يقترن الاعتراف بالذنب والسقوط، وسرد الخبايا والأسرار. كما يُفرِّق النجدي بينهما وفقًا لغايات المتلقي وتأثيرهما عليه. فالقارئ يبحث عن متعة المعرفة في شخصية السيرة، ومراحل تفوقها، محافظًا على اعتقاده الراسخ في براءة ظله وقدوته. ويمثّل الاعتراف – على حد قوله – “الراحة الكبرى، والصّدمة التي تبدّل صورًا ذهنية جديدة، وربما غير متوقعة بأخرى مُعدّة سلفًا عن صاحب الاعتراف، كما تمثّل مخاطرة وجرأة في مواجهة الأعراف والتقاليد، وتعيد كتابة تاريخ الشخصيات، وبتعبير آخر السيرة الذاتيّة إعلام، والاعتراف إفضاء”.
وبناء عليه يعرّف الاعتراف بأنه “يمثّل إقرارًا على النفس، وشهادة على الآخرين، بما توارى في طوايا الأيام من خفايا وأسرار” (إيهاب النجدي، أدب الاعتراف، 21)، وَيُكمل، بأن ليست “كل خفايا المرء تقع في دائرة الخطايا والأوزار. ومن ثم يرى أن الأدب الصادق يُلامس جوهر الاعتراف، ليس بالتصوّر الظاهر القريب للكلمة، وإنما بالمعنى الداخلي «الجواني» لها، حين يستعيد الأديب لحظات الحقيقة الغائبة، فتعود إلى الوجود بوساطة فنيّة من جديد، وحين ينير للأجيال القادمة دروب التطور الروحي والفكري لجيله الذي ينتمي إليه”.
لقد وصف الأستاذ العقاد في حديث قديم له أدب المازني، على تنوع أشكاله، بأنه “أدب اعتراف، في محراب الفن لا في محراب الكهانة”. أختلف مع النجدي في تفرقته بين السيرة الذاتية والاعترافات، على مستوى الشكل، حيث الكثير من السير تضمنت سرد الخبايا والأسرار التي عنده فيما هي حكر على الاعترافات فقط.
وبناء على التعريفات السابقة، أكاد أجزم بأن الاعتراف لم يخرج من إطار السير الذاتية الصادقة، باستثناء تلك الاعترافات التي يُدلي بها المشاهير والنجوم في البرامج التي تعتمد على وضع الضيف تحت طائلة الاعتراف والصراحة. ما عدا ذلك، فالاعترافات لا نستدل عليها في كتابات مستقلة، بل هي مُدمجة في السّير والمذكّرات واليوميات والرسائل وغيرها من كتابات الذات.
الاعترافات والنصوص الذاتية
تقترب الاعترافات بدرجة كبيرة مما يدعوه جيرار جينيت بالبوح Autodiegetic، أي سرد الذات أو بوحها لذاتها أو عنها. فيتوحد فيه الرّاوي مع الشخصية الأساسية من حيث الصّوت السردي؛ فالسارد/ الكاتب/ الشخصية هي كلها لنفس الشخص.
ومع كثرة الأعمال التي تتماهى فيها الأنا بذاتها في أدبنا العربي إلا أن الاعترافات لم تحظَ بالاهتمام الكبير من قبل الكتّاب. ومن ثم لم يخصّصوا لها كتابات مستقلة. وإنما جاءت مُنسربة من عباءة كتابة الذات في صورتها العامة. فاستطاع بعض الكتّاب بالتحايل تمرير اعترافاتهم دون خوف من الرقابة المتمثّلة في سلطة المجتمع وسلطة الدين والأعراف. وقد جاءت اعترافاتهم عبر أجناس قريبة تعتمد على التخييل كالرواية، وأخرى تتصل بالذات كالسيرة الذاتية والمذكرات والرسائل.
وقد عبَّر عن هذا التداخل عبدالرحمن شكري عندما قال في بداية اعترافاته بأن “هذه المذكرات ليست اعترافات عريانة من ثوب الخيال” في إشارة دالة على تطعيم اعترافاته بالخيال. وهو ما تبدى بصورة واضحة في حيلة القناع التي اعتمدها في سرد اعترافاته عبر شخصية “م.ن”. وقد تكرّر الأمر مع محمد شكري الذي عنون سيرته “الخبز الحافي” بأنها سيرة ذاتية روائية. وقد ضمنها الكثير من الاعترافات الخاصة بعلاقته المتوترة مع أبيه، وانفتاحه على الجنس بكافة أشكاله.
على العكس اهتم كتّاب الغرب بهذا الجنس، وقد أتاحت لهم قيم مجتمعهم، ورحابة البوح وصدق الاعتراف، الكتابة بلا قيد أو شرط. وهو ما يتوازى مع مفهوم الاعتراف الكنسي، الذي يدعو إلى التطهير. حيث كانت الحاجة إلى مُحاسبة النفس التي يحضّ عليها التزهد المسيحي، سببًا لشيوع هذا النوع في الغرب تحديدًا. وقد اتضح بصورة جلية في اعترافات القديس أوغسطينوس، ثم ما تلاها من اعترافات لجان جاك روسو التي مهدت “لظهور أوّل وعي جماعي بأن السيرة الذاتية أصبح لها كيان أدبي” على حدّ تعبير جورج ماي.
ومع الإقرار بغياب هذا الجنس من المدونة السردية العربية، إلا أنه ثمة محاولات تسربت إليها، كما في «المنقذ من الضلال» للإمام الغزالي و«التعريف بابن خلدون ورحلته شرقًا وغربًا»، و«كتاب الاعتبار» لأسامة بن منقذ. وإن كان عباس محمود العقاد يذهب بها بعيدًا حيث يربط بينها وبين العلاج في الطب النفسي فيقول “وقد اشتهرت الاعترافات في الهياكل في عهد الحضارة البابلية قبل ميلاد المسيح بعدة قرون، وكانت في حقيقتها ضربًا من العلاج الجثماني الذي يطلبه المريض من الطبيب، لأن البابليين كانوا يعتقدون أن المرض والبلاء على اختلافهما عقوبة إلهية تقتص بها الأرباب من أصحاب الذنوب والخطايا، وأن الذي يبوح بخطيئته، ويندم عليها يشفى من دائه بوساطة الكهان والأحبار، فكان الاعتراف بمثابة ضرب من الاستشفاء، كعلاج الأمراض بالطب في العصر الحديث”.
وما يُعزّز قولنا السابق بأن الاعترافات لا تأخذ في أدبنا العربي شكل الاعترافات المستقلة كما ظهرت في كتابات الغرب عند جان جاك روسو، وغيره. وإنما هي منسربة في أشكال متعدّدة من الكتابات الشخصية على اختلاف أشكالها؛ سيرة ذاتية، أو رواية سيرة ذاتية، أو مذكرات وكذلك في الرسائل، ما نراه في نصوص وسمت بأنها رسائل ومع هذا فالاعترافات تتسرب بصراحة وجرأة لافتتيْن على نحو ما هو في الاعترافات المتسربة في رسائل فدوى طوقان لأنور المعداوي.
فمررت فدوى طوقان في رسائلها الكثير من الاعترافات، وفيها اعترفت بعاطفتها لأنور، وهو ما يأتي مخالفًا للأعراف في ذلك الوقت، وأيضًا لمكانتها الأدبية. وكانت لها من الجرأة أن نشرت هذه الرسائل. في حين أن المعداوي لم يتحلَ بهذه الجرأة كما يقول رجاء النقاش، كان يخشى الموت المفاجئ، فأتلف رسائله أوّلا بأول.
وقد اعترفت فدوى للنقاش في رسالة له بعد صدور الكتاب، “أن الكتاب لو صدر قبل عشرين عامًا، لكان مصدر فضيحة أخلاقية بالنسبة لي في محيط نابلس، المدينة المحافظة المتزمتة، أما اليوم وبحكم قانون التطور في المفاهيم والأفكار والأشياء، فقد تغيرت مواقف الناس تجاه مثل هذه الشؤون”. وبالمثل نجد الكثير من الاعترافات تُمرّر – أيضًا – في رسائل غسان كنفاني لغادة السّمان. وبعض هذه الاعترافات كما تبدو تأتي ضدّ أعراف المجتمع ونواميسه. فيقول لها في إحدى الرسائل: “أيتها الشقية الحلوة الرائعة! ماذا تفعلين بعيدًا عني، أقول لك همسًا ما قلته اليوم لك على صفحات الجريدة: ‘سأترك شعري مبتلاً حتى أجففه على شفتيك'”، ثم يصرح “أحسُّ نحوك هذه الأيام – اعترف – بشهوة لا مثيل لها إنني أتقد مثل كهف مُغلَّف من الكبريت وأمام عيني تتساقط كأن أعناقهن بترت بحاجبيك. كأنك جعلت منه رزمة من السقط محزومة بجدولتك الغاضبة الطفلة” (ص، 54).
ومرة ثانية يتحرّر من العبارات البرّاقة ويقول لها دون خجل أو تردُّد “إنني أنام إلى جوارك كل ليلة، أتحسّسُ لحمك وأسمعُ لهاثك وأسبح في بحر العتمة مع جسدك وصوتك وروحك ورأسكِ. وأقول وأنا على عتبة نشيج: غادة يا غادة يا غادة… وأغمض عينيّ”.
وفي الرسالة الثانية يعترف بأثر لوعة الاشتياق بعد الفراق: “ما زلت أنفض عن بذلتي رذاذ الصوف الأصفر الداكن. وأمس رأيت كرات صغيرة منها على كتفي فتركتها هناك. لها طعم نادر كالبهار. أنها تبتعث الدموع إلى عيني أيتها الشقية…. عرفت أي سعادة أفتقد إذ لا أكون معك. لقد تبقت كرات صغيرة من الصوف الأصفر على بذلتي تتشبث بي مثلما أنا بك. وسافرت بها إلى هنا مثلما يفعل أي عاشق صغير قادم من الريف لأول مرة” ص، 36.
كل ما سبق يؤكّد على أن الاعترافات تندغم في كافة نصوص كتابة الذات، على اختلاف الشكل أو القالب الموزّعة فيه السيرة، في لحظات اجترارها وبوحها.
الأنا والاعترافات
يتحقّق أعلى حضور للأنا في التصاقها بذاتها، وهي في حالات البوح والاعتراف. ومن ثمّ نجد الكتابات الذاتيّة بالأنا فيها الكثير من الصدق. ويكون الإنسان أكثر صدقًا وهو يكتب عن ذاته بنفسه. حيث التماهي بين الذات الكاتبة والمكتوبة، وتلك الرغبة في فحص أدق تفاصيل الذات وتمحيصها. وتلك الأريحية مع الآخرين، والتي لا تعادلها إلا الصّرامة مع النفس.
فالسيرة الذاتية – كما يقول مايكل سبرنكر – «لا تتحقق إلا في نطاق الكتابة التي تتضافر فيها مفاهيم الذات والأنا والمؤلف وتنمحي الحدود بينها في عملية إنتاج النص». وهذا ما يؤكّده برنارد شو بقوله “أروع السير الذاتية هي الاعترافات، ولكن الكاتب لو كان عميقًا فإن كل مؤلفاته تصبح اعترافات” (حياتي، ص82).
ترتبط الاعترافات بالأنا، حتى أن انتشارها يُرجعه البعض إلى علو النزعة الفردانية. وتأكيدًا لهذا يقول روسو في بداية الاعترافات “إنني مُقدم على مشروع لم يسبقهُ مثيل، ولن يكون له نظير؛ إذْ إنني أبغي أن أعرض على أقراني إنسانًا في أصدق صور طبيعته.. وهذا الإنسان هو: أنا” (اعترافات، ص9). وإن كان غرضه من الصراحة كما يقول “فإذا ما انطلقت صيحات بُوق البعث، عندما يُقدّر له أن يدوّي، فلسوف أَمْثُلُ أمام الحاكم العادل، وهذا الكتاب بين يديّ، ولسوف أقول في رباطة جأشٍ: ‘هذا ما فعلت، وما فكّرت، وما كنتُ.. لقد رويت في كتابي الطيب والخبيث على السواء، بصراحة، فلم أمحِ أي رديء، ولا انتحلت زورًا أي طيّب… لقد صوّرت نفسي على حقيقتها: في ضعتها وزِرايتها، وفي صلاحها، وفي حصافة عقلها، وسمُوّها. لقد كشفت عن أعمق أغوار نفسي، كما كنتَ أنتَ تراها، أيها الخالد السرمدي'”.
لم تنفصل الاعترافات عن السيرة الذاتيّة الخالصة، حيث تضمنت السّير الكثير من الاعترافات الصريحة والصّادقة التي ألّبت الكثيرين على صاحب السيرة. لكن كثيرين جعلوا بينهما فرقًا على نحو ما ميّز فابيرو. ففي تعريفه للسيرة الذاتية يرى أن “السيرة الذاتيّة تتركُ مكانًا للاستيهام، ومَن يكتبها ليس مُلزمًا البتة بأن يكون دقيقًا حول الأحداث، كما هو الشأن في المذكرات، أو بأن يقول الحقيقة المطلقة كما في الاعترافات”، ثم يشير إلى رحابة السيرة الذاتية في احتضان عدة أنواع
لا يختلف ما فعله عبدالرحمن صدقي في تصديره لـ”اعترافات شاعر” عن روسو في مقدمته، فيقول “سأحاول – مع كل ما بين الغرب المستهتر، والشرق المتوتر، من ظاهر الاختلاف وباطنه – أن أقول الكثير في هذه الصفحات عن حياتي، من غير حرج، من غير حرص شديد على أن أبدو طوال ما عشته من السنين، مثل مَن تقدّمُوني مِن كتابنا الأجلاء المبرزين، قديسًا من القديسين” (ص، 122).
وبالمثل تذهب عالية ممدوح إلى ذات المعنى حيث تسعى إلى التعرُّف على ذاتها التي تجهلها عن طريق كتابة التجربة، فتقول “إنني شخص آخر، أنا شخصيًّا لا أعرفه وأشعر بمتعة فريدة بالتعرف إليها في أثناء جميع ما يحصل لي” (الأجنبية، ص 13)، ومن ثم تسعى إلى إلقاء “النفس في كائن آخر”.
ثمة رأي آخر، يرى أنّ الذات لا تتحقّق بذاتها، بل على العكس تمامًا، فتتحقق الذات في علاقتها بالآخرين كما تقول الدكتورة لطيفة الزيات حيث ترى “أننا لا نتوصل إلى ذواتنا الحقيقية إلا إذا ذابت الذات بداية في شيء ما خارج عن حدود هذه الأنا الضيقة”، لدرجة أنها ترى أننا “نفقد هذه الذات الحقّة، إذا أصبحنا محبوسين في قفص، متحلقين حول الأنا، حين نغرق في بحر من التفاهات، وفي دوائر أبدية خبيثة تستحيل إلى قدرنا ونهايتنا. ونحن إذ ذاك نفقد ذواتنا لا بمعنى استعاري، بل فعلاً وواقعًا وشخصياتنا تعاني متغيرات مروّعة إلى حد لا نصبح معه بعد ذلك أنفسنا”.
بمعنى أن الذات لا تتحقق في وجودها الشخصي، أو في عزلتها وإنما في المجموع تقول لطيفة الزيات “من عباءة الوصل الجماهيري ولدتُ، ومن الدفء والإقرار الجماهيري تحوّلت من بنت تحمل جسدها الأنثوي وكأنما هو خطية، إلى هذه الفتاة المنطلقة الصلبة القوية الحجة، التي تعرف تأنس الجماهير المقربة، وكيف تتصدى لرفض الجماهير، وتمسح عليه. من عباءة الوصل الجماهيري ولدت الفتاة القادرة على الاحتضان، والمنتشية إلى ما لا مدى بالاحتضان، القادرة على المواجهة وعلى تطويع الرفض”(أوراق شخصية، ص69).
تأخذ الاعترافات من السيرة الذاتية ميثاقها الذي فرضه فيليب لوغون. وهو بمثابة العقد الذي يتعهد من خلاله المؤلف والراوي بقول الصدق للقارئ، ومن ثم يعدُّ التعويل على الصدق والصراحة أحد أهم العناصر التي تُخرج بعض النصوص من دائرة السيرة الذاتية، لانتفاء الصدق فيها، أو نقض التعهد.
ومع هذا الميثاق الغليظ إلا أن هناك مَن يرى صعوبة تحقّق الصدق. ويراه ضربًا من المستحيل، كما يقول ترولوب Trollope “من يستطيع أنا أو أي إنسان آخر أن يقول كل شيء عن نفسه، أتمني أن يكون هذا ممكنًا، مَنْ الذي يستطيع أن يتحمل الاعتراف بالقيام بعمل دنيء، ومن في الدنيا لم يرتكب واحدًا من الأعمال الدنيئة”(أندريه مورو: فن التراجم، ص 112).
تتأتى الأهمية في اعتراف بشير العظمة في سيرته “جيل الهزيمة من الذاكرة” في تحديده لطبيعة المذكرات التي يراها “إما أن تكون صريحة وإمّا أن لا تكون”، لكن أثناء الكتابة يُدْرك وعورة تحقيق هذا الزعم؛ لذا أخذ يقاوم الكتابة “بقيت صامدًا أمام الإغراء”، متجنبًا: “مواقف المواجهة والمصارحة”، وما إن بدأ الكتابة حتى لاحظ أن أحكامه جارحة حتى على نفسه، فاضطر كما يقول: “أحاول التخفيف من أحكامي التعسفيّة، وبعد مرور عامين تقريبًا على بدء المغامرة في الكتابة، شعرت بأني قد بذلت المزيد من الجهد لأجعل كلامي أقرب للواقع وأقل حدة وقسوة” (ص9).
وهذه الصراحة التي يجب أن تكون في الاعترافات، كانت مدعاة لبرنارد شو أن يقول تعليقًا على اعترافات جان جاك روسو “أنا من القلائل الذين قرؤوا اعترافات جان جاك روسو من بداياتها إلى نهايتها، أستطيع أن أشهد بأن روسو، بعد أن توقف عن مغامراته وهو شاب وغد… أصبح جان جاك روسو مثل غيره، لا يتميّز بشيء خاص” (ص 82-83).
أسباب الانحسار
من الأشياء التي تؤكّد على عدم انفصال الاعترافات عن السيرة الذاتية، أنه عند التساؤل عن أسباب عدم وجود سيرة ذاتية في الأدب العربي، بما تتضمنه من اعترافات صريحة، دائمًا تربط الإجابات بين الاثنتين معًا. وتأتي الإجابة هكذا أن الثقافة العربية لا تتحمّل الصراحة الكامنة في الاعترافات.
كما أن الجميع أرجعوا أسباب الغياب والانحسار إلى غياب الحرية، وافتقاد البيئة العربية لثقافة البوح. ويدخل في هذا أيضًا ربما طبيعة هذه البيئة التي نشأت في خيام تلوذ بالستر والتستر. فغياب الحرية كان بمثابة العقبة الكؤود الذي حال دون البوح، وهتك الأسرار. حتى أن الذين عاشوا طويلاً بين جدران السجن، يقولون “إن شرّ ما كانوا يلقونه في السجن هو عدم استطاعتهم نفض أسرارهم، والتحدث عمّا خالجهم من إحساسات”. (على أدهم: الاعتراف والاعترافيون، ص، 241).
مع الإقرار بغياب هذا الجنس من المدونة السردية العربية، إلا أنه ثمة محاولات تسربت إليها، كما في «المنقذ من الضلال» للإمام الغزالي و«التعريف بابن خلدون ورحلته شرقًا وغربًا»، و«كتاب الاعتبار» لأسامة بن منقذ. وإن كان عباس محمود العقاد يذهب بها بعيدًا حيث يربط بينها وبين العلاج في الطب النفسي فيقول “وقد اشتهرت الاعترافات في الهياكل في عهد الحضارة البابلية قبل ميلاد المسيح بعدة قرون، وكانت في حقيقتها ضربًا من العلاج الجثماني الذي يطلبه المريض من الطبيب
وهناك مَن يشير إلى أسباب أخرى على نحو ما ذكر لطفي عبدالبديع بأن “العربية لم تعرف هذا الضرب (يقصد السيرة الذاتية) لا في القديم ولا في الحديث، إلا إذا استثنينا كتاب (طوق الحمامة لابن حزم)؛ لأنه يقوم على الخبايا والأسرار وتعرية الذات. أما السيرة الذاتية التي يتعاطاها الكتاب فهي من وجهة نظره لا تكاد تخرج عمّا كان يُعرف قديمًا بالتراجم، ويذيّل بها أصحابها كتبهم، كما فعل السيوطي. ويرجع هذا الحكم لمقارنته بين السيرة الذاتية العربية ومثيلاتها في الغرب أمثال (فلوبير والإسباني الأثبر ست دي هيتا) حيث الصدق هو الفيصل.
وعلاوة على ما سبق، فقد أرجع أدونيس سبب غياب أدب الاعتراف لاعتبار أن: «الشخص العربي دائمًا ما يشاهد نفسه يولد ويكبر ويموت إنسانًا معصومًا من الخطأ». وهناك مَن أرجع انحسار الاعترافات في السيرة الذاتية العربية إلى التكوين الثقافي العربي، فعلى حد تعبير صلاح صالح أن هذا التكوين الثقافي كان سببًا لـ”خلو تراثنا الثقافي العربي من سير ذاتية مهمة يمكن الاعتداد بها إلى درجة دفع المعاصرين للتأسيس عليها والسير على منوالها”.
وثمّة عامل يحول دون تحقق الاعترافات بشكلها العاري ألا وهو (الحياء والخجل). فالحياء كما يقول عبدالرحمن بدوي هو “الرقيب على جوهر الإنسان وكيانه الروحي الحقيقي أن يكون أشد حرصًا على كتم ما نيط به حراسته من أسرار”.
كما يدخل الحرجُ تحت عنصر الحياء؛ حيث كاتب السيرة لا يكتب عن نفسه فقط، وإنما يكتب عن آخرين عمّا يشعره، شركاء له في صنع سيرته. ومن ثم فعلاقته بهم توجد بها أشياء يتحرَّج من البوح بها، ربما حرصًا عليهم، أو بدافع تجميل صورتهم لدى الآخرين، خاصةً لو كانوا من الأقارب. لذا فالحرج وهو عامل طبيعي يدفعه إلى تناسي أو خوف ما يَضر بهم. وبذلك لا تكتمل الصورة، وينتفي معها الصدق وخير دليل على توخي الحذر من قبل الأدباء ما حدث مع نجيب محفوظ في سيرته التي رواها لرجاء النقاش، وإشارته لابن أخته وسرقته أوراقه الخاصة، وقد دفعه هذا الاتهام إلى تهديد محفوظ ومكانته ومقضاته.
وكاد ذات العامل، أن يدفع بشير العظمة، إلى الإحجام عن الكتابة؛ خشية – كما يقول – يالخوف من إساءة تفسير كلامي عن قصد، ومن أقرب الناس إلي كالأهل والأصدقاء”. وإن كان العظمة يرجع السبب إلى “تربية جيلنا والأجيال السّابقة واللاحقة كذلك، تقضي بأن يحرص الإنسان المتزن على الظهور أمام مرآة الناس جميعًا بصورة الكمال التقليدي في لباسه التقليدي وحركاته، مُنسجمًا مع فروض التقاليد المرعية. والكشف عن بعض النواقص أو أي شيء يُخالف الصورة التقليدية للكمال المثالي، فضائح لا بدّ من التستر عليها أو هي أحيانًا عورات لا بدّ من إخفائها” (جيل النكسة، ص 10).
حالة الحذر والخوف على الآخر، يعتبرها طه حسين ظاهرة لا مثيل لها إلّا في الأدب العربي فيقول “لا أظنني أعرف أدبًا مقيّدًا مغاليًا في الاحتياط كأدبنا العربي الحديث، الذي ينشئه أصحابه وهم يفكرون في الناس أكثر مما يفكرون في أنفسهم، حتى أطمعوا الناس فيهم، وأصبحوا عبيدًا للجماعة وخدامًا للقراء” ومن ثم يرى الخلاص في هذه الدعوة، “فلنتمرد على الجماعة، ولنثر بالقرّاء، ولننبذ الاحتياط كله إلا هذا الذي يثير الشر، أو يؤذي الأخلاق”.
ورغم كل هذه العوائق التي تحول دون قبول كتابات البوح والاعتراف، إلا أن الدافع في كتابتها أقوى من منعها. فكما يقول أندريه موروا “إن الدافع الذي جعل السير إدموند جوس يكتب سيرته كان في ما يبدو هو الدافع المعتاد عند الرومانسيين: المتعة في التحرّر والتنفيس والخلاص”.
وهناك مَن يربط بين الاعتراف والعلاج على نحو ما فعل علي أدهم في مقالة قديمة بعنوان “الاعتراف والمعترفون” حيث قال إن “طريقة التحليل النفسي الحديث في معالجة الأمراض العصبية، أظهرت قيمة الاعتراف وأوضحت أهميته، وساعدت الإنسان على أن يعرف نفسه، وأن يلقي ببصره في ظلماتها الدامسة وسراديبها الخفية، بل يسّرت مناجاة الإنسان لنفسه، وتحليله لعواطفه الخاصة”.
يعود مرة ثانية علي أدهم أثناء عرضه لكتاب عبدالرحمن شكري “الاعترافات”، ويقدم تفسيرًا آخر لانتشار الظاهرة، فيقول إن “أكثر كتب الاعترافات والتراجم الذاتية باعثها الأزمات النفسية التي تعرض لذوي النفوس الشديدة الحساسية والدائمة التفكير في ذاتها، والظروف التي تكتنفها”. وفي السياق نفسه لاحظ علماء النفس المحدثون أن الانتحار يَكْثُر في الأمم البروتستانتية منه في الأمم الكاثوليكية، وعلّلوا ذلك كما يقول علي أدهم “بمسألة الاعتراف عند الكاثوليك، فهي بركة من البركات ونعمة من النعم” (ص، 242).
كل ما سبق يشير إلى حقيقة واحدة، مفادها، أن أسباب الاعتراف وضرورته تغلبت على الموانع والعوائق، وقد احتال الكُتّاب بكافة الوسائل من أجل تمرير اعترافاتهم.
ردة فعل الاعتراف
مفردة الاعترافات كعنوان صريح كما هي حاضرة في “اعترافات” القديس أوغسطينوس، و”اعترافات” عند جان جاك روسو، و”اعترافات فتى العصر” لألفريد دي موسيه، و”اعترافات شبابي” ليو تولستوي، وكذلك “اعترافات الروائي جورج سيمنون” غير متحقّقة في مدونة السرد العربي. وترددها لا يأتي بمثل هذه الكثرة والإطراد في الأدب الغربي، باستثناء ما كتبه عبدالرحمن شكري، تحت عنوان “الاعتراف”، على الرغم من أنه استخدم القناع، لنفي المطابقة بين الهويات الثلاث: هوية المؤلف والراوي والشخصية. وكذلك هي حاضرة في عنوان “اعتراف شاعر”، لعبدالرحمن صدقي، وترددت أيضا في “اعترافات حافظ نجيب” لحافظ نجيب، وهناك أيضا اعترافات عبدالرحمن الشرقاوي، إلا أنه لم يكتبها بنفسه. وإنما هي سلسلة حوارات أجراها الدكتور مصطفى عبدالغني مع الشرقاوي، صدرت عن المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1996.
عند التساؤل عن أسباب عدم وجود سيرة ذاتية في الأدب العربي، بما تتضمنه من اعترافات صريحة، دائمًا تربط الإجابات بين الاثنتين معًا. وتأتي الإجابة هكذا أن الثقافة العربية لا تتحمّل الصراحة الكامنة في الاعترافات. كما أن الجميع أرجعوا أسباب الغياب والانحسار إلى غياب الحرية، وافتقاد البيئة العربية لثقافة البوح. ويدخل في هذا أيضًا ربما طبيعة هذه البيئة التي نشأت في خيام تلوذ بالستر والتستر. فغياب الحرية كان بمثابة العقبة الكؤود الذي حال دون البوح، وهتك الأسرار
ومع هذا الاطراد في الاعتماد على صيغة الاعترافات، إلا أنها تقلصت في الفترة الأخيرة ولم يعد لها وجود في عناوين الكتابات التي تُعري الذات. ومن ثم نسعى لتلمُّس هذه الاعترافات من خلال السير الذاتية، والكتابات الذاتية بصفة عامة؛ كالمذكرات واليوميات والرسائل. فكتّاب هذه الأجناس مرّروا الكثير من اعترافاتهم في سيرهم الشخصية ومذكراتهم، كحيل لتفادي المنع والمصادرة لو صدرت تحت العنوان المثير اعترافات.
الخوف من المصادرة دفع البعض إلى التردّد في نشر العمل، على نحو ما حدث مع ليلى أبوزيد، التي أحجمت عن نشر سيرتها “الرجوع إلى الطفولة” لمدة عامين، وأبقتها في درج مكتبها. وقد يؤدي إلى رفض نشرها تماما كما حدث مع سيرة محمد شكري “الخبز الحافي” فجاءت كتابتها باللغة العربية عام 1972، ثم قام صديقه بول بولز الكاتب الأميركي، بترجمتها إلى الإنكليزية سنة 1973. وفي مرحلة لاحقة ترجمها إلى الفرنسية مواطنه الطاهر بنجلون سنة 1981. ولم تنشر باللغة العربية إلا في سنة 1982. وقد طالها المنع في الكثير من الدول العربية. لكن الغريب أن منعها في مصر جاء عندما تم تدريسها في الجامعة الأميركية.
جابهت الاعترافات التي تسربت بلمحات قليلة وأيضا مستترة إلا فيما ندر، معارضة شديدة ورفض لهذه الكتابات. بعضها من أفراد العائلة التي ينتمي إليها الكاتب، كما ما في موقف مليكة الشيكر أخت محمد شكري، الرافض لما ورد في الخبز الحافي، وفقا لحديثها لقناة DW عربية؛ لاحتوائها على “مشاهد جنسيّة صادمة، وكذلك لتطرقها إلى علاقة الأب مع الأسرة التي كان يطبعها العنف”. تشير ليلى العثمان إلى أنها تعرضت لذات الموقف عندما تطرقت إلى علاقتها بأبيها، بأن اعترض أخيها حتى أنه رفع “دعوة قضائية بحجّة الإساءة إلى الوالد”.
تعرضت مذكرات لويس عوض “أوراق العمر: سنوات التكوين” التي نشرت في عام 1989 للمصادرة والرقابة، فتمت مصادرة نسخها الأخيرة بعد وفاة الدكتور لويس عوض في عام 1990، حيث قال رمسيس عوض بعد وفاة أخيه لويس “لا أعتقد أن لويس عوض كان موفقا في التشهير بعائلته في كتابه ‘أوراق العمر’ فهناك في كل عائلة أشياء سلبية أضعاف ما هو موجود في أوراق العمر، وأنا لا أزال أَحمل العرفان بالجميل لشقيقي الأكبر لويس عوض لأنه تولى الإنفاق على تعليمي بالجامعة، بل هو الذي أدخلني قسم اللغة الإنكليزية الذي لم أكن أرغب فيه بسبب ميولي للصحافة من ناحية، وبسبب اهتمامي بالفلسفة من ناحية أخرى. ألوم لويس عوض انتقاده لكتبي التي وصلت إلى خمسة عشر كتابا قبل رحيله، ولم يكن موفقا في تقدير قيمتي العلمية، ولم يكن يتصوّر أن عدد كتبي سوف يفوق إنتاجه بكثير الذي لم يتجاوز سبعة وخمسين كتابا، في حين أن عدد كتبي تجاوز السبعين وتطرّقت إلى موضوعات لا يوجد لها مثيل في العالم العربي.”
يبدو أن الغضاضة التي حملها رمسيس لأخيه لم ينسها فعندما أرادت الهيئة العامة المصرية برئاسة سمير سرحان إعادة طبعها ضمن مشروع مكتبة الأسرة، رفض متذرعا بأن الهيئة لم تتعاقد معه بحكم أنه الوريث لأخيه، لكن السبب الحقيقي هو ما أسماه بـ“تشويه تاريخ أسرته، وهو شخصيا”.
وقد جاءت سيرة لويس عوض، محمّلة بكل ملامح أدب الاعتراف. فتضمنت كل شيء عن حياته وحياة المحيطين به، متجاوزا كل التابوهات الممنوعة والمحرمة. فتكلّم عن الدين والسياسة والمرأه، عن الأب والأم والأخوة، عن الحب وبنت الجيران المسلمة التي أحبها القبطي، عن الكنيسة التي لم تكن تزورها أمه إلا في المناسبات. وتحدث أيضا عن انتشار الحجاب بين الفتيات المسلمات وعدم قلقه إزائه. كما روى عن زواجه من فرنسية تعشق الخمر وقطط الشوارع، وعن عقمه إلا من ولادة الأفكار والكلمات. والأهم تحدّث عن مصر معشوقته السمراء، وعن الحزن في أواخر أيامه. وهو ما انتهى به إلى أن يلجا إلى عزلة اختيارية في بيت ريفي بدهشور في الفيوم جعله صومعة لإبداعه بعيدا عن صخب الحياة والبشر.
ردّة الأفعال الغاضبة لم تقف عند سياق ثقافي معين، وإنما هي ممتدة زمنيا حتى العصر الحديث. فالدكتور جلال أمين عندما نشر عام 2007 سيرته الذاتية “ماذا علمتني الحياة؟”، ذكر في مقدمة الجزء الثاني “رحيق العمر” أنه تلقّى “من أربعة أو خمسة أشخاص من داخل العائلة، ومن خارجها، لوما شديدا على نشر هذا الكلام. بل واعتبروا أنه تسبّب في ‘فضيحة للعائلة’ وأن مثل هذه الأمور لا تنشر ولا تقال” (ص13).
أغرب ما تعرّض له جلال أمين، ما صدر من إحدى القارئات، التي أرسلت رسالة للكاتب الصحافي سليمان جودة، بعد أن أشاد بما كتبه جلال أمين في سيرته “ماذا علمتني الحياة؟” في عموده الصحافي بجريدة المصري اليوم، إلا أنّ القارئة وجهت اللوم للكاتب وما جاء من اعترافات في سيرته على نحو ما جاء في رسالتها التي وقعتها تحت عنوان سيدة من الزمن الماضي.
وقد ذكرت، لقد “فجعت فيك، عندما قرأت مقالك عن الدكتور جلال أمين، رغم أني أتابع ما تكتبه بإعجاب شديد.. فقد أبديت إعجابك بصدقه، وشجاعته، عندما اغتال خصوصيات والدته على الملأ، وتجاهل أن البيوت لها حرمات، وأن الأمهات لهن توقير يصل إلى حد التقديس.. قل لي بربك، هل يطاوعك قلمك أن تكتب عن والدتك ما كتبه الدكتور جلال أمين، مربي الأجيال؟ هل تستطيع أن تُعرِّض سيرة أمك، للقيل والقال، خصوصا أن غالبية الناس لا تُفرِّق بين الحبّ والجنس، فكيف يسمح للشك أن يقترب منها؟!”
وتستمر القارئة في رسالتها الغاضبة قائلة “إن الأبناء يغفرون لآبائهم نزواتهم، ولكن لا يغفرون للأم.. فنزوة الأم تحطم في عيونهم المثل والقيم، فيكفرون بكل ما هو جميل.. الأم في نظرهم يجب أن تكون معصومة من ضعف البشر، لأن الله خلقها كما خلق الملائكة، من نقاء ونور.. لا يا سيدي.. الأم لا تمس.. إلّا الأم! وإني لأتساءل – والكلام لا يزال لصاحبة الرسالة الغاضبة – كيف نجت زوجته من هجومه على المقدسات؟ إنه لم يفتح باب غرفة نومه على مصراعيه للقراء والمعجبين، حتى يزداد إعجابهم بشجاعته، ومصداقيته.. أعتقد أنه يحقد على أمه، لأنها لم تلده في جمال سيدنا يوسف عليه السلام، ولا في نقاء سيدنا عيسى عليه السّلام، وإنما جاء عبارة عن كتلة من الحقد الأسود، لينفث سمومه في أقرب الناس إليه، وفي كل ما هو جميل.. لا أستطيع أن أمنع نفسي من أن أسألك: كيف تبارك تعرية الأمهات.. وفي الوقت نفسه، فإن عبارة شهيرة للفنان العظيم يوسف وهبي تلح علي، وأريد أن أوجهها للدكتور جلال أمين، وهي عبارة ‘عليك اللعنة’.. نعم هو ملعون في كل ملة، وفي كل دين.. واسمح لي يا سيدي، وقد أبديت إعجابك بما كتب.. اسمح لي أن ألعنك أنت أيضا!”.
آثرت نقل كل ما جاء من رسالة السيدة الغاضبة، لسببين الأول: أنها كشفت عن مدى سلطة القارئ التي تجاوزت حدود الانتقاد إلى حدود اللعنة ومصادرة فكره، والأهم عدم تقبّله لحالة البوح التي وقع المؤلف تحت سلطة الميثاق السّيري، وهو ما يُعدُّ سببا رئيسيا في خشية الكثير من الكتّاب من الإفصاح عن سيرهم الذاتية، بما تحمله من خطايا وآثام، كي لا يتعرضوا لذات المصير. والسبب الثاني خاص بشجاعة الكاتب في مواجهة مثل هذه الآراء، فجلال أمين لم يتوقف عند هذه الاعتراضات، واستمرّ في كتابة اعترافاته وأصدر جزأين تاليين: “رحيق العمر” و”مكتوب على الجبين: حكايات على هامش السيرة”.
ردة الفعل ضدّ ما ينشر تحت مفردة الاعترافات، تتجاوز أصحاب الشأن إلى المهتمين بالشأن الثقافي، فرجاء النقاش يحكي عند ردود الأفعال الغاضبة عندما نشر كتابه “صفحات مجهولة في الأدب العربي المعاصر”. وهو الكتاب الذي سرد فيه أسرار العلاقة بين الناقد المصري أنور المعداوي والأديبة فدوى طوقان. يقول النقاش “ما إن صدر الكتاب حتى تعرّض لنقد بعض الأقلام؛ فقد انزعج البعض من المنهج الذي اعتمدت عليه في هذا الكتاب، وهو منهج يلتزم الصراحة الكاملة، مما اعتبره البعض خروجا على المألوف في حياتنا العامة وحياتنا الأدبية” (ص 9). ومع هذا الهجوم والرفض إلا أن النقاش لم يلق بالا بانتقادهم، فأخرج طبعة ثانية من الكتاب.
وفي مرحلة لاحقة، أخرج النقاش حواراته مع محفوظ وكانت هي الأخرى تحوي اعترافات ألبت الأقرباء على محفوظ بسبب صراحة محفوظ. وقد يكون الرفض من الجماعة التي ينتمي إليها، وتعرضها للفضح كما حدث مع المؤرخ رؤوف عباس، فما إن نشر سيرته “مشيناها خطى” التي تناولت مسيرة نصف قرن من التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في مصر عبر مسيرة حياته. وما إن كشف فيها عن الفساد الجامعي، حتى هبّ مَن تعرض لهم بالهجوم عليه، وإنكار ما جاء في السيرة.
وأبرز هؤلاء المهاجمين، كان عبدالعظيم رمضان الذي رد بمقالة نال فيها من علمية عباس منذ عتبة العنوان الذي جاء هكذا “رؤوف عباس أستاذ جامعي كتبه محدودة ولیس في حیاته ما یستحق أن یكتب عنھا مذكرات!”. الغريب كان هناك من رأى أن رؤوف “لم يقل كل شيء في مذكراته حتى لا يطيح بالجميع″. بمعنى أنها لم تكن صريحة بالقدر الكافي.
سبق وأن ذكرت على الرغم من العوائق التي تحول دون توفر كتابات الاعترافات في أدبنا العربي، ومع هذه العوائق استطاع بعض الكتاب أن يفلتوا من الرقابة على الذات بكافة أنواعها؛ الحياء والخجل، أو سلطة المجتمع وكذلك سلطة الدين. وكتبوا كتابة عارية، كان لها وقعها الصادم في الأوساط الثقافية، بما احتوته من صدق مع الذات وهي تقف أمام المرآة، بلا رتوش أو قناع.
اعترافات الكتاب: الهزيمة والذاكرة
نتوقف هنا لنستعرض لبعض النماذج من اعترافات الكتاب على اختلاف أجناسهم وبيئاتهم أيضا، لنرصد كيف استطاع الكتاب تمرير ما يخالف قيم وأعراف مجتمعاتهم، والأهم كيف تمّ تمريرها؟
أوّل ما يلفت في سيرة بشير العظمة “جيل الهزيمة من الذاكرة” وهو الشخصية العلمية التي تقلدت مناصب سياسية رفيعة جمعت بين الوزارة أيام حكومة الوحدة عام 1958 ورئاسة الوزراء وغيرهما من المناصب في المحافل العلمية والسياسية، هو التجرد من كل زيف أثناء الكتابة. أي أن المؤلف يُعرّي هذه الذات ويكشف عن أدق تفاصيلها حتى أنه لا يتوانى وهو يستعرض لحياة الأسرة أن يعرض لما شابها من “تناقض فاضح بين الظاهر والباطن، بين صورتنا الخارجية ودخيلتنا في بيوتنا خلف الأبواب في حياتنا الواقعية اليومية” (ص28).
ويتطرق المؤلف، إلى انتقاد المدرسة حيث يُعامل فيها الطفل الصغير معاملة حيوان صغير، إلا إذا كان ابن أحد “أصحاب النفوذ أو أبناء العائلات” إذ يعامل بالنصح والملاطفة. ويذكر أن أحكام العقاب تخضع للاعتبارات الاجتماعية، وبتعبيره تصبح “العدالة مرنة وظرفية”. كما يكشف عن موقف جدّه لأمه ووضعه الاقتصادي، حيث كان إمام جامع صغير في سوق الأروام، وهو الأمر الذي دفعه إلى أن يجبر أبناءه على العمل في سن مبكرة، كي يستعين بهم على مصروف داره. أما الشيء الأسوأ الذي فعله الجد، فكما يقول العظمة، هو اضطراره إلى زواج ابنته الكبرى وعمرها إحدى عشرة سنة من سكير قاطع طريق: لأنه “من عائلة ثرية”. حيث الآباء يتصرفون في مستقبل أبنائهم وكأنه ملكية خاصة.
لا يخجل العظمة من أن يروي حالة البؤس التي عاشها في طفولته، واستمرّت حتى دخوله الجامعة، فيسرد عن اعتراف الأب بعجزه عن الإنقاق على دراسته، وهو ما توازى مع المهن التي امتهنها قبل أن يصبح طبيبا أو “دكتاتور دوكتور؟ صغير الحجم، ولكنه صاحب سلطات”، فتنقل بين كسّار للحطب، وإسكافي للفوتبول، ونبّاش للقبور. ثم حالة التغيُّرات التي أصابت شخصيته، إلى حدّ الانسلاخ انسجاما مع المرتبة الجديدة، وقد كان لندوب الماضي البعيد أثرها عندما كَبر.
ويعترف العظمة قائلا “بصراحة ليس بيني وبين الكرم والترف والسخاء صلات حميمة”. فالإنفاق يأتي “دائما ضمن خطة وحساب ودون مظاهر التفاخر والسفه”. كما يستعرض لحالة السلطة الأبوية المهيمنة على الدار، حيث علاقة الأبناء مع الوالد قائمة على “تقبيل الأيدي، وطلب الرضا”. أما إدارة شؤون الأطفال، فهي اختصاص حريمي. يبرع العظمة في رسم صورة حيّة لهذه السلطة الأبوية بقدوم العمّ الضابط وهو يجرجر سيفه عن عمد إلى أرض الدهليز. وقدومه يعني اختفاء النساء أو وضع الغطاء على الرأس متسترات.
الإكراهات التي مارسها الأب على جموع أفراد العائلة، خاصة تعنيفه وهو يبدي ملاحظاته الخاصّة بالدين، جعلت الابن يعترف بنفوره من الصّلاة وتهربه منها، فيقول ”أذكر جيدا شعوري بالضيق من الإكراه منذ أن وعيت وجودي، وأتوارى وأتهرب أحيانا من الوضوء والركوع والسجود” بل “كانت ردود فعلي على الإكراه لإقامة الصلاة وصوم رمضان احتيالا وكذبا، بأني توضّأت أو صليت. كذلك كنت أشرب أو أتناول، ولو قطعة من الخبز اليابس، ألتهمها نهارا تحت اللّحاف أو في المرحاض” (ص 24).
وإن كان في مرحلة لاحقة يكشف العظمة عن السجن الذي عاشه في الكتاتيب، والجرائم المستترة التي كانت تجري فيها في الخفاء، فاللواطة كما يقول “عملة دارجة معروفة ومنتشرة في أوساط الكتاتيب، وغير مستهجنة في تلك الأيام”.
جلد الواقع والآخر لا يحدّه شيء في اعترافات العظمة، حتى أنه مع بداية الفصل الثاني “مرحلة التدجين: 1920 – 1928) يؤكّد أن ما يسرده ما هو إلّا تأكيد على “أن جيل الهزائم قد ترعرع في ظل الإرهاب والقمع النفساني وتمت صياغته جيلا متردّدا وجبانا. كما ينتقد ما حلّ بعد رحيل الأتراك، وتبدّل الهوية إلى عربية، الأناشيد القومية التي يرى أنها كُتبت على عجل استجابة للموجة الصاعدة الهادرة: “بلاد العرب أوطاني….”.
كما يعترف على نفسه بأنه مارس التزوير من أجل الدخول إلى المدرسة الإعدادية. فيحكي أن الموظف أقرّ بأنّ عمره صغير لا يُناسب المدرسة. ونظرا لرغبته في الدخول إلى المدرسة، قام بحك الرقم أربعة وطمسه وكتب بدلا منه صفرا. والغريب يقول إنه لما راجع الموظف من جديد، لم يمانع “وتغاضى عن الحك والتزوير”.
ويحكي، أيضا، عن جرائمه الصغيرة كالسرقة من أجل شراء مجلة اللطائف، وكيف أنه كان يفتح الخزانة ويحصل على ما يحتاج. وما إن اكتشفت الأم فعلته، أسقطته في شرك، وحذرته من تكرار فعلته. ومن الاعترافات المثيرة ما ذكره عن كيفية دخوله كلية الطب بالمصادفة. حيث طلب أحد الرفاق مساعدته في تحضير مواد المسابقة، وقدّم الرفيق طلبا باسمه على أن يكتب على ورقة الفحص اسمه ويكتب على ورقته اسمه. وكانت المفاجأة أن أُعلن بعد الفحص النهائي نجاح جميع المتقدمين.
المثير جدا هو أن يكشف عن تناقضات شخصيته، وسعيه لأن يتزوج من أجنبية كي تقوده مكبلا وتفتح أمامه نوادي الطبقة الأعلى، وهو نفسه هيئت أمامه الفرصة لأن يتزوج من طبقات عليا ترتبط بميراث الأتراك والأجانب، إلا أنه رفضها. (105). لكن يوقعه الحظ بفنانة هنغارية، والتي نظرا لتصرفاته راحت تعامله بطبقية حتى أنها وصفت أفعاله في ثاني أيام زفافهما “بالدونية وأنه إنسان غير متحضر، وغير لائق بالأميرة”، بل لا يتوانى عن تصوير أحاسيسه طيلة ثلاثين يوما قضاها مع هذه الزوجة، وخوفه من العودة إلى الفندق، وسؤال السيدة الوقور عمّا جرى في يومها خشية ”إثارة بركان الشتائم”. ومن الاعترافات المثيرة أنه بسبب تحمسه للوحدة مع مصر، شارك في تزوير الاستفتاء على الدستور، وانتخاب جمال عبدالناصر.
من الأشياء التي تكاد تكون مشتركة في معظم الاعترافات لدى كُتّاب السّير على اختلاف جنسياتهم هو انتقاد التعليم. وسبق أن عبر طه حسين في كتابه الأيام عن مساوئ التعليم، وبالمثل سليمان فياض في “أيام مجاور” حيث قدم صورة مزرية لواقع التعليم الذي يدعو إلى النفور. نفس الشيء تطرق إليه رؤوف عباس في “مشيناها خطى” وإن تطرق الأخير إلى فساد التعليم الجامعي.
وفي سيرة بشير العظمة، يتساءل في تعجب “ماذا تعلمت خلال دراسة امتدت خمس سنوات؟ يجيب بالقطع: لا أتذكر سوى أجواء الفوضى والاستخفاف والضياع″. الشعور بعدم التحصيل يدفعه إلى أن يُسائل نفسه “كيف أحاسب الدراسة والمدرسين والمدرسة السلطانية؟ لكن الأمر السيء والشنيع هو أن حالة السوء التي كانت عليها المدارس وقتها في مطلع القرن الماضي، لم تختلف عنها حالة المدارس اليوم ‘إلا في حدود الكم، بينما أساليب الدرس والتدريس ثابتة حفظا ونقلا وتخزين معارف وتقويما بالعصا أو التهديد بالفحص النهائي. تخزين المعرفة شبيه بتخزين أي شيء ليصبح بعد فترة غير بعيدة غير صالح للاستعمال بعد أن تجاوزته الأيام أو أصبح فاسدا”.
كما يتمرد على طريقة التعليم والرشوة التي كانت تدفع للأساتذة أثناء الفحص التكميلي بمقدار خمس ليرات ذهبية لقاء دروس خاصة، تُساعد في الانزلاق وتسهيل المرور من سنة إلى أخرى. ومن الاعترافات المثيرة الخاصة بالفترة التي قضاها في فرنسا المنحة التي أرسلها إليه الصليب الأحمر، أنه حمل في حقيبته إلى جانب أدوات المعاينة عددا من الشهادت فقد “كان الحصول عليها غير عسير، لقاء دفع عدة مئات من الفرنكات عند ممرضة ومن دون الهوية الشخصية أيضا”.
جاءت تجربة العظمة في حقبة حافلة بالتقلبات السياسية والانقلابات، التي كان لها بالغ الأثر في تشكيل هذه المنطقة العربية، وتحديد وجهتها التي لم تفارقها إلى الآن. حيث ساد الميل والانصياع إلى المستعمر القديم، على الرغم من رحيل آليات الاستعمار وجيوشه إلا أنه ترك ما هو أكثر، الخونة. ومن ثم يرفض السياسة تماما، فهو “سلطان نفسه” على حد تعبيره.
المدهش أن رؤيته عن الديمقراطية صائبة وصالحة إلى الآن. فهو يرى أن الديمقراطية تربية وكفاح وعلم متطوّر، وإيمان بالإنسان. ويستمر “الديمقراطية التي نريد نقل مؤسساتها، لا تتوفر لها التربة للعيش في مجتمعات التخلُّف والجبرية والتواكل”.
ومن أبرز الاعترافات ما هو خاص بمرحلة الوحدة مع مصر، خاصة أن بشير العظمة كلَّف بوزارة الصحة المركزية في حكومة الوحدة. فيسرد خيبة أمله في هذه الحكومة حيث وفقا لاجتماع عبدالناصر بهم طالبهم برفع تقارير. وهو الأمر الذي فعله العظمة، وانتظر طويلا دون أن يأتيه ردّ على تقريره. فاضطر إلى أن يطلب مقابلة عبدالناصر. وهذه المواجهة تكشف لنا عن نفاق السياسيين والأقنعة التي يظهرون بها على الجماهير.
فيسرد العظمة أنه ظل ينتظر أربعة أشهر، إلى أن “تكرم الرئيس وحدّد موعدا لاستقبالي في استراحة القناطر الخيرية”. وقابله الرئيس بترحيب متحفظ وابتسامة استخفاف. فبادره الدكتور العظمة قائلا “منذ ستة أشهر قدمت تقريري بتكليف منكم عن السياسة الصحية، ولا أزال انتظر مناقشته”. قال مقاطعا “أي تقرير تشير إليه؟” قال العظمة “لقد نقل إليَّ السيد علي صبري تهنئة على لسانك، وأنك معجب بمحتويات التقرير” قال عبدالناصر منفعلا “يصلني كل يوم حمولة لوري ـ سيارة شاحنةـ من التقارير، هل تريدني أن أقرأها جميعا وأستوعب محتوياتها؟” يقول الدكتور العظمة “شعرت بالغضب الحاد، خاصة أن اللهجة وتعابير الوجه استفزازية وغير مهذبة”.
ثمّة عامل يحول دون تحقق الاعترافات بشكلها العاري ألا وهو (الحياء والخجل). فالحياء كما يقول عبدالرحمن بدوي هو “الرقيب على جوهر الإنسان وكيانه الروحي الحقيقي أن يكون أشد حرصًا على كتم ما نيط به حراسته من أسرار”. كما يدخل الحرجُ تحت عنصر الحياء؛ حيث كاتب السيرة لا يكتب عن نفسه فقط، وإنما يكتب عن آخرين عمّا يشعره، شركاء له في صنع سيرته. ومن ثم فعلاقته بهم توجد بها أشياء يتحرَّج من البوح بها، ربما حرصًا عليهم
ويتابع العظمة ذاكرا ما خاطب به عبدالناصر “إما أنك نسيت، وإما أن السيد علي صبري يتكلم بلسانك دون علمك”. ها هنا سأله عبدالناصر “ما لنا والتقاير. عايز إيه؟ وأردف بالحرف الواحد: هل تريد سيارة أو ينقصك أي شيء؟”. العظمة أوجز مثالب شخصية الزعيم في “الغرور والفردية وخداع الذات في تقدير حجمه وإمكانياته الواقعية، بعد أن عزلته الأجهزة والجماهير الهازجة الزاحفة وساهمت في ضياعه”.
ومع موقف عبدالناصر منه إلا أنه يشهد بأن عبدالناصر “قائد وطني صادق، أراد أن يعيد إلى مصر أمجادها التاريخية، وقد تمكن من تحقيق الكثير من طموحاته الوطنية في تحرير الاقتصاد والسياسة المصرية من التبعية الكاملة لدوائر الاستعمار والرأسمالية الأجنبية… (كما) يبقى إنسانا نظيفا وعفيفا، وهي صفات يندر جدا أن ينجح في التمسك بها حكام العالم الثالث، وفي السلطة المطلقة مغريات ومزالق لا حدود لها”. السيرة تعرية للحياة السياسية التي غلبت كفّة الانقلابات والصّراعات على الحوار وبناء الأوطان.
اعترافات العظمة، لم تتوقف عند شخصيته، وإنما طالت من عمل معهم في المناصب السيادية، حتى أنه يصفها “كانت صورية ورقية لا حيلة لأصحابها ولا طول، اليد الفعلى للأمن والقادة الذين يديرون اللعبة من خلف الستائر”. كما أنه يرسم صورة لخالد العظم فيها من التقليل لمكانته ومنصبه حيث يقول “إن رئيس الجمهورية كان يُعامله في جلسات المجلس كطالب أمام معلمه، بل أسوأ من ذلك، يوجه إليه الكلام بحدة وعصبية ظاهرة”.
رحيق الألم
اعترافات الدكتور جلال أمين لم يسعها كتاب واحد، بل امتدت لتشمل ثلاثة كتب. بدأ الدكتور جلال أمين اعترافاته الصادمة في سيرته “ماذا علمتني الحياة؟” دار الشروق عام 2007، التي أصابت الكثيرين بالصدمة، ثم أتبعها بـ“رحيق العمر” 2010، وصولا إلى الجزء الثالث ”المكتوب على الجبين: حكايات على هامش السيرة الذاتية” 2015.
الرجل لم يكتف بسرد خصوصياته الشخصية، وإنما تحدث باستفاضة عن عائلته. فتطرق وهو في حالة بوحه إلى علاقة أبيه بأمه، وحبّ أمه القديم. كما أنه لم يتوان عن هتك أسرار العائلة، وفق أقوال المعترضين على ما جاء في السيرة.
ومن الأشياء المثيرة أنه يسرد عن جمع أمه للمال، وكيف أنها كانت تقتطع من مصروف البيت حتى توفر ثمن البيت الذي تريد أن تشتريه. وتارة ثانية يعترف ببخل أمه القح حتى “كان حصول أحد منا على بضعة قروش من أمي أشبه بمحاولة استخراج الماء من الصخر”.
لكن ذروة الاعترافات تأتي من كشفه عن قصة حبّ أمه لابن خالها، ورفض ولي أمرها لهذا العاشق، وهو ما اضطرها إلى الهروب إلى القاهرة ولجأت إلى أحد أقربائها، الذي رحب بها، واستقبلها في بيته. ومع زواجها من الدكتور أحمد أمين إلا أن حبها لابن خالها لم تنطفئ جذوته. فكانت تذكر حكايتها معه لابنها، بل تأثرت أيما تأثّر عند استشهاد ابن الخال، في حرب 1956، وذهبت للعزاء، وكانت متأثرة لرحيله.
ويحلّل أمين هذه العلاقة وينتهي إلى أن وفاة أمه جاءت بعد وفاة ابن خالها بأسابيع، فقد حزنت عليه حزنا عميقا لعدة أيام قبل أن تمرض هذا المرض الذي أودى بحياتها. (ص 32). وعلى الجانب المقابل يسرد عن علاقة أبيه بأمه، من خلال المذكّرات التي دوّن فيها الأب بعض يومياته، فيشير إلى العلاقة المتوترة بين الزوجة وأمه لأن زوجته ترفض أن تنادي أمه بلقب يا والداتي.
كما يعترف الأب بانحيازه إلى أمه، وتأنيبه الزوجة على هذا حتى ترتدع. لكن أهم هذه الاعترافات هو ما صرّح به من موقف أبيه من المرأة فقد “ظلت المرأة… مخلوقا به من أوجه النقص ما يفرض عليها أن تقبل صاغرة عن طيب خاطر الخضوع لإرادة الرجل”، لأنها كما يقول في نظره “عبء على الرجل من نواح كثيرة”.
يتوالى بوح جلال أمين واعترافاته عن إخوته. فيصف أخاه محمد بأنه “عنيف في غضبه، قليل التسامح، ذو ميل قوي للانتقام ممن يسيئ إليه، له خلق الإقطاعي المستبد، يُعامل خدمه ومرؤوسيه معاملة أقرب إلى معاملة السيد للعبد، ويخيف الجميع بهياجه وغضبه”. ونتيجة لهذه الصفات نشأت فجوة بينه وبين أبيه. فهما طرفا نقيض “فلم يكن بقدرة أحدهما أن يستسيغ طريقة الآخر في التفكير أو نظرته”.
نفس الشيء يرويه عن أخته فاطمة، التي لم تكن علاقتها بأبيها طيبة. ويفسّر هذا بحدة طبعها ومزاجها الثوري. كما يفصح عن علاقته بصديقته الإنكليزية أثناء بعثته إلى لندن عام 1958، والأدهى أنه يكشف عن أن خبر وفاة أمه عام 1959 بلغه وهو في علاقة حميمية مع هذه الفتاة الإنكليزية. ويتحدث عن أخيه عبدالحميد بصراحة، خاصة بعد طور التحولات التي أصابته، والوساوس التي أخذت تهيمن عليه، وشعوره دوما بأنه مراقب ومتعقب. وقد أرجع جلال أمين ما أصابه إلى “الانهيار النفسي” (مكتوب على الجبين، ص 38).
يكرّر أمين التعرية، وهو يتحدث عن أخته فاطمة التي يصفها بأنها كانت “لغزا بكل معنى الكلمة”. ويعترف بأنها لم تكن “تضمر شعورا قويا بالحب لأبي” دون أن تحاول “إخفاء ذلك” وقد أبدت تمردا ذهبت به إلى درجة غير مستساغة. ومن أغرب ما يذكره عن أخيه عبدالحميد اقتراضه من حمامة الخادم، الذي كان يدخر ما يحصل عليه من عمل.
على الرغم مما جاء في أعمال جلال أمين من صراحة مدهشة خاصة ما هو متعلق بأسرته، إلا أنه كتم الحقائق في الكثير من المعلومات، خاصة الشخصيات التي نسب إليها أفعالا كحالة المحقق الذي أراد أن يتلاعب به، أو تلك الشخصيات التي انتقد كتاباتها كما في المثقف الماركسي. فلم يعلن عن اسمه بل اكتفى بالإشارة إليه وإلى عمله وكتبه. وهذا ضد الصراحة، بل يقوّض جوهر العقد الذي التزم به بمفردة سيرة ذاتيه، وأنه سيقول الصدق وهو أصل الاعترافات.
الاعترافات العارية
يستعير محمد شكري في “الخبز الحافي” (ط6، 2000) وهو يقدّم الكثير من الاعترافات عن عائلته وحياته الشخصية، شكلاً يجمع بين السيرة والرواية. فيسمي نصه وفقًا للعنوان الفرعي “سيرة ذاتية روائية“. في الحقيقة أن شكري يعي جيدًا جرأة ما يكتبه. ومن ثمّ عمد إلى تصدير النص، بخطاب أشبه بخطاب مضاد تحصيني، يدافع فيه عن نفسه ودوافع كتاباته التي ربما قد تكون صادمة للقارئ، ساعيا لأن يكسر حاجز الخوف في داخل كل ذات، من التعرف على حقيقتها.
الخوف من المصادرة دفع البعض إلى التردّد في نشر العمل، على نحو ما حدث مع ليلى أبوزيد، التي أحجمت عن نشر سيرتها “الرجوع إلى الطفولة” لمدة عامين، وأبقتها في درج مكتبها. وقد يؤدي إلى رفض نشرها تماما كما حدث مع سيرة محمد شكري “الخبز الحافي” فجاءت كتابتها باللغة العربية عام 1972، ثم قام صديقه بول بولز الكاتب الأميركي، بترجمتها إلى الإنكليزية سنة 1973. وفي مرحلة لاحقة ترجمها إلى الفرنسية مواطنه الطاهر بنجلون سنة 1981
يخرج شكري من هذه التجربة، بأن الحياة التي يخشاها الناس قد علّمته بأن يسير وفق قاعدة البوح دون الاعتبار لأحد. فما عليك على حدّ نصيحته سوى “قل كلمتك قبل أن تموت، فإنها ستعَرِفُ حتمًا، طريقها. لا يهم ما ستؤول إليه، الأهم هو أن تشعل عاطفة أو حزنًا أو نزوة… أن تشعل لهيبًا في المناطق اليباب الموات” (ص8).
وزّع محمد شكري الكتابة عن تفاصيل حياته الشخصية على ثلاثة كتب هي بالترتيب: الخبز الحافي 1982، والسوق الداخلي 1985، والشطار (زمن الأخطاء) 1992. وقد اختص الجزء الأول “الخبز الحافي” بالكثير من سيرة حياته وتشرده في المناطق المغربية، وامتهانه المهن المتواضعة. والأهم أنه قدّم في هذا الجزء انتقادًا حادًّا لبطريركية الأب التي كانت بمثابة عامل قهر له، إلى جوار الفقر الذي كان باديا على وجوه الناس وفي ملابسهم وطعامهم الذي كان يتلقفه البعض من الزبالة.
هذا البوح العاري الذي يسير عليه السّرد جعل الطاهر بن جلون يقول: “إن الذي يكتبه شكري هو من الأمور التي لا تُقال، بحيث يلفها الكتمان، أو على الأقل لا تُكتب وتنشر في الكتب، خصوصًا في ميدان الأدب العربي المعاصر”.
على مدار حالات البوح والاعترافات التي تطرد على امتداد النص، يأخذ الأب حيزًا كبيرًا من البوح. فالأب لم يكن له حضور إلا بالاسم فقط، أما دوره فهو غائب دائمًا. لا يأتي ذكره إلا ويستحضر مواقفه معه إما بالضرب له أو مع أمه الضرب صباحًا والمصالحة مساء بالعناق والقبلات والنوم عاريين. ومن ثم تهيمن عليه صورة قتل الأب، وإن بدت مجازيّة عبر تمنيّه غائبًا دائمًا، بسبب قسوته المفرطة التي توازي بين الإنسان والحيوان، فيتعامل بقسوة تنتهي بالقتل على نحو ما حدث مع ابنه عبد القادر.
وقد تأخذ صورة الانتقام من الأب شكلاً جديدًا، يتأتى بإنكاره وإعلان موته، عبر الحوار الذي دار بينه وبين رجل أيقظه ذات صباح بعد أن عاد من وهران، وكان ينام في الشارع كعادته في صحبة المشردين، فعندما سأله الرجل: “هل أنه ابن السيد حدو؟” بهدوء أنكر معرفته به، وعندما ألحّ عليه، وراح يسأله عن هوية أبيه، “قال: مات، وكررها بتلذذ: نعم، مات من زمان”. فالابن المحتقن من تصرفات الأب، يجد عزاءه في أن يرى أباه يُضرب على مرأى منه، حتى يسيل دمه كما يسيل من بين أصابعه بغزارة.
ثم يتحوّل المجاز إلى فعل يُخايله فصار يفكّر في ذاته: “إذا كان مَن تمنيّت له أن يموت قبل الأوان فهو أبي. أكره أيضًا الناس الذين يشبهون أبي”، حتى أنه في الخيال قتله أكثر من مرة، ولم يبق له إلا قتله في الواقع″. كما يحضر الأب في صورة العربيد، حيث يسطو على أجرة عمله في المقهى، ويختفي ولا يعود إلا بعد يومين. هذه الصورة نزعت من داخله الشفقة، فعندما مات أخوه عاشور لم يحزن على موته، بل يعترف بأن “ملذات جسدي ألهتني” وبالمثل كانت أخته أرحيمو تكبر وتتكلم لكنه كان “غارقًا في همومه وتشرده” حالمًا بملذات العالم”. كراهيته للأب تجعله يعترف بأنه سيزوره عندما يموت ولكن “لكي أبول عليه” فقبره “لن يصلح إلا لمرحاض”.
الرّاوي لا يقدِّم مفاجآت للمتلقي، بل يهيئ أفق المتلقي إلى حياة مأساوية يعيشها الفتى الراوي نفسه الذي لا يظهر اسمه إلا نادرًا، قبل نهاية النص، تارة بمحمد وتارة أخرى باللقب شكري. فيرسم صورة للبؤس الذي يعيشه ليس أقلها البكاء على الخبز، الذي يُمنّى ويرغّب في أنه سيحصل على المزيد منه عند الوصول إلى طنجة. وإنما في تلك المعاملة اللاإنسانية التي يُعامل بها الأب ابنه، بدءًا من اتهامه بأنه “ابن زنا”. وليس آخرها ضربه هذا الضرب المبرح، فعلى حدّ وصفه: “رفعني في الهواء، خبطني على الأرض. ركلني حتى تعبت رجلاه وتبلل سروالي”.
ومع الوعود التي كانت بمثابة ملهاة له على الصبر وتحمل الجوع، إلى أن يصل طنجة. لكن المؤسف ما إن وصل إلى طنجة لم يتحقق أي وعد منها، ومن ثم عندما كان يشتدُّ الجوع كان يفتش “في المزابل عن بقايا ما يؤكل”. يرسم الراوي عبر بوح عارٍ تمامًا، صورة لوالده تقرّبه من الوحش، فهو دائمًا يضرب الأم ويسبها بلا سبب، كما يسب العالم ويجدف على الله أحيانًا، وإن كان في الأخير يستغفره. الفجائع التي ارتكبها الأب بقسوة كانت دافعًا للبوح، فلم يعد ثمّة شيء يخشى منه أو عليه، فالأب لوى عنق ابنه، حتى تدفّق الدم من عنقه.
انعكست حالة الخوف التي انتابته من أبيه وكذلك من صاحب البستان الذي أسقط إجاصة منه، على سلوكياته وكان نتيجتها بلله في المرتين في سرواله المغربي الفضفاض. كما يُسهب السارد في وصف العلاقة الجنسية التي حدثت بين أبيه وأمه بعد خروجه من السجن، بعد أن وشى به أحد الجنود الإنجليز. فما إن عاد حتى تزينت وذهبت إلى الحمام العمومي، ثم في الليل عندما استيقظ بعد أن امتلأت مثانته، ينتبه إلى قبلات ولهاث تأوهات وهمسات حب، ولحم يصفق.
التطور الخطير في حياته يظهر في اعترافه بأنه صار يعتبر ”السرقة حلالاً مع أولاد الحرام” فبعد أن يسطو والده على أُجرة عمله الشهرية، ويكتشف أن صاحب المقهى يسرقه أيضًا حيث هناك غلمان مقاه يتقاضون أكثر من راتبه، تطّرد الاعترافات فيستعرض كافة الخطايا التي فعلها مِن شرب الحشيش والكيف والسجائر في الكيف، ثمّ شُربه النبيذ، وغيرها من أفعال ارتكبها وتعلّمها من روّاد المقهى الذين كانوا يشجعونه.
وكذلك يسرد عن علاقته بالجنس كمشاهدة، أو ممارسة على نحو ما يذكر مشاهدته لما تعرّض له اليزيدي من اغتصاب جنسي من عمّال المقهى المجاور. ثمّ ممارساته للعادة السّرية بعد تهيج رغبته الجنسيّة، التي لم يحدها حدّ، إلى درجة أنه يطفئ جذوتها في كل شيء أمامه له ثقب: الدجاجة، العنزة، الكلبة، العجلة. بل لا يتورّع في وصف كيف يتمّ الفعل على نحو “الكلبة أخرق لها الغربال المثقوب في رأسها”. ثم انتقاله إلى التلصص على آسية، ورؤيته لها وهي تتعرّى عندما صعد على شجرة التين في ذات صباح. ثم يدخل طورًا آخر مع فاطمة.
النقلة الحقيقية في علاقاته الجنسية، تتحقق مع للّا حرودة التي يعتبرها المراهقون ”مُعلّمة في النكاح”، يمعن في اعترافاته أثناء بدء العلاقة وحالة الخوف التي كان عليها، إلا أنّه يترك نفسه لها تفعل به ما تريد متهمة إياه بأنه “لا يعرف بعد حتى كيف يدخل في المرأة”.
صور كثيرة تطّرد وتكشف هذه العلاقات الجنسية. وهي واضحة في تردده على أكثر من بورديل (بيوت المتعة)، ما يجعله يقارن بين المغربيات والإسبانيات. ثم زوجة مراقب المزرعة المسيو سيجوندي وزوجته مونيك. وكذلك مضاجعته للصبي ابن أحد الجيران الذي أغواه بأنهما سيصطادان عصافير كثيرة “غلام وسيم رقيق يلبس الشورط، بشرته جميلة، وجنتاه موردتان، شفتاه قرمزيتان، صغيرتان”.
تبدو حالة البوح التي تجلّى فيها محمد شكري غير مألوفة على البيئة العربية، إلا أن أهميتها الحقيقية هي أنها كشفت عن سياق اجتماعي وثقافي، دال عن حالة من الفقر المزري الذي عاشه المواطنون، حتى أن أحد أصدقائه التفرسيتي أخبره أن عمّه قتل نفسه وزوجته وثلاثة من أولاده لأنهم “قضوا أيامًا بدون أكل. لم يرد هو وزوجته أن يطلبا من أحد الجيران شيئًا من القوت. بنيا من الداخل، بابًا آخر من الحجر وماتوا”، كما أن الفقر ملمحه في وجوه الناس العبوسة، وفي ثيابهم وفي مساكنهم المبنية بالحجر والطوب.
المرأة والاعترافات
لا تختلف ذات المرأة عن الرجل في حاجتها إلى البوح والاعتراف. فكلاهما يحتاج إلى البوح، وإن كانت المرأة بحاجة أكثر إلى البوح والفضفضة؛ لما تتعرض له من حجر وقيود، تصل إلى حد إنكارها وعدم الاعتراف بما تقوم به. ومع الحاجة الماسة إلى البوح إلا أن الأمر من الصعوبة بمكان في أن تبوح وتعترف مباشرة.
فالمواضعات الاجتماعية وقبلها الدين يعوقان تحقق هذا، ومن ثم تلجأ المرأة العربية إلى القناع عند الاعتراف. وإن كان ثمّة أديبات تميّزن بالجرأة والشجاعة في حالة الإفصاح والبوح على نحو ما نقرأ في مذكرات نوال السعداوي على تعددها: “مذكرات طبيبة” و”امرأة عند نقطة الصفر” و”مذكراتي في سجن النساء”. وفي جميعها تطل ذاتها كأنثى متمردة من الشرنقة النفسيّة والاجتماعية والسياسية، تضع ذاتها دومًا كمقاوم لردة فعل هذا الواقع.
وبالمثل لطيفة الزيات كشفت عن أسباب زواجها الفاشل في “حملة تفتيش: أوراق شخصية” وإن كانت من قبل اعترفت في صراحة نادرة عندما سُئلت عن سبب الزواج منه، فأجابت: “كان أوّل رجل يوقظ الأنثى فيّ” (ص، 61). وكتابة المرأة لذاتها لا يعني أنها مجرد كتابة اجترارية للذات المنفصلة عن الخارج، بل تصبح مطلبًا ثقافيًّا “أي أنها تتعدى أفق الإبداع الأدبي، أو التدوين الذاتي لأجزاء من حياة الكاتبة بأسلوب سردي… إن هذه السير الذاتية النسوية، ستكشف لنا عما هو أبعد من (ذات) الكتابة و(أناها): هنا ستدفع المرأة عن سواها، ما يجب أن يقدموه، فتصبح أناها (وذاتها) معبرًا إلى (ذات) جماعية، وتغدو سيرتها سيرة جماعية، تشهد على مجمل العلاقات في لحظة تاريخية ما”. هذا الدمج بين الأنا الفردية والذات الجمعية نراه في لحظات تأمّل لطيفة الزيات لهذه الذات الفردية التي تسعى لأن تندمج مع ذات الوطن، تقول: “لقد انتمينا لمعسكرين متضادين، وأنا لم أعِ هذه الحقيقة في حينه. ربما وعيتها وغيبتها كما غيبت الكثير من الحقائق، وربما لم أعِها على الإطلاق، جرفني التيار، إذ ذاك عارمًا كاسحًا فلم أعِ شيئًا خارجًا عن دائرة مشروعي لسعادة طال تشوقي إليها”.
لا يخجل العظمة من أن يروي حالة البؤس التي عاشها في طفولته، واستمرّت حتى دخوله الجامعة، فيسرد عن اعتراف الأب بعجزه عن الإنقاق على دراسته، وهو ما توازى مع المهن التي امتهنها قبل أن يصبح طبيبا أو “دكتاتور دوكتور؟ صغير الحجم، ولكنه صاحب سلطات”، فتنقل بين كسّار للحطب، وإسكافي للفوتبول، ونبّاش للقبور. ثم حالة التغيُّرات التي أصابت شخصيته، إلى حدّ الانسلاخ انسجاما مع المرتبة الجديدة، وقد كان لندوب الماضي البعيد أثرها عندما كَبر
في لحظات استعادة الزيات لمسيرة حياتها، وهي موزّعة على الفقد، لإخوتها ودخولها السجن أكثر من مرة، تسترجع شريط ذكرياتها وعلاقتها بأزواجها السابقين فتقول: “كنت أعرف الرجل الذي أحببت وتزوجتُ مُختلِف عني، وكنت على مدى سنين معه قد ضعفت وسلمت بالكثير، وإن لم أُسلّم قط بعقلي، ولا بهذه النواة الصّلبة التي تشكل جوهر وجودي، والتي تمسّكْتُ بها على غير وعي، تمسكي بوجودي”.
ثم يأتي الاعتراف الصارخ: “ولكني أعرف الآن أنني مارست طوال هذه الفترة خداعًا للذات لكي تستمر الزيجة” محاولة تأمّلها لذاتها والنظر في الخسائر والمكاسب تجعل الدكتورة تضع ذاتها في موضع تقييم صحيح حتى لا تخسر المزيد فتعترف “وأعلم الآن أن الثمن الذي دفعته في هذه الفترة من فترات زيجتي الثانية، كان فادحًا يتمثل في رؤية تعسة ومعذبة للوجود، رؤية ترتبت على وضعي كفرد منعزل أمام حائط مسدود، ونبعت من تأثّري، نتيجة لهذا الوضع، ببعض الفلاسفة الوجوديين”.
حالة التقييم والسعي لتوسعة زاوية الرؤية لهذه الذات، تفصل بين ذاتها وأناتها، بلعبة الضمائر، حيث تتحدث عن ذاتها بعد أن تحولها إلى غائب “في مراهقتها عرفت الفتاة فورة الجنس، وبحكم تربيتها وجديتها صادرتها، وفي ظل شعور حاد بالذنب دفنت في أعماقها الأنثى حتى غابت عن وعيها، أو كادت، لا تبدي منها إلا هذا الخجل الذي تستشعره من هذا الجسم الممتلئ الغني بالاستدارات”.
تعترف ليلى العثمان الكاتبة الكويتية بقسوة الوالد عليها. وأنها عانت بسبب حجره لها ومنعها من الكتابة حتى مع زواجها. فتقول: “كنت طفلة غير محبوبة بغير ذنب و(عندي) موهبة يريدون موتها.. عانيت قسوة الأب وقسوة الأم”. وإن كان هذا الأسى الذي عاشته هو الذي خلق منها الكاتبة فعلى حد قولها: “الألم يُساعد على الإبداع″.
البوح عند ليلى العثمان لم يتوقف عند جنس واحد من أجناس كتابة الذات. فقد مرّرت الكثير من الاعترافات في كتابات مختلفة على نحو: بـ”لا قيود دعوني أتكلم”، وهو عبارة عن مقالات. وأيضًا في كتابها “المحاكمة.. مقاطع من سيرة الواقع″ وإن كان الكتاب الأخير موجهًا لمنتقديها والذين أوصلوها إلى المحاكمة.
سيرة الأب هي القاسم المشترك في كافة ما كتبت خاصة أنها عانت منه معاناة شديدة على نحو اعترافها أمام الجمهور في متحف محمود درويش. فالأب كما جسدته في كتاباتها “حاكم عسكري” ومن ثم تصير الحياة في وجوده أشبه بـ “سجن زندا”.
التحرّر من الخوف
تمنح الكاتبة العراقية عالية ممدوح نصَّها “الأجنبية” عنوانًا فرعيًّا هو “بيوت روائيّة”. وهو توصيف جديد لم يسبقها إليه أحد في الكتابة العربية فيما أظن. العنوان الفرعي يحيل إلى مرونة تتسم بها الرواية على مدار تاريخها، حتى عدّها ميخائيل باختين “نوعًا غير منته”.
وعبر هذه الصيغة الجديدة التي تراوح بين المتخيّل والواقعي، ومقاومتها في الكتابة إلى درجة أنها “لا تودّ أن يكون السرد هو الذي يتغلب على الحكاية” (ص، 12)؛ تقدم لنا الكاتبة الكثير من الاعترافات عن واقعها واغترابها ليس عن الوطن فقط،. بل وعن اللغة، لغتها الأم باللعثمة التي لم تفارقها، ولغة الغربة التي عاندتها وهي تتعلّمها، ونفرتها من اللغات جميعًا “ما دام العالم يتحدث لغة واحدة هي لغة الفتك والتدمير والإبادات والمظالم المتوالية”، ثم علاقتها بأبيها المتأزِّمَة حتى أنها تعترف “ما زلتُ أتملّص من أخذ العزاء له، ولو من نفسي وبأثر رجعي”، وصراحتها بأنّ أمها سهيلة أحمد “كانت غير رحيمة”.
كما تكشف عن علاقتها بزوجها الذي يُطاردها ويريدها في بيت الطاعة، ويتفنّن في “توزيع إيديولوجية الطاعة”. ومن شدة المعاناة التي عانتها تقول: “لقد قتلت جميع أفراد أسرتي واحدًا بعد الآخر، ولم أكفّ عن الانتحاب، فقد تكيفت حياتي مع الأسى الشديد، وأنا أشاهد حطام بيتي وهو يتفكك حجرًا بعد حجر وطابقًا بعد طابق كما حصل ويحصل مع بلدي بالضبط”. وهو أشبه بقتل بالمعنى المجازي، في تجردها منهم، والتصاقها بذاتها المُنْهَكة من قِبلهم. وهو ما دفعها لأن تراوغ الأب في مخطوطاتها التي دونتها وجعلته “ينفش صدره كالطاووس، وأنا أتقن نتفه ريشة بعد ريشة حتى تتطاير الريشات أمامي، وأرى الجسد العاري الأسمر وهو ينطوي على نفسه وعلى التباهي قليلاً، فأسمع العظام تصيج بي: كفى… كفى”.
وقد دفعت هذه الاعترافات الجريئة بالدكتور صبري حافظ إلى وصفها بأنها “سيرة ذاتية من طراز فريد على الأدب العربي، تتسم بصراحة مع النفس إلى حد الوجع، وبصرامة مع الوقائع إلى حد القسوة”. وهو ما كان له أثره في سعيها بإصرار “للتحرّر من طقسية أدوار الضحية والبطلة والشهيدة. كنت أستميت في طلب الانفصال، وكان يتفنن في توزيع إيديولوجية الطاعة”، وإكراهات عائلية تطلبت منها الاحتفاظ بحشود من الأسرار دون أن تنبس بكلمة، تعيش في عالم يحيط به “نساء جدّ واقعيات، جلفات القلوب، سمينات يرفعن حواجبهن دائمًا إلى أعلى”، وهو ما أصابها بحالة من الخوف الذي كانت موارده “كافية أن نوزّعها على رجال الدولة العراقية، وشبان العوائل، ونسوان الجيران والأحواش المجاورة”.
ومن شدة انشغال هاجسها بالخوف على مدار النص، تجسّده في صورة مادية وتشم رائحته “تتصاعد من فتحتي أنفي، ومن لعابي الناشف أو اهتزاز عمودي الفقري” فبدا لها رجالاً ونساءً، ذكورًا وإناثًا، خناثًا وحيوانات ونباتات، إلى درجة أن هذا الخوف جعلها تتصوّر أن طليقها “بمقدوره اقتناء نفاثة حربيّة لكي يصلني حيث أكون”.
أبرز الاعترافات التي تسجلها الكاتبة خوفها والذي يأخذ أشكالاً مختلفة حتى أنها تتنكر باسم الفن “كابتكار حيل غير بديهية للتخلص من الخوف”. فهي من “جيل عراقي لم يغادرنا الخوف ولم نغادره”. فيحاصرها الخوف في كل شيء بما في ذلك “الخوف من اللاجمال” فتبوح بأن “أخاها كان بالغ الوسامة والجمال، حتى أن جدتها كانت تخاف عليه من أخطار ذلك الجمال الفائق” بينما كانت هى “تتمايل من قلة ملاحتها” قياسًا بأخيها الوسيم، فقد كانت “آنسة يافعة، تريد من الجمال أن يحضر كي لا تبقى وحيدة، فتضمر سوء الفهم الذي لا يزول بسرعة بينها وبين نفسها، هذا هو الإيذاء القهري الذي كان يتسارع ولا أحد يقدر على التكتم عليه”.
ثم تسرد صدمتها عندما دعتها بلقيس الراوي، زوجة نزار قباني، إلى الغداء معهم بحضور محمود درويش. كانت إحدى المجلات قد نشرت حينئذ تحقيقًا صحفيًا عن الكاتبات الجدد، ومن بينهن عالية التي أصدرت مجموعتها القصصية “افتتاحية للضحك” وبجوارها صورتها الفوتوغرافية، فاجأها الشاعر المضيف بقوله: “ما هذه الصورة المرعبة المختارة بجوار كلامك في المجلة، لقد ظهرتِ أسوأ من صورة السياب”.
تستكمل عالية “أزعم يومذاك أنني صرت داكنة صموتًا لا أريد أحدًا أن يكون معي حتى الجمال نفسه”. تعترف بأن بشاعة واقعها وإكراهاته لها جعلتها تصنع عالمها من الكتابة، فتقول: “أزعم أن التأليف هو الذي أصلح حالي، وحال صحتي، وتقويم تأتأة لساني الشخصي، أفضل من جميع تجارب الحياة والمعيش اليومي المدجج بالكثير من السفاسف والترهات”. كما كان لهذا التأليف دورٌ آخر كما تعلن “في العثور على خوفي الفردي الذي قاومته كي لا يتمكن مني ولكي يدعني أفصل ما بين العشيق والزوج”.
والأهم أنها ترفض التدجين فتقول “كنت أمثّل نفسي ولا شيء غيرها. فأنا لا أمتلك سواها، وهذا أمر جدّ مزعج لأنه يُجافي المؤسسات والمرجعيات. وإذا تذكرت لقبي اللطيف أصلاً، ناشز، وباعتراف مؤسسة قضائية عراقية: فأنا أصلا أعيش خارج صيرورة قوانين الطاعة لجميع المؤسسات العراقية، وعلى رأسها المؤسسة الزوجية. ولست ضالعة مع أية جهة حزبية أيّا كان لونها ونهجها وجبروتها”.
حالة عدم التدجين أو الانصياع التي رفضتها من قبل في بيت الطاعة التي يريدها الزوج وأرسل مكتوبًا إلى القنصلية ترفضها “ففي بلدي كنت أوصم بالجانحة التي تستبيح اللغة، المرجعية، الجماعة، والحزب”. كل هذا البؤس يدفعها إلى الاعتراف “في أي يوم حملت هذا الجواز العراقي كان هو الأسوأ، كلا، لم يكن سيئًا فقط”.
ومن بين الشخصيات التي تستحضرها في نصها، وتدين لها بالولاء عمتهان فكما تقول “كانت الأولى التي شاركتني في لذة اللاطاعة وبدء الفتك بالرقيب الجواني” وتصفها بأنها “كانت مثلي، أحلم بانتهاك المحرمات، محرماتي أنا وأوراقي كما انتهكت هي في يفاعتها الكثير من الممنوعات”. في المقابل تدين الروائي أمين معلوف في أزمتها مع القنصلية العراقية بسبب جواز السفر، فهو “العربي الوحيد الذي لم يورّط أو يكلف نفسه إلا بالسكوت المبرم”.
خاتمة
من خلاصة ما تقدّم فإن الاعترافات على الرغم من القيود والموانع التي كانت أشبه بالحائل في تحققها، إلا أنها تحققت في السردية العربية وإن كان بتفاوت. وكانت المرأة بعكس الصورة الانطباعية عنها، أكثر جرأة وتعرية للذات، وتقويضًا لكافة الأنظمة البطريركية. وقد جاءت الاعترافات في المدونة السردية العربية وفقًا لشكلين؛ الأول صريح سافر، حيث يُعلن الكاتب / الكاتبة وفق ميثاق سيري عن اسمه الخاص، ويسرد اعترافات تدين الجميع بمن فيهم نفسه.
أما النوع الثاني وهو الشائع فيأتي عبر شكل غير مباشر، حيث يتحايل الكاتب / الكاتبة بالقناع وتلبس لبوس شخصيات روائية ليمرّر ما يريد أن يبوح به ويخشى على نفسه من الوقوع تحت إشاعة الفحش أو التحريض على الرذيلة. ومن ثم جاءت روايات تحمل الكثير من سمات مؤلفيها، بل وتستعرض في سرد يمزج بين التخييل والواقعي الكثير من الأخطاء والفضائح التي لم يجرؤ الكاتب / الكاتبة على البوح بها.
الشيء المهم الذي أكّدت عليه الدراسة، أن معظم الاعترافات أدانت الأبوية بكافة أشكالها، وسعت إلى تجريدها من سلطاتها التي مارستها في الماضي. وهناك من تحدت الواقع كما فعلت ليلى العثمان في المحاكمة. وهو ما أكد معنىً مهمًّا مفاده أن الكتابة بكافة أشكالها ضد القيود. وإن وجدت القيود فسوف تتمرد عليها وتتخذ لنفسها صيغًا تعبر فيها عن هذا التمرد. ومن ثم تصبح كتابة الاعتراف بمثابة إعلان تمرد على كل قيد، وسلطة، من أجل أن تتحرّر الذات.
وأخيرًا ترى الدراسة، أنه من الصعوبة بمكان فصل الاعترافات عن كتابات الذات، واعتبارها جنسًا مستقلاً على غرار السيرة الذاتية والمذكرات، إلخ. فالحقيقة أن الاعترافات مندغمة في كافة هذه الكتابات، وأن الكتّاب يمررون اعترافاتهم وهم يسردون جوانب من حياتهم، أو ذكرياتهم وعلاقاتهم بمن حولهم، ومن ارتبطوا بهم في علاقات.