الكتابة المضادة للحرب

الجمعة 2016/04/01
لوحة: ريم سيوف

إذا اعتبرنا الرّواية بقعة أرض في مكان ما من العالم، فلن يكون الرّوائيّ بالضرورة الحتمية هو تراب ذلك الموقع أو غباره الزمني. ثمة اشتباك ما بين الاثنين، ولكن ذلك لا يعني أن الرّوائيّ والرّواية من فلزّ واحد.

لقد كانت الحرب، ومنذ بدايات الخليقة، هي المصدر المرعب والأول لنشوء الرّواية، وكأن الدّم هو المنشأ الأسطوري لنمو هذا النوع الأدبي الذي أتى من الجريمة ومن المسلخ ومن القتل الذي طوّر أدواته، لتتمكن الروايات هي الأخرى من تطوير أساليبها لخلق النموذج الأعظم والقاسي لموت الكائن البشري على هذه الأرض- الرّواية.

إن أي فشل روائي – شعري – فني – ثقافي عمومًا، ينجم عن ضعف في وظائف الحداثة داخل المجتمعات العربية المائلة نحو الهاوية بسبب أثقال الماضي وجاذبية التراث غير المتفق عليه أيديولوجيًا ومذهبيًا وثقافيًا.

لذا فالحداثة التي لا تقوم بملء فراغات العقل، تتسبب بجعل اللغة بمختلف فنونها، كيانات تائهة، وبالتالي يمكن لأيّ عوامل خارجية رصد تلك الفجوات وسدّها بمدخرات القوى النائمة للتيارات المضادة للحضارة وروحها النهضوية.

فشل الحداثة في العالم العربي الآن، يوفّر فرصة نزول مختلف الدكتاتوريات الحمراء لتعبئة كراسي الملائكة الفارغة، وترى قوى الظلام بالتالي ضرورة تنزيل الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي والجعفري والزيدي والإباضي والظاهري والأرثوذكسية والكاثوليكية والبروتستانتية والأدفنتستية وشهود يَهْوَه والنسطورية والمارونية والسريانية في فجوات لغتنا، وصولًا إلى ردم أنابيب الدّم بالإسمنت، وحتى لحظة إدخال الشعوب بجهنميات الحروب الأهلية المتفرقة الأولية، قبل وصول الجميع إلى الجهنم الأم. وتلك هي لحظة الغرق بفحولة النار.

ليس الخروج من الصمت سهلًا، بعد تراكم الخراب الذي لحق بنا ونحن على صفحات الجغرافيا العربية. فتراكم الصمت بفعل القسوة والذهول، سرعان ما شيّد خرسانته بين شقوق اللحم البشري، دون استثناء.

ولذا نجد أن كتّاب الرّواية قد أُثقلوا بنوع نازي شبحي من تلك الخرسانة الدّموية بمشروعها التخريبي التقتيلي الشامل، بحيث انفلتت جيولوجية الخراب الجنوني، لتنتقل من الأرض إلى خزائن العقل وصفحات الحواسّ، وهو ما جعل الكتابة عن الدّم والظلام والألم والنزوح، أمرًا بالغ الصعوبة والتعقيد.

كنت أشعر بأن الكتابة عن الحرب في سوريا، لا تتطلب جهدًا استثنائيًا للتعاطي مع الأحداث وحسب، بل يكون على الرّوائيّ مهمّة شق الطريق نحو اللغة العسكرية أولًا، للانخراط بالأتون السوري، كي يتلافى التيه، ولا يضيع بين طبقات أحداث ثقيلة، لم يتوقّع أحدٌ أن تكون أوزانها بهذا الحجم من كتل الدّم والجريمة والتخلف. ثمة قتل جاهلٌ. وثمة قتلةٌ جاهليون.

لقد أصابت روايةُ الواقع الأرضي، روايةَ الورق – الذهني بشظية في العمق، سرعان ما أدّت إلى احتراقها برأس مؤلفها، كصانع ثانٍ، لم يتمكن من تحميل النص بكلّ ما ينتج عن الموت من أساطير وقصص وروايات من منتجات الاستبدادين: السّياسي والدّيني.

لقد مارستُ الكتابة المضادة للحرب بمختلف أشكالها في جميع رواياتي: كتبت ضد حرب الهجرة والتهجير والفاشية في روايتي الأولى “التأليف بين طبقات الليل”. وكتبت بالضد من إرهاب الدولة للفرد في روايتي الثانية “الحمّى المسلحة”. وكتبت بالضد من الحرب العنصرية الاستعلائية في روايتي الثالثة “اغتيال نوبل”. وكذلك كتبت بالضد من صعود الدكتاتوريات الشرقية ببعدها الدّيني الفاشي في الغرب، لتبرير الانقلابات العسكرية وجعلها أمرًا ممكنًا، كما جاء عن ذلك في روايتي “ديسكولاند”. هذا إلى جانب روايتي الأخيرة “سائق الحرب الأعمى” والتي تناولت حرب الخليج الثانية.

ومن كل هذا وذاك، أصبح الدّم جزءًا من بنية الرّواية العربية، ربما لأنه بات الدينامو الذي يمنحها بروتينات النمو والانتشار في ذهن القارئ العربي القلق الميت. القارئ المُفجَع الجائع. القارئ المشرد المقهور. القارئ الجريح المُستَلب. القارئ كشريك حرب ودمار وهجرة وتبدد وعذاب رغْم أنفِه.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.